الباحثون عن سلام.. رحلة المصريين مع العلاج النفسي في عهد كورونا (تقرير)
كتبت- دعاء الفولي:
رسوم- سحر عيسى:
أداء صوتي- أحمد لطفي وشيماء حفظي:
كان شهر إبريل الماضي عاصفا. لم تستطع روان قابيل التعامل مع طاقة الحُزن؛ تنام طوال الوقت، وحينما تستيقظ لا تتحمّل أي أصوات محيطة، بلغت التقلبات المزاجية أقصاها، عندها فقط؛ قررت الاتصال بطبيبتها، عادت لجلسات العلاج النفسي، تلك المرة عبر الإنترنت.
لم يُصب فيروس كورونا المستجد أجساد ما يزيد عن 80 ألف مصريا فقط؛ ترك آثارا نفسية في المصابين ومن لم يمسسهم المرض، كُبر الخوف داخل من يتلقون علاجا نفسيا قبل ظهور كوفيد-19، فيما أصبح مسار العلاج النفسي في مصر التي يُعاني 25% من سكانها أمراضا نفسية-حسب مسح الصحة النفسية 2018- مختلفا لحد ما، تعين على البعض استكمال رحلتهم مع العلاج عبر الإنترنت أو الهاتف، آخرون حوصروا؛ فلا هم يستطيعون التواصل مع أطبائهم مباشرةً، ولا يمكنهم استكمال الجلسات عبر الإنترنت.
قصة روان مع العلاج النفسي بدأت إبريل 2019، بعد 4 أشهر من وفاة شقيقها بمرض السرطان. شُخصت باضطراب ما بعد الصدمة ثم الاكتئاب "مكنتش قادرة أتقبل وفاته ولا حتى أزعل عليه"، لم تطلب صاحبة الـ22 عاما المساعدة إلا بعدما داهمتها الأفكار السوداوية "وبعضها كان انتحاري"، حصلت على متابعة طبية، مضادات اكتئاب ومثبتات مزاجية بالإضافة لمنهج العلاج السلوكي المعرفي.
خلال العقدين الماضيين، أُجريت دراسات علمية على أمراض مختلفة حول فعالية العلاج النفسي عبر الإنترنت؛ الاكتئاب، اضطرابات النوم، واضطراب القلق المرضي الذي أجرى عنه فريق من معهد كارولينسكا بالسويد دراسة، لمعرفة هل يمكن للعلاج السلوكي المعرفي عبر الإنترنت أن يكافئ نفس المنهج وجها لوجه، أُقيمت التجربة السريرية في عيادة رعاية أولية على 204 ممن تم تشخيصهم بالقلق المرضي ونُشرت في 13 مايو الماضي بمجلة الجمعية الطبية الأمريكية (جاما).
لم يكن دافع الدراسة المقارنة فقط، بل نبش ما إذا كان العلاج عبر الإنترنت يوفر المال، حسبما يقول الباحث الرئيسي في الدراسة لمصراوي، دكتور إيرلاند أكسيلسون، ففي الوقت الذي يستجيب فيه ثلثا المصابين للعلاج، قد لا تتوفر لبعضهم سبل المتابعة وجها لوجه، إما لأسباب اقتصادية أو جغرافية، لذا وخلال 12 أسبوعا فترة الدراسة، تم تخيير المرضى لتلقي العلاج السلوكي إما عبر الإنترنت أو وجها لوجه "اتبعنا نفس طريقة العلاج في الحالتين، فقط كان الاختلاف في طريقة تواصل المريض مع الطبيب".
أظهرت الدراسة نتائج واعدة، حسبما يسرد الباحث بمعهد كارولينسكا "وجدنا أن العلاج عبر الإنترنت ليس أقل شأنا من العلاج وجها لوجه في حالة القلق المرضي"، يسمح العلاج الإلكتروني للمعالجين مساعدة عدد أكبر من متلقي الخدمة، أما عامل الأمان فتم أخذه بعين الاعتبار "تم العلاج عبر منصة آمنة يحصل المرضى على تدريباتهم من خلالها"، كما يتواصلون بشكل شبه يومي مع الأطباء عبر إرسال بريد إلكتروني، ورغم بدء الدراسة وانتهائها قبل كوفيد-19، لكن الباحث يُثمّن دورها "لأنه حتى إذا تم إتاحة العلاج وجها لوجه في الوقت الحالي فلن يُفضل بعض المرضى المخاطرة".
تدرس روان بكلية الطب البشري جامعة المنيا، تقطن بمدينة بني مزار، اعتادت الذهاب لطبيبتها مرتين أسبوعيا على بُعد ساعة بالسيارة "مشوار بياخد وقت وجهد وأحيانا كنت بضطر أفوت حاجة في الجامعة عشانه"، لم تتحمس لتجربة العلاج عبر الإنترنت حتى بعد انتشار كورونا، لكن اقتراب دائرة الخطر منها "خلاني أتفزع على نفسي وعلى أهلي وأرجع للعلاج".
على عكس روان، لم يتسن لشادية محسن استكمال علاجها خلال الأشهر الماضية. تعيش صاحبة الـ45 عاما بالإسكندرية، منذ حوالي 13 عاما شُخصت باضطراب ثنائي القطب "روحت لدكاترة كتير وأخدت أدوية غلط ودا خلى حالتي أسوأ"، خلال تلك السنوات تأقلمت الأم لابنين مع مرضها المزمن "باخد مثبت مزاج ومضاد للذهان بجانب العلاج السلوكي المعرفي"، لكن ما أن انتشر فيروس كورونا حتى تغيرت الظروف.
"دكاترة كتير قفلوا عياداتهم بعد الفيروس"، كان البديل لشادية هو العلاج عبر الإنترنت "بس للأسف دا كمان مش متاح لأن الناس في البيت مش داعمين ليا، مقدرش أخد جلسات في وجودهم". لم تشرح السيدة لزوجها طبيعة المرض "بقول إنه اكتئاب"، تتذكر الأشهر الأولى للنوبات "مكانوش راضيين أروح لطبيب عشان كلام الناس والوصمة"، لكنها حسمت أمرها وذهبت دون علمهم، ومع الوقت تقبلوا الجلسات على مضض "بس مش المرض".
الآن تشعر شادية أنها تُعاني من انتكاسة نفسية، تستعين بمجموعة لمرضى الاضطراب ثنائي القطب على موقع فيسبوك لتحصل على دعم نفسي، تتبع الإرشادات التي يكتبها البعض "زي البعد عن نشرات الأخبار وتجنب سماع أعداد الوفيات والمصابين دايما"، فقدت الكثير بعد الفيروس "كان النزول للشارع في حد ذاته جزء من روتين العلاج، دلوقتي الحركة أصعب والقلق أعلى"، تمر أحيانا بنوبات غضب غير مبررة "ولما أقدر أتكلم ممكن أعمل عشر مكالمات في اليوم لأصدقائي عشان أشتكي لهم من المرض وفيه أيام بتعدي مش بقوم من السرير".
العلاج عبر الإنترنت ظل مطروحا دائما لدى الطبيب النفسي، محمد فتحي. اعتاد إعطاء بعض الجلسات بجانب العلاج وجها لوجه، قبل إغلاق عيادته الموجودة في قلب القاهرة، مارس الماضي "خُفت على الناس خاصة اللي بييجوا من أماكن بعيدة". حوّل نشاطه للواقع الافتراضي، يساعده السكرتير في تنسيق المواعيد، وإيجاد منصات آمنة "واللي مبتكونش عادة برامج معروفة للناس وبعضها مش مجاني ودا مُتعب بس مهم عشان المريض يطمئن".
لم يختلف سعر العلاج عبر الإنترنت عن المباشر بالنسبة لروان، خاصة أن الجلسات كانت في مستشفى حكومي "سعرها 50 جنيه في الحالتين.. بس فلوس المواصلات والحركة كانت بتكلف أكتر"، غير أن سلوى إيهاب كانت تدفع خمس جنيهات فقط مقابل العلاج بمستشفى الزهراء الجامعي بالعباسية "والأدوية مجانية"، لذا منذ تحويله لمستشفى عزل، لا تجد مكانا بديلا للعلاج.
قبل 3 سنوات، لاحظت ربة المنزل تغيرا كبيرا في شخصيتها، أخبرها الأطباء بإصابتها بالاضطراب ثنائي القطب، ظل البحث عن مُعالج مقابل ثمن زهيد "حاجة مستحيلة.. كنت بدفع في الجلسة على الأقل 200 جنيه"، لم تكن ميزانية السيدة التي ترعى ولدين بعد انفصالها عن زوجها تتحمل "لحد ما دكتورة قالتلي على مستشفى الزهراء". تزور سلوى المستشفى بشكل شبه أسبوعي منذ عام، تتناول صاحبة الـ38 عاما مثبتات مزاجية وأدوية مُضادة للاكتئاب ومهدئات "كنت بدفع 500 جنيه شهريا للأدوية"، فيما باتت تحصل عليها دون مقابل من المستشفى.
مطلع يونيو الماضي انقلب المستشفى التابع لجامعة الأزهر لمستشفى عزل "وفي نفس الوقت دا ظهرت إصابات عند ناس قريبين مني فقررت مروحش"، تمتلك سلوى أدوية من زيارتها الأخير قبل حوالي شهر ونصف "بس للأسف قرّبت تخلص"، حل اللجوء لعيادة طبيب أو العلاج عبر الإنترنت ليس واردا، فلن تغطي ميزانيتها التكلفة، تراقب بقلق حالتها النفسية "بتمنى أقدر أرجع المستشفى تاني قبل ما أتعب أو يحصل لي انتكاسة".
حتى الآن، لم تثبت الدراسات وجود آثار سلبية للعلاج الإلكتروني، حسبما تقول إيفا هايم، الباحثة في القسم النفسي بجامعة زيورخ، ربما يظهر الشق الأضعف في مدى جودة وأمان المنصة التي يتعامل من خلالها الطبيب والمريض "لكن عوامل الحماية تتطور وقد لا نجد أزمات في العلاج عبر الإنترنت مع الوقت".
دراسات متنوعة بنفس المجال شاركت فيها الباحثة إيفا؛ في سبتمبر 2018 نشرت وآخرون نتائج دراسة بمجلة جامعة كمبريدج لمعرفة مدى تأثير العلاج عبر الإنترنت على مصابي اضطرابات النوم، تمت الدراسة على 65 مشاركا تم تقسيمهم لمجموعتين، إحداهما تتلقى العلاج عبر الإنترنت "وجدنا على مدار 12 أِسبوعا أن العلاج السلوكي المعرفي عبر الإنترنت يمكن أن يكون له تأثيرات جيدة على المدى الطويل".. تقول الباحثة لمصراوي، مستطردة أن العلاج عبر الإنترنت لن يحل مكان المباشر"العلاج الإلكتروني متعلق بتضييق الفجوة لمن يحتاجون طبيب نفسي خاصة في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل وليس الهدف إزاحة العلاج وجها لوجه".
في نفس عام الدراسة التي شاركت فيها إيفا، أطلقت منظمة الصحة العالمية برنامج "خطوة بخطوة"، لترسيخ العلاج النفسي الإلكتروني في بلدان مختلفة. كان لبنان من أوائل الدول المشاركة عالميا، قامت الباحثة جينين أبي رامية، التي تعمل بوزارة الصحة اللبنانية، مع آخرين باتباع مجموعة خطوات وضعتها المنظمة "حتى يضمنوا إنه هذه البرامج ملائمة للبنان"، تقول الباحثة لمصراوي.
يتلخص تطبيق البرنامج في 3 مراحل؛ أولها قياس مدى تقبل المجتمع اللبناني لفكرة تلقي العلاج عبر الإنترنت "كانت استجابة الناس جيدة جدا خاصة إنه 90% من المجتمع ليس لديه فرصة وصول للطبيبة النفسي"، ثم تأتي الخطوة الثانية المتمثلة في صياغة برنامج ملائم للمجتمع المحلي اللبناني والذي يضم جنسيات أخرى، أغلبها سورية وفلسطينية، والخطوة الأخيرة التي يعمل عليها الباحثون حاليا هي وضع الشكل النهائي للبرنامج وبدء التنفيذ بالتنسيق بين المنظمة ووزارة الصحة.
فكرة برنامج "خطوة بخطوة" موجهة لمرضى الاكتئاب "تقوم على منصة إلكترونية يتابع من خلالها المريض مجموعة تدريبات تساعده في العلاج "بالإضافة لاتصال أحد المتخصصين به أسبوعيا لمعرفة رد فعله"، ومن خلال اختبارات متاحة يقيس الباحثون مدى استجابة المريض للعلاج "أهمية البرنامج إنه كتير من اللبنانيين يعانون الوصم بسبب المرض النفسي، خاصة اللي مش عايشين ببيروت بالتالي مش هيضطروا يروحوا لدكتور"، ورغم أن لبنان له الريادة في تطبيقه، لكن دولا عربية أخرى على الأجندة المستقبلية للبرنامج.
في مصر، كان لمنصة "شيزلونج" الإلكترونية السبق منذ عام 2015، أسسها المهندس أحمد أبو الحظ، بعدما تعرض لحادث أفقده القدرة على السير لفترة "كنت بدور على طبيب يتابعني أونلاين ملقتش فاضطريت ألجأ لحد من أمريكا"، كانت تلك اللبنة الأولى لموقع شيزلونج الذي يزوره حاليا حوالي 70 ألف مستخدم يوميا للحصول على جلسات علاج نفسي مع متخصصين عبر الموقع، إذ تضاعف عدد زيارات شيزلونج منذ مارس الماضي "كورونا خلى الناس يدوروا على المساعدة بأي طريقة"، على حد قول أبو الحظ.
تأقلمت روان مع جلساتها الإلكترونية، تتبع نصائح طبيبتها "ألبس لبس خروج وأقعد في مكان هادي ومريح نفسيا ليا"، حاولت توفير أكبر قدر من الرسمية للجلسة "بس كنت متوترة في الأول لأني قاعدة مع أهلي"، فرغم الدعم الذي تتلقاه منهم "مكنتش عايزاهم يسمعوني أو يشوفوني وانا بعيط"، شددت عليهم ألا يقاطعونها، تلجلجت في المرة الأولى، ضايقها بطء الإنترنت وتخوفت من مدى سرية المنصة "بس دا كان البديل الوحيد قدامي عشان متعرضش لانتكاسة نفسية".
بعد اندلاع أزمة كورونا، دشّنت الأمانة للصحة النفسية خطين ساخنين للدعم النفسي وتخصيص بعض الجلسات النفسية عبر الإنترنت.
لم يتوقف الأمر حد ذلك، فمنذ حوالي شهر، أطلقت وزارة الصحة المصرية بالتعاون مع شيزلونج مبادرة "ماتشيلش هم" لتفعيل العلاج النفسي الإلكتروني عبر منظومة التأمين الصحي "بدأنا بتطبيق الفكرة في محافظة بورسعيد" حسبما يقول أبو الحظ، إذ ينشئ المتخصصون منصة لتلقي العلاج النفسي والحجز برقم التأمين فقط.
مع استمرار الجلسات، تقبلت روان ما تمر به "بقى ينفع أحس بإني مبسوطة شوية من غير تأنيب ضمير عشان أخويا"، أخبرتها الطبيبة أنه ليس عليها إنجاز الكثير خلال فترة الجائحة "كوني ماشية على العلاج وبحاول أمارس حياتي دا كويس"، فيما قررت ألا تعود للعلاج وجها لوجه، حتى بعد عودة الحياة بشكل كامل في مصر.
ذلك أيضا ما قرره المهندس المعماري ماجد سعيد، إذ يحصل منذ شهرين على جلسات العلاج عبر الهاتف "حاسس إني مرتاح ومش مضطر ألبس وش او أتوتر وانا بحكي عن مرضي"، يُعاني الشاب من اضطراب الشخصية الحدية "كنت مدمن وتعافيت من سنين"، لم يكن ليفكر في ذلك الطريق لولا الفيروس المستجد، قاطع الأطباء منذ فترة "عشان مش عايز أخد أدوية ولما رجعت اتفقنا إني أمشي على علاج سلوكي معرفي".
مازالت التجارب العلمية تستكشف مدى فعالية العلاج النفسي عبر الإنترنت، ففي يناير 2020، نشر فريق بحثي من جامعة تورنتو الكندية دراسة في مجلة جاما تم إجراءها على 460 شخصا يعُانون من أعراض اكتئابية ويتابعون العلاج وجها لوجه، قبل أن يُضاف العلاج السلوكي المعرفي عبر الإنترنت لروتين المساعدة المقدم إليهم، كان ذلك داخل إحدى العيادات المتخصصة في كلورادو، تم تقسيمهم لمجموعتين، الأولى تتناول العلاج بشكل مباشر فقط، فيما تتابع الثانية وجها لوجه بالإضافة للتواصل مع المتخصصين هاتفيا وعبر الإيميل. وعقب 15 شهرا من الدراسة، وجد الباحثون أن آثار العلاج عبر الإنترنت بالإضافة للعلاج التقليدي خففت الأعراض الاكتئابية بصورة أكبر من العلاج العادي فقط.
مطلع يوليو الجاري، شق التعايش طريقه لحياة المصريين؛ عادت روان للدراسة في الجامعة "خايفة جدا، دايرة الفيروس قريبة لدرجة إن رئيسة القسم عندنا جالها كورونا"، تُفكر في عدم العودة لمنزلها حتى نوفمبر القادم بعد انتهاء الفصل الدراسي "على الأقل أضمن إني مش هعدي حد"، تتداخل المخاوف بعقلها مع الذكريات، تعاني أحيانا من الأرق والنوبات الاكتئابية، لكن العلاج يساندها "عشان كدة مكملة فيه بأي طريقة".
*أسماء مُتلقي العلاج الواردة تم تغييرها بُناءً على رغبة أصحابها
*هذا التقرير مُنتج في إطار مشروع الصحافة العلمية "العلم حكاية"، الذي ينظمه معهد جوته، والهيئة الألمانية للتبادل العلمي (DAAD)، وبدعم وزارة الخارجية الألمانية.
فيديو قد يعجبك: