موت ووصم و"خراب ديار".. كيف زار كورونا 48 شخصا من أسرة مصرية؟
كتبت-دعاء الفولي:
أداء صوتي-شيماء حفظي:
غُلاف-مايكل عادل:
لم يذهب نصر الخضري لزيارة قبر والدته حتى الآن، لكنه يرى وجهها في كل مكان، يستحضر صاحب الـ47 عامًا صوتها، يدها الحانية وقوّتها في الأخذ بزمام الأمور، ينكمش على نفسه إذ يتذكر تفاصيل رحيلها 7 إبريل الماضي، كيف تنقل حتى منتصف الليل بين القليوبية وطنطا كي يسمح له جيران المقابر بالدفن، تُزعجه ذكريات اليوم، يستعيد صراخ أحدهم إذ يقول "مش هندفن حد عنده كورونا.. احنا بلدنا طاهرة". تلك الساعات الطويلة كانت البداية فقط لمسار العائلة مع فيروس كورونا المستجد.
حين يجلس نصر لأحد أقاربه، تدور سيرة ما حدث في أسرة "الخضري"، لا يعرف أحد كيف أُصيب الشقيق عبدالرؤوف الخضري، لكن العدوى انتشرت كالنيران، أصابت 48 شخصًا من العائلة، بعضهم رحل عن الدنيا بسبب المرض، آخرون داهمهم الحزن وضاقت عليهم جدران المستشفى بعدما مكثوا داخلها 45 يوما، ثالث تم تسريحه من العمل بسبب إصابته بالفيروس، سيدة وضعت مولودها الأول بالحجر، وأخرى مازالت تجد النفور في أعين المحيطين وسلوكهم رغم تعافيها، لسان حالهم "خليكوا بعيد عننا". مصراوي جمع روايات خمسة من أفراد الأسرة التي مسّها الفيروس.
بيت عائلة الخضري يتنفس ألفة، بُني في منطقة بهتيم، بمحافظة القليوبية، سكنه الأشقاء الأربعة وأسرهم؛ عبدالرؤوف، عبدالفتاح، هشام ونصر، فيما كان للأم الراحلة غالية عبدالوهاب مسكنا فيه، يرعاها الجميع، يتزاور الأخوة ليطمئنوا على بعضهم "خاصة إن بينا وبين بعض كل واحد سنتين فرق"، يمرون على الوالدة، يأتي أبناؤهم المتزوجون أو إحدى الشقيقات "إحنا أربع ولاد وأربع بنات، إخواتنا البنات عايشين في مناطق مختلفة بس قريبة مننا".
خلال أيام أمسك الفيروس بتلابيب العائلة "لما أخويا عبدالرؤوف صدره تعب أول إبريل روحنا التأمين الصحي"، قيل للأخ وقتها أن التشخيص "نزلة برد واقعد في بيتك"، لكن تفاقم التعب دفعهم لعمل أشعة مقطعية بمستشفى حميات إمبابة "مفيش يومين أمي تعبت وبعدين أخويا عبدالفتاح وبعدين هشام وبعدين واحد ورا التاني".
تُوفيت الوالدة عقب وصولها المستشفى يوم 6 إبريل "أصعب يوم عدى عليا في الحياة".. كانت وصيتها لنصر وأشقائه أن تٌدفن في مسقط رأسها بمدينة السنطة بالغربية، لكن ذلك لم يُتح بسبب تصريح الدفن الذي خرج من بهتيم، استسلم الأقارب للواقع "روحنا ندفنها في بهتيم الناس وقفت لنا.. كأننا جايين نموّتهم".
كان المنظر مهيبًا، حوائط بشرية استقرت أمام المقابر، لم يفهم نصر وشباب العائلة إلا بعدما رأوا الغضب على الوجوه "توسلنا ليهم بربنا وبالإنسانية يسيبونا ندفن بس محدش ساعدنا"، قررت العائلة إحضار قوة من قسم شبرا الخيمة ثان "بس مقدرناش نعمل حاجة مع الناس"، تحرك الجمع تجاه طنطا، ليجد جدارا آخر من المنع "قولتلهم دا أمي خيرها على الكل.. وأنتوا عارفين عيلتنا"، حاول أحد أفراد الطب الوقائي طمأنتهم دون فائدة "كأن المريض هو اللي عمل الفيروس في البيت".
بعد ساعات من الأخذ والرد ذهبت الأم لمثواها، في اليوم التالي دخلت العائلة دوّامة عمل المسحات، زادت أعراض الأشقاء عبدالرؤوف وعبدالفتاح وهشام، تحرك سيد الابن الأكبر لنصر رفقة شباب الأسرة لمعرفة إمكانية عمل المسحات "مكنش سهل.. روحنا مستشفى بهتيم وعددنا كان كبير وعملوا لجزء مننا.. وبعدها الباقي طلع على مستشفى المرج"، يومها عاد سيد لمنزل العائلة، مخبرا إياهم أن الجميع عليهم الخضوع للفحص.
خلال أيام، دخل نصر مستشفى كفر الزيات، رفقة زوجته وابنته وزوجها وابنه وآخرين، توزعت البقية بين مستشفى طنطا الجامعي، والمنصورة الجامعي، بدأت رحلتهم داخل العزل، فقدوا خلالها الشقيقين عبدالفتاح وهشام "معرفناش نخرج ندفنهم.. لدرجة إن أخويا هشام انا لسة عارف مدفنه فين من كام يوم، صعب عليا إنه يتدفن في مقابر صدقة"، استسلم المصابون للأمر الواقع، يحكي سيد ابن نصر "كنا في أول ألف إصابة في مصر.. الموضوع يخوّف إنك مش فاهم تعمل إيه ولا تتعامل إزاي"، قرر صاحب الـ25 ألا يخضع للقلق، لاسيما وأن زوجته كانت حاملا قبل دخول المستشفى، وكذلك شقيقته ياسمين، صنع شبكة مُحكمة من التواصل اليومي بين أفراد العائلة "عشان الجزء النفسي كان مهم لينا كلنا".
عبر جروب واتس آب تواصلت الأسرة، يحكي كل منهم تفاصيل يومه، لحسن الحظ أن أعراضهم كانت بسيطة "ولحسن الحظ برضو المستشفيات كانت فاضية وقتها وفيه اهتمام كبير بحكم إن العدد قليل" يروي نصر أن مستشفى كفر الزيات كانت تتجهز لاستقبال حالات كورونا عندما التحقوا بها "كنا أول ناس تروحها والطقم الطبي كان شايلنا في عينيه"، تلك الفترة رغم صعوبتها امتلأت بالدعم "نسيتنا شوية اللي حصل ساعة أمي".
كان الخوف رابضا بقلب ياسمين نصر، دخلت المستشفى قبل خمس أيام من الولادة "مكنش عندي أعراض بس مش عارفة هيحصل إيه لابني وليا"، لم يترك الفريق الطبي فُرصة إلا واغتنمها ليهون على الشابة "لدرجة إنهم عملولي عيد جوازي انا ومحمد جوة المستشفى واحتفلنا"، كانت تلك ذكرى العام الأول للزوجين "كنا بنضحك عشان هنفضل فاكرين أن أول عيد جواز قضيناه جوة المستشفى"، تحفظ ياسمين ذلك الجميل للعاملين، كما تمتن لما فعله الطبيب إبراهيم الدسوقي الذي أجرى لها عملية الولادة.
قبل الولادة بساعات، ضاق تنفس ياسمين "من التوتر مش الفيروس"، حدث ذلك بعدما تخوف بعض الأطباء من إتمام عملية الولادة لها "كنا على أعصابنا"، إلى أن تطوع الدسوقي "كلموه وجه وبقى يقولي البيبي كويس متخافيش ولما يامن جه للدنيا خلاني أشوفه عشان أهدى وأعرف اتنفس"، فيما بعد علمت الشابة أن الدسوقي مُصاب بحساسية في الصدر "ورغم كدة وافق يوّلدني ومكانش قايل لحد من أهله"، بعد نظرة الأم للصغير "أخدوه الحضانة مكانش مصاب بس معرفتش أحضنه إلا بعد شهر ونص لما خرجت من العزل"، كانت تذهب لتشاهده من بعيد، وحينما جاء موعد خروج الأب، أخذه معه للمنزل ليرعاه بمساعدة نساء العائلة.
داخل عائلة الخضري، لم يُفرق كورونا بين مُسن وطفل، كانت الأم "غالية" أكبر المصابين في الثانية والسبعين، فيما عُمر أصغرهم 6 أشهر فقط وهو أحد الأحفاد، تفاوتت أوقات بقائهم داخل المستشفيات، خرج نصر عقب 11 يوما من الإصابة، لحقت به زوجته ثم ابنه سيد وزوجته بعد سلبية المسحات مرتين متتاليتين، لكن الحياة لم تعد كما كانت، فعندما عاد أهل البيت الكائن ببهتيم، ظنوا أن "الناس هتشيلنا على راسها بعد اللي شوفناه"، لكن مأساة الخوف من العائلة استمرت.
في أحد أيام العزل، تلقى محمد اتصالا هاتفيا من صاحب عمله "محمد معلش لما تخرج شوف شغل تاني عشان الظروف الأيام دي صعبة ومش هينفع ترجع"، نزل الأمر على الشاب الثلاثيني كصاعقة "كنت بلف حوالين نفسي، طب ابني اللي لسة مولود؟ طب وطلبات البيت؟"، التحق الزوج بعمله الأخير في أحد المطاعم السياحية يناير الماضي، لطالما كان وياسمين يحسبان كل قرش ينفقانه "الدخل الشهري بتاعي تقريبا 3000 جنيه.. كنت بدفع 2500 بين جمعيات وإيجار والباقي يا دوب بنمشي بيه"، كان ذلك قبل وصول يامن للحياة.
عندما عاد محمد للمنزل رفقة طفله، أدرك حجم المشكلة "الولد لوحده محتاج 2000 جنيه شهريا"، بحث عن عمل مؤقت "نزلت اشتغل على توكتوك من ستة الصبح لـ3 العصر"، كان صافي المبلغ الذي يحصل عليه يوميا لا يتعدى عشرين جنيها "طب على إيه البهدلة، دا ميجيبوش حق البامبرز بتاعة يامن"، حاول العودة لعمله القديم، أخبرهم أنه تعافى تماما، ويمكنهم رؤية نتيجة المسحات "بس مرضيوش يرجعوني"، كان ذلك في مايو الماضي، عندما أعلن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، ارتفاع معدل البطالة من نهاية مارس لنهاية إبريل إلى 9.2%، بعدما كان 7.7% خلال الربع الأول من العام الحالي.
كابوس البطالة أحاط رجال العائلة، يحكي نصر عن قريب آخر له تم تسريحه من العمل خوفا من التعامل معه "رغم إنه مكنش مصاب"، فيما هو شخصيا طاف بحثا عن وظيفة ليعوض بها الخسائر المادية "رحلة دفن أمي والصرف على نفسنا جوة المستشفى قسمت وسطنا". كان نصر يعمل بشكل حُر "على باب الله زي ما بيقولوا"، لم يستطع الأب الأربعيني الحصول على عمل منتظم "عشان فيه عجز بسيط في عيني الشمال"، كان ما يحصل عليه شهريا سواء المعاش أو من العمل لا يتعدى 2000 جنيها، فيما وجد الابن سيد عملا جديدا بعد تركه مستشفى العزل بحوالي شهر ونصف.
بحذر شديد، بدأ نصر يغادر منزله مؤخرا، تتناسى زوجته ما حدث معها، لكن الزوج يتذكر كل شيء "اللي وقف معانا واللي موقفش.. التعب بيّن لنا ناس كتير"، حين تأتي سيرة كورونا، تشتعل غصة في قلب محمد، زوج الابنة "ناس من عيلتي خافوا يشوفوني بعد ما خفيت، الأغراب كانوا أحن علينا"، مازال على تواصل مع فريق مستشفى كفر الزيات "بتصل بيهم كل فترة أشكرهم على اللي عملوه".
دُفن شقيقا نصر ووالدته في 3 أماكن مختلفة "في طنطا وبهتيم والمرج"، جرحٌ عميق استقر بقلبه "لو كان كورونا جه على تعبنا أو موت حد فينا من غير بهدلة كان هيبقى أهون"، يستعيد نصر مزاح والدته إذ يمر بها يوميا ليُقبّل يديها ويجلس إليها "شوفتها قبل الوفاة بكام ساعة، لو كنت أعرف إنها هتمشي كنت حضنتها ومش مهم الفيروس"، يُلملم الابن شتات حياته منذ ترك المستشفى، كانت ابنته ياسمين آخر المغادرين من العائلة في 23 مايو "أتقل فترة في حياتي.. اتنقلت في نص مايو لمستشفى طنطا الجامعي وفضلت لوحدي"، كانت ياسمين تُزجي أوقات الوحدة بالجلوس على باب غُرفتها من الداخل والتحدث لجيرانها في الغرفة المقابلة، يتراءى لوالدها المنحة رغم ما يمرون به "بقى عندي حفيد الحمد لله"، ينتظر الجد يامن ليكبر، كي يخبره ما ألمّ ببيت العائلة الدافئ، كيف ظلت التجربة حية داخلهم، ترافقها ذكرى الثلاثة الذين رحلوا.
فيديو قد يعجبك: