إعلان

أهل المحبة (5)- الذين عادوا من السماء (بروفايل)

01:34 م الثلاثاء 28 يوليو 2020

كتبت-دعاء الفولي:
حين عبرت باب المسجد، لاح كيان أسود ضخم، عكس الذي رأته في التلفاز، أطلقت شهقة تعجب، قالت "الكعبة كبيرة أوي"، رفعت ذيل جلبابها لتسبق السائرين، أوشكت على السقوط ثلاثًا، فجأة تيبّست قدماها قبل أمتار من الحجر الأسود، الزحام يدفعها بعيدا عنه، كأنما رفعها الخلق وطافوا بها، عيناها مازالت مثبتتين على البيت الحرام، لم تبكِ؛ حجب الجلال دموعها، أدّت المناسك دون خلل، مرت الساعات دقائق، تمنّت الموت الآن على تلك البقعة، لازمها ذلك طوال أيام الحج، كاد الإرهاق يقتلها، لكن روحها لم تحيا هكذا من قبل.

حول أستار الكعبة، تتلو الحكايات نفسها؛ عن الذين نالوا شرف الحج، ومن لم تسعفهم المقادير فماتوا وهم يجاهدون. فوق جبل عرفات اختلطت ألفاظ التلبية بالفخر، الخضوع باليقين والطمأنينة أن الله اختار 2 ونصف مليون شخص من العالم لـ"يُباهي بهم الملائكة"، من ذاق الحج لم يرتوِ، تلاحقه التجربة حتى يعود أو يموت وهو يحفظها في صدره.

لكل حاج طريقا يمشيه؛ ظل أحدهم يجمع المال، كلما جمع مبلغا ارتفعت أثمان السفر، جرّب كل شيء، حتى قرر الذهاب بتأشيرة عمل للسعودية ليحج، حاول 14 عاما ولم يفلح سوى المرة الأخيرة. قبل 10 أيام فقط من وقفة عرفات، جاءه اتصال من قريب، أخبره أن لديه تأشيرة ولن يذهب، كاد قلب الأخير يطير فرحا، انطفأت سعادته حين علم أن التأشيرة تأتي بالاسم، اعتزل المحيطين، دخل غرفته ومد جسده فوق السرير، نظر للسماء بيأس "هو انت زعلان مني كدة يارب؟".

تحدث لساعات، تارة يدعو وأخرى يبكي، أسلم الأمر، أثقل الحزن نفسه، نام من فرط التعب، واستيقظ على اتصال قريبه، يبشّره أن الجهة سمحت بتبديل التأشيرة، باتت باسمه، امتلك صك الذهاب أخيرا، استعد لبيع ما يملك للذهاب، لكن المبلغ المطلوب كان نصف ما ادّخر على مدار الأعوام. من قال إن المعجزات لم تعد تحدث؟

من خاض الحج شبّهه بيوم الحشر، إنما دون حساب. ينصهر الأجنبي مع العربي، يُساعد الصغير الكبير، السعداء من باتوا في خدمة الحجيج، يُخففون ألما، يدفعون مقعدا متحركا بين الزحام، يُرشدون التائهين، يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم وَصب، يلبّون حاجات السائلين، يوفون بالعهد؛ يحمل أحدهم مُصحفا أوصاه آخر أن يضعه عند الكعبة، يؤدي به المناسك، يقرأ منه طوال أيام الحج، وحينما تقترب النهاية، يكاد ينسى وعده، لكنه يعود في طواف الوداع، يترك المصحف عند البيت الحرام، ينظر له بغِبطة، ويرحل.

صورة 1

للحج نفحات. يصيب الإعياء الزائر فيتحامل على جسده، تُبتلى قدمه بمرض جلدي جراء المشي، فيمر على الطبيب، يطلب منه أي مُسكن ليكمل مسيرته، يتماسك بأعجوبة، لا وقت للنوم ولا مجال للراحة؛ أيامٌ معدودات إن لم يغتنمها فلن تُتاح له الفرصة ثانيةً، من يحج وبداخله ذرة حنق يغادره نظيفا، يعزم أمام الكعبة الدعاء على من ظلمه، فيخالفه اللسان ويدعو له، يرضى عن الكون، لا خوفٌ عليه ولا حزن ولا بغضاء.

ذلك العام، لن يستقبل البيت الحرام سوى 10 آلاف حاج، جعل فيروس كورونا الكعبة خالية لفترة، شبّ الضيق بأنفس الذين ذابوا يوما بين زحامها، يرونها الآن خلف شاشة التلفاز، لو سنحت الفرصة لخاطروا بالذهاب، يضعون أيديهم فوق قلوبهم وينتظرون ألطاف أخرى تحملهم لعرفات.


أهل المحبة (4)- معجزات "ماما ماجي" ذات الرداء الأبيض (بروفايل)

أهل المحبة (3)-خُدام ضيوف آل البيت (بروفايل)

أهل المحبة (2)- حكاية السميع "إكس" (بروفايل)

"وحنانًا من لدنّا".. هل مسك خشوع المنشاوي؟ (بروفايل)

فيديو قد يعجبك: