نجا من "كورونا" وغيبه "السرطان".. سيرة طبيب أطفال ودعه الأطباء والمرضى
كتبت- إشراق أحمد:
على مائدة الطعام، تجلس راما تتناول الغداء، تنظر الصغيرة لوالدتها وتسأل "هو بابا بياكل زينا دلوقت؟"، تجيب إيناس رمضان بينما تتحسس الثبات "بياكل في الجنة حاجات أحلى من اللي بناكلها". لأكثر من أسبوعين وتواصل راما الأسئلة عن أبيها، يغلبها الفقد مرة ويلهيها اللعب أخرى، فيما قررت إيناس تعليق 13 شهادة حصل عليها زوجها خالد حمدي خلال مسيرته الطبية القصيرة، أراد طبيب الأطفال أن تضمها عيادته الخاصة، لكنها اليوم تُزين جدران منزله "عشان راما تفضل فخورة بخالد وتفتكر إنه كان دكتور وبيحب شغله".
ما يزيد على 100 طبيب رحلوا جراء فيروس كورونا المستجد، سجلت نقابة الأطباء أسماءهم، كان بالإمكان أن يكون حمدي، طبيب الأطفال في مستشفى بلقاس العام واحدًا منهم، لكن للقدر ترتيب آخر؛ رحل حمدي متأثرًا بمرض السرطان وليس "كورونا"، إلا أن اسمه لم يفارق دفتر مسيرة الطواقم الطبية في مواجهة الوباء، إذ تطوع الطبيب لمرافقة ثاني حالة لمصري بـ(كوفيد-19)، مارس المنصرف، ونقلها إلى مستشفى العزل بالإسماعيلية.
نحو 4 أشهر فصلت حمدي عن اللحاق بمريض "كورونا" الذي نقله وتُوفي بعد أيام من وصوله إلى "العزل". صاحب حمدي الحالة وكان الفيروس في بداياته، لا يعلم الأطباء الكثير عنه، لم يفكر طبيب الأطفال حينها إلا في إنقاذ المريض بعدما عزف الجميع عن نقله خوفًا من الإصابة، كان متصالحًا مع العدوى، يخبر من يلومه على فعله "ممكن أتصاب وأنا في مكاني بكشف على طفل"، وعلى هذا النهج أمضى مسيرته المهنية طيلة 10 أعوام.
جاء رحيل حمدي صادمًا لمن عرفه، تمكن منه سرطان القولون في غضون شهرين. مع مطلع شهر مايو تأكد للطبيب مرضه "من حوالي 3 شهور بدأ يتعب. بطنه توجعه بزيادة لكنه كان بيتحامل على نفسه وياخد مسكنات ويقول إنه كويس. مكنش بيقعد"، كثيرًا ما طالبته زوجته إيناس وعائلته بأخذ إجازة، وطالما وجد الطبيب الدافع لمواصلة العمل "يقولي في ناس كتير محتاجاني، أو عشان الالتزامات والمسؤوليات اللي علينا، أو أن زميلة مشيت أصلها حامل ولازم أشيل مكانها".
لم يبرح طبيب الأطفال مكانه إلا حينما اشتد عليه المرض، قبل شهرين من وفاته، يذهب إلى مستشفى بلقاس العام، يقضي ورديات العمل، يستقبل حالات الأطفال فيها، وفي أيام أخرى يواصل الكشف داخل مستشفى خاص، ويتابع صغارًا آخرين في حضّانة "خير زاد" بالمنصورة، تخصص حمدي في طب حديثي الولادة خاصة "المبتسرين" المولودين قبل اكتمال نموهم، وود بالدراسة والممارسة أن يصبح كما تقول زوجته "إخصائي أطفال ويروح مستشفى الدمرداش يشتغل ويتعلم".
كانت أيام طبيب الأطفال عامرة بالعمل، لا فرق فيها عما قبل الوباء "كان بيحب شغله لدرجة إنه كان بيتابع الحالات وهو في البيت". يومًا واحدًا ظل يحظى به حمدي مع أسرته، ورغم ذلك لم يغب الطبيب عن طفلته "كل يوم لازم يكلم راما بالفيديو يشوفها ويعرف أحوالها"، بات طقسًا تحفظه الصغيرة حتى ظنت أن بالإمكان فعل ذلك بعد رحيله.
حين تطوع حمدي لنقل حالة كورونا ما كان ذلك غريبًا "خالد دكتور شاطر ومثقف في الطب مش تخصصه بس بيطور نفسه ويقرأ في الجديد وعنده جرأة في مساعدة العيان مكنش بيتردد"، هذا ما عهده الطبيب أحمد عبدالباسط عن حمدي، صديقه ورفيقه في مستشفى بلقاس منذ 2016، يراه يُركب لمولود وصلة الوريد المركزي في الرقبة، ويتحمل نفقتها، رغم أنها ليست اختصاصه وتكلفتها باهظة لمرضى "بلقاس" في كثير من الأحيان "بتتكلف حوالي ألف جنيه ونسبة قليلة من الدكاترة اللي بيعرفوا يعملوها لدقتها"، ويجده في الاستقبال وقت الفراغ من ورديته، يتدخل في حالة عظام أو جراحة، يقيم طبيب الأطفال أينما احتاج مريض مساعدة يمكنه تقديمها.
العديد من المواقف يتذكرها عبدالباسط لحمدي داخل مستشفى بلقاس؛ قبل عامين، استقبل المستشفى سيدة في الثلاثينيات من عمرها تحتاج لغسيل أمعاء، تصادف تواجد حمدي بالاستقبال، تدخل طبيب الأطفال الذي لديه خبرة مسبقة في الجراحة، لكن حدث ما لم يتوقع؛ كانت السيدة مضطربة نفسيًا، اعتدت عليه باللفظ والإهانة وكاد يتعدى زوجها عليه بالأيدي لولا الحضور، غادر حمدي متألمًا ونصحه الزملاء بعمل محضر وتقدم به بالفعل، قبل أن يعدل عنه بعدما اعتذر الزوج له، يومها عاتبه صديقه عبدالباسط لتنازله عن حقه، لكن طبيب الأطفال أخبره "خلاص الراجل اعتذر والمهم الحالة بقت كويسة".
كان حمدي مسالمًا، يتلاحم مع جميع مَن في مستشفى بلقاس، بداية من فرد الأمن إلى أكبر قامة بالمكان، لا يترك المريض بعد الكشف، يظل يتابعه "حتى لو مش حالته من الأول وشافها في نبطشيته يفضل يطمن عليها"، يلبي النداء في أي وقت، فلا ينسى عبدالباسط ما حدث يناير الماضي، حين طالبه باستقبال حالة يعجز عن تلقيها لظروف مرضية "كنت وقتها عندي كسر ومتجبس وهو كان نبطشية قبلها ولسه راجع البيت"، ما تردد حمدي؛ عاد ثانية إلى المستشفى لأجل الطفلة ذات الشهرين، تدخل لإسعافها ومتابعتها قرابة 5 أيام لكنها توفت ودخل الطبيب في كومة حزن.
لم يكن حمدي يحكي عن تفاصيل مرضاه، لكن زوجته وأفراد أسرته يعرفون أحواله معهم "لما يفقد حالة أو مريض يكون وضعه سيء بيبقى حزين جدًا"، فيما يشرق وجه الطبيب حين يرى طفلاً يسترد الروح بعد فقد الأمل أو مثل يوم نقل مريض "كورونا" إلى مستشفى العزل "رجع مبسوط جدًا رغم الخطر اللي كان فيه"، يتذكر شقيقه فارس رده حينما عاتبه على فعله "قلت له مش تخصصك يعني مفيش ملام عليك.. قالي مقدرش أشوف واحد بيتألم وتعبان وأسيبه".
كأنما يلاحق الزمن، واصل الطبيب صاحب الخامسة والثلاثين ربيعًا العمل والمذاكرة، أرجأ شغفه الأكبر نحو الجراحة حينما وجد أن الظروف لن تدفعه لتُقديم أقصى ما لديه، واتجه إلى طب الأطفال، حصل حمدي على العديد من الشهادات، آخرها دبلوم في جامعة الأزهر في طب الحضّانات "خلص المستوى الأول والجزء التاني اتأجل بسبب كورونا"، ومع ذلك لم يتوقف، تحكي زوجته إيناس "كان عامل ماجستير في جامعة الزقازيق وبيذاكر عشان المناقشة"، كان طموح حمدي وسع السماء، والإنسانية تقوده دائمًا.
كان حمدي الطبيب الوحيد بين خمسة أشقاء، ومع رحيله تفاجأت أسرته بتفاصيل عن سيرته، تلقت محبة من زملائه وآخرين لم يعرفونهم، وجد شقيقه الأصغر رائد الشرطة ما يربت عنه فقد أخيه الذي كان بمثابة أب له، يمتن لمقترح رفاقه في المستشفى بتسمية العناية المركزة للأطفال باسمه، فيما تأثر بمكالمة سيدة كانت من حالات الطبيب، سمعت بشأن صدقة جارية يقدم معارف حمدي على فعلها، فبادرت بالمشاركة وفاءً له، تعجب فارس لفعلها "يمكن خالد نفسه لو عايش كان ممكن ميفتكرهاش".
ترك حمدي أثره في العديد ممن التقاه "كان بيبهر أي حد بيتعامل معاه" كما يصف باسل رفقي الطبيب المعالح له، رغم اعتياد إخصائي الأورام ملاقاة المرضي يوميًا، لكن حمدي كان مختلفًا؛ تقبله للمرض في مرحلة متأخرة، ورضاه بالمصير الذي يعلمه كطبيب. ما تمتع به من حسن خلق في أشد اللحظات ألماً جذب إليه طاقم الرعاية، حتى أن لحظة وفاته جاءت غريبة على مركز الأورام في جامعة المنصورة "طول الوقت بيمر علينا حالات منها اللي بيتوفى لكن دي أول مرة أشوف التمريض بيبكي على مريض".
في الرابعة والنصف عصر يوم السابع من يوليو الجاري، رحل طبيب الأطفال، بعد 4 عمليات جراحية لمحاولة استئصال الورم لكن الحالة كانت عصية، لازمه شقيقه فارس وزوجته حتى اللحظات الأخيرة، فيما كان صديقه عبدالباسط في الطريق إليه كما اعتاد حينما أتاه خبر الوفاة، ليغير وجهته إلى مكان استلام الجثمان والدفن في مقابر أسرته بالسنبلاوين.
جوار شقيق والده، دُفن حمدي، وتحت لحده كُتب "فقيد الشباب"، نعاه القريب والبعيد، أبكى الكثير ممن عرفوا بأمره، وإلى اليوم يسأل مرضى "بلقاس" على طبيب الأطفال "الشاطر" في المستشفى العام، ويتبادل زملاؤه الحديث عنه. كل كلمة بحق حمدي تُهون على زوجته وأسرته الفقد المفاجئ، وتؤكد لهم أن سيرة طبيبهم لن تُنسى.
اقرأ أيضًا:
بطولة في سجل "الجيش الأبيض".. حكاية طبيب تطوع لمهمة عزل مريض كورونا
فيديو قد يعجبك: