عزل منزلي وجهود ذاتية.. "كورونا" يَعبُر قرية "أبو يعقوب" في هُدوء
كتب -أحمد شعبان:
غلاف- أحمد مولا:
على بُعد نحو 20 كيلو متراً جنوب غرب مدينة المنيا، تقع قرية "أبو يَعقوب"، مساحتها لا تتجاوز كيلو مترا مربعَا، يعيش أهلها حياة هادئة رتيبة، تطلّ القرية على "بحر يوسف" الهادئ، فيُضاعف هُدوءَها، زارها وباء "كورونا" أواخر شهر مايو الماضي، لكنّها قاومَته في هدوء وصمت، وعَبَرها الفيروس المُستجِدّ دونَ خسائر.
مارس 2020
عدد مصابي "كورونا" في مصر، بعد شهر من ظهوره، جاوز 160 حالة. الحكومة على موعد مع اتخاذ إجراءات احترازية بالتزامن مع اتساع رقعة انتشار الفيروس، أُجّلت الدراسة، توقّفت حركة الطيران، أُغلقت المساجد، والمقاهي والمطاعم، فُرض حظر تجوّل مسائي، أحاديث الحجر الصحي، وإجراءات التعقيم والتطهير لا تتوقّف، صار "كورونا" وإجراءات مكافحته يغلّف الحياة. وفي قرية "أبو يعقوب" بادر "عاشور فارس" بتدشين صندوق لإدارة الأزمات، أنشأ مجموعة عبر تطبيق "واتساب" للتواصل والتنسيق، لتبدأ القرية رحلتها على خط مواجهة "كوفيد-19".
البداية كانت بمبادرات لتطهير وتعقيم منازل القرية، وزّعت الأدوات المطهّرة على الأسر المُحتاجة "أيضاً جمعنا تبرعات وتم توزيع مبالغ مالية على نحو 100 من العمالة غير المنتظمة في القرية"، طُبعت منشوارت ورقية للتوعية بالفيروس وطرق مكافحته، فيما تطوع عدد من شباب القرية لتنظيم صرف المعاشات بمكتب البريد الذي يخدم أهالي القرية وجوارها، وُضعت مقاعد على مسافات متباعدة، ووزعت الكمامات والمعقّمات على الآتين لصرف معاشاتهم.
على هذا الحال، مرّت أيام القرية، هادئة مكررة، ساكنة لا يحركها سوى أحاديث أهلها عن "كورونا" ومتابعة عدّاد إصاباته ووفيّاته في مصر، واتخاذ إجراءات استباقية يقوم عليها أبناء القرية بجهود ذاتية، علّها تقيهم شر الزائر الثقيل. ظلّت سيرة الوباء حاضرة، لكنها لا تطغى على مشاهد الحياة، التي استمرت كما هي، تسير بشكل مستقر، يبدأ أهلها نشاطهم في الصباح الباكر، كما العادة في الريف، يقيمون أفراحهم، ويشيّعون جنازاتهم، وينصبون سرادقات لتلقّي العزاء، بصورة طبيعية، على ما يوضّح "محمود محمد" أحد شباب القرية، قبل أن يتبدّل ذلك، مع ظهور أول إصابة بـ"كوفيد-19"، بعد عيد الفطر، أواخر مايو الماضي.
الخميس 28 مايو 2020
غادر "أشرف عبد المحسن" منزله بالقرية عصراً، متوجهاً إلى منزل أهل زوجته في قرية مجاورة، كي يطمئن على حماته. كانت السيدة الخمسينية تشكو من ارتفاع درجة حرارتها وإرهاق غير معتاد، وهي المُصابة أصلاً بارتفاع ضغط الدم ومرض السكري، كتب لها الأطباء أدوية متنوعة، على اعتبار أنها تعاني من نزلة برد حادة. كان أشرف مرافقاً لها "بروح معاها عند الدكاترة وبديها الأدوية والحقن وبطمن عليها دايماً". استمر الحال على ذلك لنحو 10 أيام، استمر ارتفاع درجة حرارتها، قبل أن تخضع لإجراء عدة تحاليل، وجاء التشخيص: "إيجابي كورونا".
خضعت السيدة لعزل منزلي، واستمر أشرف في زيارتها للاطمئنان عليها وإعطاءها الأدوية والحقن، لخبرته نتيجة عمله في إحدى الصيدليات، وسارت الأمور على نحو جيد، يأخذ صاحب الـ49 عاماً احتياطاته جيداً، إلى أن بدأت السيدة في التماثل للشفاء. استقرت حالتها. زارها أشرف يوم الخميس 28 مايو "كان بعد 3 أيام من شفائها"، لكنّه حين عاد إلى منزله في ذلك اليوم، أحسّ إجهاداً لم يعتده، سخونة تسري في جسده، ساوره قلق أن يكون قد التقط العدوى من حماته، وفي صباح اليوم التالي "عملت أشعة مقطعية ووريتها لدكتور أشعة قريبي فقالي اعزل نفسك أنت عندك كورونا".
أراد الرجل التأكد من إصابته بـ"كوفيد-19"، فأجرى تحليل صورة دم كاملة CBC "الأخصائي في معمل التحاليل قالي إن صورة الدم ملخبطة شوية"، ثم حمل الأوراق الخاصة بالفحوصات التي أجراها وتوجه نحو مستشفى الحميات بمدينة المنيا لإجراء مسحة PCR "خدوا رقم تليفوني وادوني علاج عبارة عن زنك وفيتامين وخافض حرارة، وقالوا اعزل نفسك وهنبلغك بالنتيجة"، والأخيرة نقلها له طبيب بعد 4 أيام مؤكداً إيجابيتها، وعلى أشرف أن يتبع نظام العلاج المحدد سلفاً، وفي حالة اشتداد الأعراض عليه المتابعة مع الطبيب، فخضع الرجل لعزل منزلي.
حلّ صباح اليوم التالي على القرية ولا حديث لأهلها إلا عن الزائر الجديد الذي أصاب "أشرف"، ليصير الرجل الأربعيني أول حالة إصابة بـ"كوفيد-19"، تظهر في القرية- البالغ عدد سكانها نحو 7 آلاف نسمة- قبل أن يتوالى ظهور مصابين في الفترة ما بين العيدين، من أواخر مايو الماضي بعد عيد الفطر، وحتى آخر يوليو المنصرم عند مشارف عيد الأضحى.
في تلك الفترة، كانت مصر قد دخلت مرحلة جديدة في سيرتها مع "كورونا"؛ صعودٌ لافت لعدّاد الإصابات والوفيات، اتسعت رقعة انتشار الوباء، بعد أن جاوز عدد إصاباته الألف حالة في ذلك اليوم أواخر شهر مايو، واستمر في تحقيق القفزات لنحو شهرين تاليين، فيما اتسعت خريطة مستشفيات العزل والحجر الصحي في المحافظات، وبدأت وزارة الصحة تطبيق تجربة العزل المنزلي للحالات البسيطة المُصابة بـ"كوفيد-19"، في الوقت الذي اقتصرت فيه المستشفيات على حجز المرضى أصحاب الحالات الحرجة.
يونيو 2020
في تفاصيل ما جرى للقرية، يحكي الدكتور ياسر حسين، الطبيب بالقرية، أن عيادته الخاصة وحدها تردد عليها أكثر من 200 حالة تعاني من أعراض "كوفيد-19"، على رأسها الحمى "كل اللي كان بييجي كانت درجة حرارته بتكون مرتفعة جداً 40 درجة"، فيما حدد الأعراض التي ظهرت على الحالات التي استقبلها كالتالي: ارتفاع الحرارة، آلام العضلات، السعال، الإسهال "أغلب الأعراض في المصابين من القرية كانت ترتبط بالجهاز الهضمي، أما المرتبطة بالجهاز التنفّسي مثل آلام الصدر وصعوبة التنفس فكانت نادرة وبسيطة"، وفق ما يوضّح.
لهذا لم يُنقل أيّ من مصابي "كوفيد-19" بالقرية لمستشفى عزل، لم يشكو أحد من استمرار وصعوبة التنفس أو نقص الأكسجين، مرت فترة الإصابة بسلام "جميع الحالات تقريباً كانت تتعافى بعد 10 أيام وتستمر في العزل المنزلي لمدة 14 يوماً"، يذكر دكتور "ياسر"، وهو ما جرى مع أشرف عبد المحسن وآخرين تحدثوا لـ"مصراوي" من مصابي القرية، منهم "محمد ربيع".
الشاب الذي أربك "كورونا" حساباته في عامه الجامعي الأخير بكلية الحقوق جامعة بني سويف، كان في زيارة رفقة عمّه إلى منزل أحد أصدقائه في إحدى القرى المجاورة، في التاسع والعشرين من مايو الماضي "كان تعبان وقالي إن عنده دور أنفلونزا شديدة وكحة ودوخة وجسمه مكسّر"، يقول محمد الذي جلس يتحدث مع المريض لنحو نصف ساعة في غرفة مغلقة. عاد الشاب إلى منزله، وحين حلّ المساء لم يستطع النوم؛ ارتفعت درجة حرارته إلى 41 درجة مئوية، مع آلام في الظهر وعضلات الجسم، تواصل مع طبيب فنصحه بتناول خافض للحرارة ومضاد حيوي، ارتاح لبضع ساعات، ثم ما لبث أن عاوده التعب والحمّى، فقرر زيارة الطبيب في اليوم التالي.
طلب منه الطبيب إجراء مجموعة من التحاليل والأشعة، ليخبره بعدها إصابته بـ"كوفيد-19"، وعليه أن يعزل نفسه منزلياً مع الالتزام بتناول مجموعة من الأدوية، بعد 5 أيام فقد الشاب حاستي الشم والتذوق، فيما كان يشعر أحياناً بزيادة معدل ضربات القلب، قبل أن تبدأ الأعراض في الزوال شيئاً فشيئاً، بعد نحو 10 أيام من إصابته، وهو ما حدث مع "أشرف عبد المحسن" الذي عانى من ارتفاع درجة الحرارة وإسهال وسعال وآلام عضلات الجسم لنحو 12 يوماً، كذا فقد حاسة التذوق في يوم إصابته السابع قبل أن تزول الأعراض تماماً.
انتهت رحلة محمد ربيع بسلام مع "كوفيد-19"، لكنّ عدداً من أقاربه خالطوه أثناء فترة إصابته، فنقل لهم العدوى، منهم عمه الذي لم يدعه يذهب وحده لزيارة الطبيب، فطاله الفيروس، وبدروه نقله لزوجته، كذا تردد على منزل "محمد" عدد من أبناء عمه، فطالت العدوى بعضهم، ونقلوها كذلك إلى أسرهم، مثلما حدث مع "أحمد حسن"، 22 سنة، الذي أُصيب وجميع أفراد أسرته السبعة، ما عدا اثنين من أشقاءه الصغار الذين لا يتجاوز عمر أكبرهما 12 عاماً "أغلب الأعراض اللي ظهرت علينا: سخونة، كحة جافة، صداع وتكسير في العظام، ثم فقدان حاستي الشم والتذوق"، يحكي "أحمد" الذي استمرت رحلة أسرته مع الوباء لنحو شهر. لكن أحداً منهم لم يشكو من صعوبة في التنفّس أو اشتداد الأعراض وخضعوا جميعاً خلال فترة الإصابة للعزل المنزلي، حتى تعافوا جميعاً.
يوليو 2020
كان منحنى الإصابات في القرية يواصل الصعود، فيما كان لمجموعة إدارة الأزمات دور ملموس؛ حاولت بمساعدة الأهالي توفير رعاية طبية بالقرية، خاصة وأنها، كغيرها من القرى، بعيدة عن أعين المسئولين، فبدأت بإعادة نشر وتعريف الأهالي بالنصائح والإرشادات التي حددتها وزارة الصحة للعزل المنزلي، كذا وفّرت الأدوية لغير القادرين بالاتفاق مع الصيدليات الموجودة بالقرية "الممرضين بالقرية تطوعوا لمتابعة ورعاية حالات الإصابة في العزل المنزلي، كذلك كنا حريصين على الدعم المعنوي والنفسي للمرضى والتواصل معهم هاتفياً من وقت لآخر ومتابعة تطور حالتهم"، وفق ما يحكي عاشور فارس، مدير مجموعة إدارة الأزمات بالقرية.
اختلف شكل الحياة في قرية أبو بعقوب في "أيام كورونا"، على وقع التباعد عاش أهلها، ظهرت الكمامات في شوارعها، فرض الزائر الجديد قواعده على أفراحها ومآتمها، وباتت أعداد المشاركين فيها قليلة، في بادئ الأمر كان الفزع والقلق يعصف بالأهالي، لكن مع مرور الأيام وتعافي المصابين دون الحاجة لنقلهم إلى مستشفى صار الأمر أقل وطأة، حتى من الناحية النفسية "اللي أصيبوا في الأول كان عندهم مشاكل نفسية لكن مع الوقت الموضوع بقى عادي والناس بقت بتتقبله"، على ما يذكر عاشور فارس.
بدت القرية أكثر حظّاً من جوراها في سيرتها مع الوباء، يحكي أهلها عن حالات الوفاة بسبب "كوفيد-19" في قرى مجاروة مثل صفط الخمار والكوم الأحمر والبطوطة وغيرها، "من ستر ربنا إن معظم المصابين في القرية كانوا في سن الشباب أو في سن ما بين 45 و60 سنة المناعة عندهم كويسة إلى حد ما وده ساعد على التعافي"، على ما يذكر دكتور ياسر حسين، فيما تراوح عدد المصابين بين 500 و700 حالة، بحسب دكتور ياسر وعدد من أهالي القرية تحدثوا لمصراوي.
أغسطس 2020
عبرت القرية بسلام شهري يونيو ويوليو، لم يعد يستقبل الدكتور ياسر في عيادته مصابين تظهر عليهم أعراض الفيروس المستجدّ والعاملون في صيدليات القرية، ومنهم محمود سيد، يقولون إن الإقبال على شراء الأدوية الخاصة ببروتوكول علاج "كوفيد-19" صار نادراً، استقبلت القرية عيد الأضحى في هدوء، مر على الأهالي بمظاهر احتفاله وذبائحه كما اعتادوا في سنواتهم السابقة.
عبرت القرية دائرة الخطر، وعادت إلى سيرتها الأولى، وحياة أهلها الهادئة الرتيبة، التي يُضاعف هدوئها "بحر يوسف" بمياهه الهادئة.
فيديو قد يعجبك: