إعلان

"في خدمة المسجونين".. أن تكون حلقة الوصل الوحيدة مع العالم

04:04 م الخميس 27 أغسطس 2020

تقرير- مارينا ميلاد:
رسم– سحر عيسى:

لم تصدق "نوال وأم جورج وعم رزق "الخبر الذي جاءهم بداية هذا الأسبوع: سوف تزورون أبناءكم في السجن!. ما سمعوه كان مفاجئًا وقاطعًا ليأسهم وحزنهم بعد أن انقطعت رؤية أبنائهم وأخبارهم لأشهر طويلة؛ بسبب فيروس "كورونا" الذي ألغى زياراتهم المعتادة للسجن منذ مارس الماضي ضمن الكثير من الأشياء الأخرى.

بمجرد معرفته بالخبر؛ بدا "رأفت" متحمسًا لذلك القرار الذي يمكنه التهوين على أهالٍ لم يكفوا طوال تلك الأشهر عن الاتصال به؛ ليطمئنهم على أولادهم. أوضح لهم الإجراءات التي أعلنتها وزارة الداخلية مؤخرًا؛ لاستئناف زيارة السجون بداية من السبت الماضي: تخصيص رقم هاتف يمكنهم الاتصال عليه لحجز الزيارة مع ذكر بياناتهم ودرجة القرابة، وأن زيارتهم ستكون لمدة 20 دقيقة فقط، على أن يكون زائر واحد لكل نزيل مُرتديًا الكمامة ومراعيًا للمسافة الآمنة.

لكن لم يتغير الوضع عند "سناء"، فما زال لا يمكنها زيارة المساجين؛ لأنها ليست بدرجة قرابة لهم، كما أن للمساجين الذين ترعاهم وضعًا خاصًا، كون أغلبهم من الأجانب، فلا أهل لهم هنا ليتصلوا ويحجزوا زياراتهم.

رأفت حلمي وسناء جميل؛ اثنان كرسا أكثر من 10 سنوات من حياتهما لخدمة هؤلاء وذويهم وتقديم كل أنواع المساعدات لهم فيما يُسمى بـ"خدمة السجون"، النشاط المعروف ببعض الكنائس.

حلقة الوصل - مارس 2020

رسم 1

لم تتوقع نوال سعيد أن زيارتها لابنها بسجن الفيوم في الأسبوع الأول من مارس الماضي سيفصلها خمسة أشهر؛ لتراه مرة أخرى أو حتى لتتأكد إذا كان بخير أم لا!. كان لقاؤهما الجديد أثناء جلسته بالقاهرة يوم 6 يونيو الماضي، واكتفت خلالها برؤيته من بعيد مثل الحضور، واستطاع هو وقتها أن يُراسلها.
أشهر مضت ضمن السبع سنوات المسجون خلالها ابنها -36 عامًا- بتهمة الاستيلاء على أموال عامة. لم يهون عليها فيها سوى ما يفعله مسؤولو خدمة السجون الذين يوصلون لها خطاباته ومعها أخباره، وترسل معهم المال له.

كانت نوال أفضل حظًا من "عم رزق" الذي التقى ابنه -المسجون في قضية مخدرات منذ عام ونصف العام– في يناير الماضي بسجن القطا (محافظة الجيزة). ظل الرجل الذي يعمل جناينيًا بإحدى المدارس يذهب كل شهر؛ ليترك له الزيارة على الباب: "تكلفني حوالي 1000 جنيه: سجائر وطعامًا ومواصلات. وفي النهاية أمشي من غير ما أعرف عنه حاجة".
زادت المسألة قسوة على "أم جورج" التي يحتاج ابنها -25 سنة- إلى رعاية خاصة مع كونه يعاني مشاكل في السمع. لذا تتحمل الأم –البالغة 55 عامًا- إرهاق السفر من القاهرة إلى سجن الفيوم، وتستقل أربع مواصلات، وتنفق ما يزيد على 700 جنيه؛ لتذهب إلى ابنها المُتهم بالسرقة منذ أكتوبر 2017.

أرسلت له خطابًا منذ شهرين دون رد: "طوال الشهور اللي فاتت كنت ببكي على طول ومش بنام"، آخر مرة رأته فيها كانت يوم 27 يناير الماضي، لم تستطع بعدها فعل شيء إلا التواصل مع مسؤولي الخدمة؛ لتطمئن عليه وترسل لهم أموالًا بالبريد؛ ليضعوها بإدارة السجن ويشتري هو منها احتياجاته، وإن لم يكن لديها فيتولوا هم الأمر.

صورة 1

صورة2

صورة 3

سنوات الخدمة 2000 – 2020

مشهد رسم 2

تتذكر سناء المرة الأولي التي دخلت فيها سجن القناطر الخيرية منذ عشر سنوات بعد عملها مُحاسبة بخدمة السجون، قبل أن تصبح منسقة لها. لم تكن وقتها تستطيع أن تدير مشاعرها، وهي تتعامل مع متهمين بجرائم بينها القتل، عليها أن تدعمهم نفسيًا، وتوزع عليهم مساعدات في حين أن عمرها لم يكد يبلغ الـ29: "كنت أشعر بالرعب حتى من طريقة التفتيش. وفي الداخل كنت أسأل عن الجرائم، وأخشى الجلوس مع متهم في جريمة خطيرة".

بالنسبة لرأفت كان الوضع مختلفًا عندما بدأ الخدمة نفسها قبل عشرين عامًا، والتي يقتطع لها وقتا بجانب عمله مهندسًا معماريًا. كان عمره 37 عامًا حينها ولم يخشَ شيئًا في أي سجن زاره رغم ما يقع على مسامعه ممن حوله عندما يعرفون ما يفعله: "كانوا يستغربونني وبعضهم يضعني في دائرة المجرمين. حتى الذين يقومون بخدمات مثلي كانوا يقولون إن هذه خدمة جيدة لكن لا يمكننا الاقتراب منها".

اكتفت سناء بخدمتها بسجن القناطر الخيرية الذي تراه متنوعًا بما يكفي ويضم سجناء أجانب، وهم موضع اهتمامها. بينما قضى رأفت 9 سنوات متجولا بين سجون: القناطر (رجالًا وسيدات)، "الفيوم، المنيا، وطرة" حتى وقع حادث في عام 2009 جعله يترك كل ذلك.

يذكر رأفت أن تجربة فتاة أتهمت في قضية دعارة ثم انتحرت فيما بعد هي السبب في توقفه. أفقدته تلك الواقعة كل قواه وتحمله فجأة؛ فقرر أن يستبدلها بخدمة أخرى قبل أن يعود إليها ثانية بعد 9 سنوات: "عدت لإحساسي بالدور المهم الذي أقوم به خلالها لدعم هؤلاء وخاصة أهاليهم الذين يرفضهم المجتمع، ذلك ما يجعلني أشعر بأن إنسانيتي اكتملت".
مع الوقت؛ اعتادت سناء أجواء السجن والتعامل مع ساكنيه بل أصبحت لا تسأل عن جرائمهم حتى لا تميز بينهم: "كان لدي انطباع أن كلهم مجرمون لكن أدركت أنهم أشخاص عاديون مروا بظروف صعبة. وعندما يقول لي الناس بالخارج إنهم لا يستحقون المساعدة كنت أرد عليهم بأن جميعنا مُعرض في لحظة أن يكون مكانهم".
تساعد سناء بين 150 لـ200 سجين من رعايا أكثر من 25 دولة أجنبية أغلبهم أفارقة وهم: "سودانيون، إريتريون، وإثيوبيون". كان أصحاب تهمة "الهجرة غير الشرعية" منهم الأكثر تأثيرًا فيها؛ فتقول إن بعضهم لا يتمنى الخروج خوفًا من العودة إلى بلادهم.

صورة 4

تجلس سناء في مكتبها، ثم يدق هاتفها وتكون على الناحية الأخرى سيدة من دولة سيشل تطلب منها أن توصل مساعدة مالية وخطابًا لابنها المسجون هنا. ترى سناء أن ذلك أهم ما تفعله في خدمتها: "تخيلي شعور أم في بلد وابنها مسجون في بلد تاني ولا تعرف عنه شيئًا! أحاول أن أكون حلقة الوصل بينهما".

ذلك الوصل الذي تفعله سناء قد يؤلمها كثيرًا -حسب ما تقول– تحديدًا عندما تعطي إحدى الأمهات المسجونات صورة لابنها. في تلك المساحة الخاصة بسجن النساء تجد سناء المعاناة أكبر؛ فلا تعرف كيف تساعد أطفالهن الموجودين معهم في الزنزانة، ولا يمكنهم اللعب والحركة حتى لا يثيرون غضب الموجودات. يتفق رأفت مع سناء فيما يسميه هو بـ"نسبة الظٌلم" التي يراها أكبر بسجن النساء، لذلك فقبل عامين، طَلب من زوجته أن تنضم إليه في هذه الخدمة؛ لتعاونه في التعامل معهن، هو ما رحبت به لاعتيادهما على التطوع بخدمات منذ 30 عامًا عند زواجهما.

لم تواجه سناء أي سلوك عدواني يستحق أن تذكره طوال هذه السنوات، لكن تقول إن الجزء السلبي عندما يستغل أحد المسجونين مساعدتها ويعرض عليها الزواج لرغبته في الجنسية المصرية. في المقابل هناك من تحولوا إلى نماذج إيجابية لدرجة فاجأتها مثل "جون"، الشاب الهندي، الذي جاء للبحث عن عمل في مصر ثم سُجن في قضية مخدرات - 25عامًا- وخرج؛ ليصبح خادمًا يقدم المساعدات في إحدى كنائس مومباي بالهند: "تعلمت خبرات كثيرة في السجن بمصر وواجهت تحديًا في التعامل مع الأخرين، لكن هذه الخدمة ساعدتني روحيًا ونفسيًا وجسديًا وتعلمت الصبر وزاد إيماني".

توقفت زيارة كل من رأفت وسناء للمساجين خلال الأشهر الماضية منذ قررت وزارة الداخلية تعليق زيارة السجون في مارس الماضي؛ لمنع تفشي فيروس "كورونا"، لكن لم تتوقف خدمتهما. داوما على الذهاب لإيصال المال والاحتياجات وأدوات التعقيم وخطابات الأهل لإدارة السجن لإدخالها لهم، وحاولا التقاط أخبارهم لطمأنة أسرهم.
كثف رأفت زياراته خلال تلك الأشهر، حيث كان قبلها يزور السجن مرة كل عشرة أيام، لكنه يزوره حاليًا ثلاث مرات أسبوعيًا؛ لأنه –بحسب قوله– يعرف أن هذه الأشياء قد لا تصل في كل مرة: "الأهل يتصلون بي ليعرفوا نتاج الزيارات دائمًا، وهم غير متأكدين من الأساس إذا كنت ما أوصله لهم صحيحًا أم لا!".

لأول مرة يقف رأفت عاجزًا عن التصرف لهذه الدرجة. ذلك عندما وصل إليه خبر وفاة أحدهم داخل السجن، ولم يستطع إبلاغ والدته التي تسأله عنه، وعندما حدث العكس وتوفي والدة أحدهم لم يبلغه. وبقدر تمنيه أن يعرف كل أخبار السجناء بقدر ما كانت المعرفة تؤلمه، تحديدًا حين علم بأمر أحد السجناء المرضى الذي يخشى طلب الذهاب إلى مستشفى بالخارج وقت امتلاء جميع المستشفيات بمرضى "كورونا" الذي يحاول مسؤولو السجن تجنب دخوله عندهم.
وسبق وبثت وزارة الداخلية مقاطع فيديو تظهر تعقيمًا تجريه لبعض السجون، وقالت إنها تعمل على خلق بيئة صحية آمنة للسجناء.

عودة اللقاء

مشهد رسم 3

لم تُغير الإجراءات التي حددتها وزارة الداخلية لعودة الزيارة إلى السجون من دور رأفت وسناء، لكنها غيرت من شعور كل من "نوال، وأم جورج، وعم رزق".

إذ تمكنت نوال من حجز زيارة إلى ابنها بعد أسبوع من حجز موعد الزيارة والموافقة عليها تليفونيًا، على أن تذهب بمفردها هذه المرة ويحل محلها زوجته وابنه ذو التسع سنوات في المرة المقبلة، ومن بعدهما شقيقته. ستعاود السيدة التي تبلغ من العمر 57 عامًا أن تخرج من بيتها في القاهرة مبكرًا؛ لتصل إلى سجن الفيوم في موعد الزيارة التي لا يمكنها تغييره إن فات عليها. ولا يهمها قصر المدة أو الإجراءات الوقائية المفروضة على جلستها مع ابنها: "أطمئن عليه وأعمل له أكل كويس ده كفاية عليا".

حصلت "أم جورج" على موعد أيضًا لكن مُتأخرًا؛ لتختتم به مدة سبعة أشهر لم ترَ فيها ابنها. فيما عرف "عم رزق" الخطوات المفترض أن يقوم بها متأخرا؛ لأنه كما يقول "ليس لديه فيسبوك أو إنترنت ليعرف"، لكنه ينتظر أن يقبض راتبه حتى يحجز موعدًا للزيارة: "حلوين 20 دقيقة ده أنا نفسي أشوفه حتى لو دقيقة واحدة".

ويكفل قانون تنظيم السجون حق الزيارة والمراسلة للسجناء في المواد من 38 إلى 42، "حيث يحق له التراسل ولذويه أن يزوروه بحسب اللائحة الداخلية لكل سجن، ويجوز أن تُمنع الزيارة منعًا مطلقًا أو مقيدًا -بحسب الظروف- في أوقات معينة كأسباب صحية أو متعلقة بالأمن".

ينتظر رأفت وسناء أن يعود نظام الزيارات المنصوص عليه لطبيعته؛ ليتواصلا مجددًا مع السجناء بعدما باتت تربطهما بهم علاقات جيدة، يقولان إنهما تعلما "ألا يحكما على أي شخص مهما كانت جريمته". اتفقا الاثنان على ذلك كنتاج لسنوات خدمتهما بالسجون التي توسعت مؤخرًا عند سناء؛ لتضم مسلمين ومسيحيين ومصريين وأجانب شملتهم جميعًا الظروف الصعبة، وصارت سناء ومن مثلها حلقة الوصل الوحيدة بينهم وبين العالم.

جرافيك
- تم تغيير أسماء أهالي المسجونين حفاظًا على خصوصياتهم.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان