منسيون ومنسيات (10)-ناجي شاكر.. "عشق العرايس حلال"
كتبت-رنا الجميعي:
الخيال له مفاتيح كثيرة، لكنّ ناجي الصغير كان يراها في العروسة التي تصنعها خادمة البيت، حيث تنتقي بعض صفحات الجرائد تصنع منها عروسة من ورق، تقوم بوخزها بالدبوس لتقي ناجي وإخوته من عيون الناس، يقف الصغير مسحورًا بتلك العروسة ذات القوة الخفية، لا يعرف ناجي حينها أن دهشته بالعرائس سيكبر داخله، ويصير هو "ناجي شاكر" مصمم عرائس الليلة الكبيرة، وواحدًا من رواد فن العرائس في مصر.
ربما لا يكون شاكر منسيًا تمامًا، فداخل أوساط الفنانين تُعرف قيمته، كذلك فقد تمكّن من دخول كل بيت مصري مر على شاشته أوبريت الليلة الكبيرة، لكن كم شخص رأى الأوبريت الشهير وتساءل عمن صنع تلك العرائس الخالدة؟
منذ صغره أحبّ شاكر الرسم، صارت غرفته هي معرضه الفني الأول، فقد كانت حجج الطفل كثيرة للتغيب من المدرسة، ومقابل تلك الأيام الخالية من الدراسة شغل وقته بالرسم، ومن حسن حظه أن والديه استثمرا في موهبته، وتعلّم الرسم منذ أن كان في عمر الثامنة على يد رسام إيطالي يدعى كارلو مينوتي، تتلمذ على يديه حتى التحق بكلية الفنون الجميلة عام 1953، وانضم إلى قسم الديكور.
كان شاكر مُتلبسَا بحب الفنون جميعها، وخلال الفترة الجامعية ظهر ولع جديد للفتى بالسينما، كان يدور برفقة زملائه على السفارات الأجنبية ليتمكن من رؤية أفلام من مختلف أنحاء العالم، ولم ينْس شاكر إحدى التجارب السينمائية التي رآها، كانت هي النداهة التي جذبته ثانية لعالم العرائس، حينما شاهد فيلم عن مسرحية "حلم ليلة صيف" لشكسبير، وكان فيلمًا أبطاله من العرائس "استغربت وقولت ايه السحر ده"، حرّك الفيلم دهشة الفتى تجاه العرائس، وحين أقدم على تنفيذ مشروع تخرجه قرر أن يكون مصنوعًا من العرائس أيضًا.
قوبل شاكر بالرفض من إدارة الكلية حين أعلن عن تحويل القصة الشعبية "عقلة الإصبع"، قيل له "أنت مجنون هتضيع نفسك"، لكنه صمم على تنفيذه، كانت مفاجأة للجميع حين رأوا مشروع التخرج في النهاية، لكن جنون الفتى هو ما جعله بعد شهور قليلة من التخرج يجد عملًا؛ فقد أعجب مشروع التخرج مدير دار الأوبرا في ذلك الوقت، والذي كان صديق دكتور علي الراعي، رئيس هيئة المسرح.
في ذلك الوقت كان الراعي يحلم بإنشاء مسرح عرائس بعيد عن الشكل التقليدي، وبالفعل وافق شاكر على العمل، وقام بالتعاون مع صلاح جاهين لعمل مسرحية الشاطر حسن، وكانت أول عرض لمسرح العرائس، بعدها قاموا بعمل مسرحية بنت السلطان، خلال تلك الفترة التقى شاكر بخبراء من بوخارست استقدمتهم الدولة لنقل خبرتهم في فن العرائس، تعلم شاكر منهم الكثير، وحين دَعوْه للمشاركة في مهرجان بوخارست للعرائس تحمّس كثيرًا، خاصة أن دعوتهم كانت ملحقة برغبة في رؤية عمل مصري أصيل.
وقتها كان شاكر أَلِف العمل برفقة صلاح جاهين، وكانت الليلة الكبيرة في نسختها الأولى تُذاع بالراديو، سرح شاكر في التفكير بذلك العمل المصري الأصيل الذي سيُشارك في مهرجان بوخارست، ولم يكن هناك أفضل من "الليلة الكبيرة"، ولكن بدلًا من كونها عمل ثنائي، الكلمات لصلاح جاهين والموسيقى لسيد مكاوي، صار ثلاثيًا، وبدلًا من كونه عمل يستغرق عشر دقائق فقط، صار عملًا مسرحيًا ممتد لنصف ساعة يحكي مشاهد متنوعة من المولد ومصنوعًا من العرائس.
دار شاكر برفقة جاهين الموالد حتى وصلت الليلة الكبيرة إلى شكلها المتعارف عليه، فيما كان شاكر يصنع تراثًا حيًا سيرسخ داخل كل عقل مصري، وبروح محبة أنتج تلك العرائس التي صرنا نألفها، كانت كل عروسة لها حكاية وحدها، ومحاولات عدة حتى صارت بهذا الشكل، لكن واحدة من أبرز تلك العرائس كانت الراقصة على مقطع "طار في الهوا شاشي وأنت متدراشي يا جدع"، كونها ترقص بليونة لا يعقلها الخشب المصنوعة منه، فقد اضطر شاكر لصناعة عروسة ثم أخرى حتى نجح في التقاط روحها، والإيقاع الذي ترقص عليه.
فازت مسرحية الليلة الكبيرة بالجائزة الثانية عن تصميم العرائس والديكور، ثم عُرضت في مصر عام 1960 ونجحت نجاحًا فائقًا، وكانت تجربة شاكر الرابعة في صنع العرائس في أوبريت حمار شهاب الدين، برفقة جاهين أيضًا، وغناء سيد مكاوي.
كانت أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات فترة فريدة في تاريخ مسرح العرائس، فقد صنع شاكر وجاهين ثنائيًا ناجحًا، حتى أنهم ذهبوا إلى وزير الثقافة ذلك الوقت، دكتور ثروت عكاشة، لاطلاعه على تصورهم بتأسيس مسرح العرائس، وبالفعل وافق عليه، وبعد ثلاث سنوات قضاها ناجي في بعثة بألمانيا وجد الحلم قد صار حقيقة، لكن الحقيقة لم تستمر بشكلها الحالم حيث قرر مدير المسرح بتحويل مسرح العرائس إلى مسرح للطفل، مما أفقده الهوية التي نشأ عليه، وانحدر فن العرائس بعدها.
حتى أن شاكر بسبب إحباطه اتجه لحبه القديم للسينما، و أوفد في بعثة دراسية إلى إيطاليا لمعهد السينما هناك، منذ 1968 إلى 1970، وقتها حقق شاكر إحدى أحلامه القديمة بالقرب من مخرجيه المفضلين، فقد رأى فيلليني، أحد أشهر المخرجين الإيطاليين، بعينيه كمشارك بالمحاضرات هناك، وخلال تلك الفترة أخرج ناجي فيلمًا تجريبيًا تحت اسم "صيف 70".
بعد تلك الفترة الذهبية في عالم العرائس، اتجه ناجي للسينما، حيث شارك في عمل ديكور وملابس فيلم "شفيقة ومتولي"، وقد حصل على جائزة المهرجان القومي للسينما، وكذلك شارك في فيلم "اسكندرية ليه"، واشترط على المخرج يوسف شاهين ألا يكتب اسمه على التتر، كما كان هو صانع أفيش الفيلم.
تلك الأيام تمر فيها ذكرى وفاة شاكر، الذي رحل منذ عامين يوم 18 أغسطس، لكن بقي أثره، حتى وإن لم يعرف الكثيرون اسمه فقد تمكّن من حجز محبة باقية داخل قلوب المصريين عبر عرائس الليلة الكبيرة، التي لا تزال تُعرض للآن، ورغم أنه لم يتمكّن من تحقيق أحلامه الواسعة في فن العرائس، فكان يتمنى استمرارية ذلك المجال الذي حظي برواده لكنه لم يحظى بشهرة تضعه جوار باقي الفنون.
اقرأ أيضًا:
منسيون ومنسيات (1).. المطربة نازك خفيفة الروح (بروفايل)
منسيون ومنسيات (2)-هند نوفل.. تطلعات امرأة في صحافة القرن الـ19 (بروفايل)
منسيون ومنسيات (3)-أحمد سامي.. غواية الغناء التي لم تجعل صاحبها نجمًا (بروفايل)
منسيون ومنسيات (4)- أحمد فتحي.. أسير الماضي صاحب السيرة الضائعة (بروفايل)
منسيون ومنسيات (5)- لور دكاش.. من ترك العود وحيدًا؟ (بروفايل)
منسيون ومنسيات (6)- عباس البليدي.. نجم اختفى في الستينيات (بروفايل)
منسيون ومنسيات (7)-نادرة.. معجزة القاهرة في الثلاثينيات (بروفايل)
منسيون ومنسيات (8)-بهيجة حافظ.. المُغامِرة الأولى في تاريخ السينما المصرية (بروفايل)
منسيون ومنسيات (9)-الأخوان لاما.. بداية السينما المصرية على يد فلسطينيين (بروفايل)
فيديو قد يعجبك: