أثر الانفجار لم يظهر بعد.. طبيبة لبنانية تتطوع لتأهيل ضحايا بيروت "مدى الحياة"
كتبت-إشراق أحمد:
مازالت لمى قطيش تتذكر تفجير "برج البراجنة" في بيروت، تعايش أخصائية التأهيل الطبي ما تركه الحدث في الضحايا رغم وقوعه عام 2015، إلى الآن تتابع 4 ممن مسهم التفجير بإصابات بالغة ويقاومون للتكيف معها. تعلم الطبيبة اللبنانية ماذا تفعل الكوارث بالأجساد، ما تخلفه من أثر يمتد لسنوات ولا يكفيه العلاج الجراحي والدوائي، لذا حين وقع انفجار مرفأ بيروت، تطوعت لمى لتقديم الخدمات الطبية اللازمة بعد الإصابة لكل ضحية في تلك الفاجعة.
العلاج الوظيفي أو الانشغالي، لأجل هذا التخصص التحقت لمى بكلية الصحة العامة في الجامعة اللبنانية، ويعني التدخل الطبي الذي يحدث مع شخص يتعرض لإصابة بالغة تُفقده أحد أعضاء جسده، أو صدمة نفسية شديدة تؤثر على قدراته الذهنية، يجمع الطبيب المتخصص في هذا المجال ما بين دور المعالج الفيزيائي (العلاج الطبيعي) والطبيب النفسي، وأيضًا المدرب المؤهل لذوي الاحتياجات الخاصة.
مع وقوع انفجار مرفأ بيروت، مساء الرابع من أغسطس الجاري، خرجت الدعوات لتواجد الأطباء والممرضين على الأرض لتدارك الكارثة، ودت لمى المشاركة كطبيبة لديها خبرة في الاسعاف، لكن الأولوية كانت لمعالجين الصفوف الأولى. لازم طبيبة التأهيل الطبي التفكير في الضحايا "هدول الجرحي منهن راح يصير عنده حالة بتر أو شلل ويمكن صدمة نفسية هتأثر على الذاكرة والتركيز"، مما يعني حاجتهم لمعالج يساندهم في الحياة الجديدة.
أعلنت أخصائية التأهيل الطبي وعدد من زملائها التطوع لتقديم خدماتهم مجانًا مثلما فعل الكثير منذ وقوع الانفجار، لكن جاء رد الفعل مختلفًا تجاههم "بلشت الناس تسأل شو يعني علاج انشغالي"، صار على الطبيبة توضيح ماهية دورها حتى يستطيع مَن يعرف مصابًا التواصل معها أو أي متطوع آخر يحمل التخصص ذاته.
يجهل الكثير من اللبنانيين بالعلاج الوظيفي المقتصر تدريسه على الجامعة اللبنانية، ومَن يلجأ إليه يتكبد الكثير، إذ لا يغطي الضمان الاجتماعي نفقات التأهيل الطبي كما تقول لمى "سعر الجلسة يصل لـ20 دولار والمريض يحتاج تدخل من 3 إلى 6 أشهر ليقدر يستعيد قدراته ومهاراته ياللي فقدها بالحادث".
يوجد في لبنان نحو 200 متخصصًا في العلاج الوظيفي، ليس جميعهم يزاولون المهنة، العديد انتقل لمهن إدارية أو العمل بالجمعيات الأهلية، أما لمى وقلة أخرين داوموا العمل في مراكز وعيادات خاصة بهم.
نحو 5 آلاف إصابة أعلنت عنها وزارة الصحة اللبنانية -حتى الآن- جراء انفجار مرفأ بيروت، نحو 300 ألفًا أصبحوا بلا مأوى، صارت بيروت مدينة منكوبة، لكن ثمة أثر لم يظهر بعد، تتصور لمى ما يمكن أن يضمه هذا العدد الضخم من الضحايا؛ مَن يخسر يده ومعها استقلاليته في حياته اليومية، آخر يصيبه الحادث بخلل جسدي أو فكري يفقده المهارات التي في الطبيعي يخسرها الإنسان بعمر الخرف، وأشخاص يتعرضون لجلطات نتيجة الصدمات والضربات، رضوض المفاصل والعظام وما تسببه من تشنجات مستمرة، وأخرين يلازمون الغيبوبة لفترات طويلة.
بعد المصاب يحين دور أخصائي التأهيل الطبي "نتدخل لتخفيف حدة هذه العوارض ونساعد الشخص على تطوير مهاراته العضلية والفكرية ليمارس حياته بشكل أقرب ما يمكن لحياته ياللي كان عايشها من قبل بالاعتماد على نفسه بدون مساعدة الغير"، يحدث ذلك على سبيل المثال بتدريب المريض على المعينات الحركية من عكاز وكرسي متحرك، التصميم المنزلي ليلائم الوضع الجديد، وتقديم النصائح لمسؤولي الرعاية.
لم يغب الأطفال عن مشهد الكارثة، هم كذلك على شفا التهديد المستقبلي، خاصة حديثي الولادة، قد تتسبب الصدمات الجسدية والنفسية التي تعرضوا لها لإعاقة النمو، لكن ذلك قد لا يظهر إلا مع التقدم بالعمر حسب لمى "شوي شوي ممكن يبلش –يبدأ- ملاحظة تأخرهن وخسارة مهارتهن وهنا يبلش تدخل المعالج الانشغالي". لجلستين أو ثلاثة أسبوعيًا، ولوقت يتراوح بين 30 إلى 45 دقيقة، يستمر علاج المريض لفترة أدناها ثلاثة أشهر وأقصاها "طيلة العمر" لبعض الحالات.
منذ عامين تمارس لمى العمل رسميًا كإخصائي تأهيل طبي، افتتحت أكثر من عيادة في محافظة النبطية مكان إقامتها بجنوب لبنان، وتعاونت مع عدة مؤسسات تقدم الخدمات الطبية والتعليمية لذوي الاحتياجات الخاصة، سبق ذلك 4 أعوام من التدريب أثناء الجامعة، طافت صاحبة الأربعة والعشرين ربيعًا مختلف المراكز المتواجدة على الأراضي اللبنانية، لكن الاختبار الحقيقي لمهنتها جاء في السنة الثالثة لها بالكلية، وقت أن سكنت بيروت للدراسة.
مساء الثاني عشر من نوفمبر، العام 2015، رج تفجيران ضاحية صغيرة في جنوب بيروت تسمى "برج البراجنة"، أسفر العمل الإرهابي الذي تبناه تنظيم "داعش" عن قتل نحو 44 شخصًا وتجاوزت الإصابات 200 آخرين، كان المصاب كبيرًا حينها، اطلعت لمى على العديد من الحالات، لكن التدخل العلاجي جاء متأخرًا.
بعد ثلاث أعوام التقت لمى شابًا، بلغ السابعة والعشرين من عمره ولم يستعد ذاكرته بعد، فقدها بعدما غادر منزله غاضبًا من زوجته في طريقه لأحد المشايخ يستشيره فيما وقع بينهما، محى التفجير خلاف الزوج مع شريكته كما فعل بتفاصيل حياته. وصل الشاب متأخرًا للطبيبة، ظلت تتابعه حتى اليوم، تعايش تفاصيله مع الزوجة التي لازمته، خفت الجلسات وتهيأ محيطه للحياة الجديدة إلا أن العلاج مستمر شأن العديد من مصابين الكوارث.
كانت ثقافة اللجوء لطبيب معالج ما بعد الكارثة "شبه منعدمة"، لذلك بدأ الأطباء المشخصين في إحالة ضحايا "برج براجنة" للتأهيل الطبي عام 2018 "بعد تراكم حالات الإعاقة والإصابات الجسدية وتراجع القدرات الذهنية بشكل كبير نتيجة ملازمة الضحايا للمنزل والتعامل مهم بالأسلوب المتبع مع ذوي الاحتياجات الخاصة بتوفير احتياجاتهم من قبل فقط مسؤولي الرعاية من زوجة أو أهل أو جليس".
لا تريد لمى أن يلاقي ضحايا انفجار مرفأ بيروت مصير مصابين "برج البراجنة"، لهذا تطوعت مبكرًا، رغم علمها أن دور أخصائي التاهيل الطبي لن يكون قبل أسبوعين على الأقل من وقوع الحادث، بعد التأكد من شفاء الجروح، أرادت الطبيبة ألا يُترك للإهمال مجال، خاصة أنها لاحظت وجود عدد من الأطفال حديثي الولادة والمسنين الذين يعتبروا الأكثر تهديدًا بخسارة قدراتهم الجسدية والنفسية كما تقول.
تبحث لمى ورفاقها عن آلية لرصد كافة المرضى بالتعاون مع المستشفيات، يسعون للضغط على النقابات للتكفل بالخدمات العلاجية أو المساعدة في تنظيمها بشكل صحيح، فيما تواصل أخصائية التأهيل الطبي تكرار نشر دعوتها للتطوع والتعريف بتخصصها، لا ترغب لمى في انتظار الضحايا، تعزم أن تصل إليهم بمجرد علمها بحاجتهم، بينما تتعهد بتقديم العلاج "مدى الحياة لأي مريض يلجأ لخدمة العلاج الوظيفي ويذكر أنه من ضحايا انفجار بيروت".
فيديو قد يعجبك: