سوا في المنحل.. رحلة فلسطيني وصغاره مع إنتاج العسل
كتبت-إشراق أحمد:
لكل شيء سبب يساق إليه، ولولا مرض ناصر عبد الكريم غنّام، ما اختبر الرجل الأربعيني معنى أن يكون أولاده هم السند رغم صغر عمرهم، وما حصل على شركاء في مشروعه لتربية النحل بعد أعوام ظل فيها وحيدًا، فاليوم أصبح ابنيه جميل ونزار رفاق العمل في إنتاج العسل لمدينة الخليل الفلسطينية.
بحكم سكن غنام في منطقة ريفية، داخل قرية دورا –جنوب غرب الخليل- اعتاد أبناؤه التواجد في البرية، يرافقانه لكن حدودهم بعيدًا عن النحل، إلا أن حدثًا دفع الصبيين لدخول عالم العسل؛ قبل ثلاثة أعوام، أصيب الأب بتمزق في القدم، تعذر عليه الحركة، وما كان بالإمكان ترك العمل لفترة طويلة، لذا حين استطاع الخروج من المنزل، بادر ابنه الأكبر نزار بالذهاب مع والده لمساعدته، كان في عمر التاسعة، رأى الصغير للمرة الأولى خبايا الحصول على المنتج المتواجد دومًا في بيتهم، وحينما عاد لشقيقه وأخبره "أصبحوا يتنافسون على مَن يعمل إلى جانبي".
سريعًا اتقن نزار (12 عامًا) وجميل (11 عامًا) تفاصيل التعامل مع النحل، الشعور بالمغامرة والإثارة دافعهما لاستقبال المعلومات بشغف كما يقول الأب لمصراوي. يومًا تلو الآخر صار ينقل غنام لولديه خبرته في إنتاج العسل على مدار نحو 15 عامًا، لم يخش عليهما شيء أكثر من العقارب والأفاعي المهاجمة للمنحل "استمريت فترة طويلة حتى علموا أن خلايا النحل يتربص بها الحشرات الضارة والسامة وإذا لم ينتبهوا ستقوم بلسعهم أو قرصهم"، لكنه اطمأن لحسن تصرفهما مع الصعاب، وماكانت هناك مشكلة سوى أمر واحد؛ كيف يواصل الصغار العمل دون ملابس مناسبة؟
كان نزار يبلغ التاسعة أعوام وشقيقه الثمانية حين التحقا بالمنحل، لا يوجد في فلسطين بذلات خاصة للتعامل مع النحل تناسب جسدهما الصغير"كانوا يلبسوا لبسي القديم ويربطوه بأحزمة"، استمروا على ذلك الحال وبالتزامن سعى الأب لتوفير الرداء المناسب، تواصل غنام مع صديق له يستورد ملابس النحالين من تركيا والصين، وبعد محاولات عدة امتلك الصبيات بدلاتهما البيضاء بالعام التالي لهما في المنحل "وكانت البداية الحقيقة لجميل ونزار في العمل".
في مثل هذه الأيام من فصل الصيف، يقطع غنام ما بين 20 و25 كيلو مترًا من منزله في قرية دورا، يتجه نحو الجبال، صوب موقع خلايا النحل خاصته، عندها يتقدم نزار وجميل لتفقد الصناديق الخشبية، يفتحاها بدأب شديد، يسحبون بتمكن خلية تلو الأخرى، يتابعون حال العسل وإن ما كان عليهما جمع كمية منه. لا خوف ولا رهبة تصيب غنام على طفليه، زال هذا قبل زمن، منذ تمكن الصبيان من "العناية بالنحل لحالهم" وحتى دون ارتداء الملابس الخاصة.
أصبح جميل ونزار رفاق عمل والدهما وصاحبيّ سفره وليسا فقط أبنائه، يأنس غنّام بهما في رحلاته لنقل الخلايا من مكان لآخر "في الخريف نضعها في مناطق منخفضة (غورية) وفي الربيع والصيف في مناطق جبلية"، يرتحلا معه لساعات في مسافات تبعد عن منزلهم لنحو 300 كيلو مترًا.
يهون وجود الصبيين على الأب "ناخد العمل بالمزاح والفكاهة ثلاثتنا كأصدقاء"، يشتاقون معًا للحظة الحصاد في مواسم قطف العسل، فيما يساندون بعضهم في الأوقات العصيبة "نعاني أثناء ذهابنا وعودتنا إلى المنحل. تتعمد بعض سيارات الاحتلال إيقافنا لفترات طويلة أو إعادتنا من الطريق". تقع قرية دورا على شارع يربط بين مستوطنات إسرائيلية في جنوب الضفة الغربية بالقرب من منطقة بئر السبع كما يقول غنّام، وكثيرًا لفعل ممارسات الاحتلال لا يستطيع الأب وابنيه الوصول إلى عملهم.
لا يخفف مشقة العمل وما يتعرض له غنام إلا رؤيته لصغاره؛ وقع جميل ونزار في محبة العسل، حتى إنه ذات يوم تعرض جميل لقرصة نحل، كانوا في منطقة بعيدة عن السكن، دب الخوف في نفس الأب بعد إعياء ولده، لكن الصبي ظل على حماسه، لم يتردد جميل ولا نزار يومًا في الذهاب إلى مواقع النحل، حتى في أصعب الفترات.
حين تفشى فيروس كورونا في منطقة الخليل والعديد من بقاع فلسطين، فُرض الحجر الصحي ولزم المواطنون المنازل، إلا غنّام وأبنائه، كان لدى الرجل الأربعيني تصريح من وزارة الزراعة الفلسطينية بمزاولة العمل خاصة وأن حدوده الجبال والخلاء، لم يستشعر النحالان الصغيران الملل مثل أقرانهم في تلك الفترة، ظلا يصحبان أبيهم بشكل شبه يومي إلى خلايا النحل، بل ويدفعانه في كثير من الأحيان، فإن تأخروا عن موعد ذهابهم صباحًا، أحدثا جلبة بالمنزل وصاحا لوالدهم "يلا يابا بدنا نطلع على الشغل".
انعكس عمل نزار وجميل بالمنحل على شخصياتهما؛ اشتد قربهما كأشقاء "أصبحوا أصدقاء يذهبون إلى المنحل والمدرسة"، اندمجا مبكرًا في المجتمع، تعززت ثقتهما بأنفسهما كما يقول غنّام "أصبحوا من المتحدثين في المهرجانات والاحتفالات المدرسية"، صار الصبيان معروفان في محيطهما بكونهم أصغر النحّالين في فلسطين، التي يتراوح عدد العاملين فيها بمجال إنتاج العسل ما بين 1800 وألفين نحّال حسب مركز المعلومات الوطني الفلسطيني.
بوجود نزار وجميل انكسرت وحدة غنّام في العمل، لم يعد يحتاج لمعين إلا وقت نقل الخلايا، ووجد مَن يشاركه تطلعاته وإنجازاته، فحين بدأ الأب مشروعه قبل 15 عامًا، أراد أن يستثمر وقت الفراغ بعد دوام عمله كمعلم تربية رياضية في الخليل، فضلاً عن رغبته في تناول عسل طبيعي تنتجه يداه، تلك المهنة المعروفة بين أهل فلسطين، واليوم غنّام بصحبة ابنيه يعد صاحب المركز الثاني بين مالكي خلايا النحل في الخليل.
يسعد غنّام بصحبة صغيريه على مدار الأيام، كلما نظر إليهما مُنح نشاطًا مغايرًا "استمتع بروح المسؤولية لديهم. رغم صغر سنهم أشعر بالرجولة والمسؤولية العالية في عملهم وأيضًا تفوقهم في المدرسة"، فيما يمتن لرغبتهما في مزاولة تربية النحل بالمستقبل، وحلمهما بدراسة الطب أو الهندسة.
فيديو قد يعجبك: