قلبه يعرف الطريق.. سيرة صحفي كفيف يبحث عن الأمل بين مآسي العراق
كتبت-دعاء الفولي:
ثلاثة أيام لم يتوقف خلالها تعذيب حيدر البصير. لم يشفع له فقدان البصر عند الميليشيا التي اختطفته عام 2006، كبّلوه قدمه ويديه، هددوه إذا لم يتوقف عن قول رأيه فسيكون مصيره القتل، ولمّا يأسوا منه قرروا القضاء عليه، لولا أن علم المسلحون بقدوم الشرطة العراقية ففروا؛ تركوه وحيدا في منزل مهجور، تمنى فقط أن يلتفت أحد لوجوده، لم يشعر يوما أنه صاحب إعاقة بصرية إلا تلك اللحظة، ساعات مرت لا يدري كنهها، حتى عادت الشرطة لمقر المنزل، ظنّوا أنه مات، قبل أن يكتشف أحد الضباط العكس، خرج البصير من المحنة الأولى حيا، أصبح شخصا مختلفا؛ لا يخاف، لا يُثنيه انطفاء نور عينيه عن العمل في الإعلام كما أراد دائما، يتحسس أماكن المغامرات ويقصدها، يخرج مع قوات الجيش العراقي لتوثيق القتال مع تنظيم داعش الإرهابي، أو يطوف الشوارع لعمل تقارير ميدانية من بغداد. كلما ضايقه أحدهم بسبب إعاقته، نفض عنه ذلك، فقد عايش الأسوأ ونجا.
قصة البصير متشابكة؛ وُلد صاحب الـ32 عاما في بغداد كفيفا، كان العالم بالنسبة له مذياع كبير، بينما أقرانه الصغار يلهون في الشارع "أصبح الراديو لعبتي المفضلة"، حفظ كل ما يسمعه "حتى نشرات الأخبار كنت أقولها مثل المذيعين"، باتت المحطات العراقية والمصرية سلواه، أراد العمل داخل ذلك الصندوق يوما ما.
الحياة في بلد أنهكته الحروب ليست يسيرة، عايش البصير ذلك منذ أنهى مرحلة الثانوية، اكتشف أن المجال المفتوح له كضرير ينحصر في 3 كليات "إما الشريعة أو اللغة العربية أو الموسيقى، لم يكن ذلك ما أردت"، استغنى الشاب عن الدراسة الجامعية مؤقتا، وبدأ العمل في عدة إذاعات منذ كان في السادسة عشر من عمره "لكن ما يحدث في العراق لازمني طوال الوقت"، ففي فترة عمله بإذاعة تابعة للصليب الأحمر الفرنسي عام 2004 "دخلت ميليشيات مسلحة المحطة وقتلوا اثنين وتم إغلاقها"، لحسن الحظ أنه لم يتواجد يومها، لكن اختطافه عقب ذلك بعامين كان لصراحته، إذ لم يتوقف عن إبداء رأيه عبر الراديو بما يحدث في العراق من حرب أهلية، استغل كل فرصة ليتحدث عن الوضع المأساوي "وعوقبت بسبب ذلك لكنني لن أتوقف عن الكلام".
يحارب البصير على جبهات عدة؛ ينقب عن وسائل تساعده على تأدية عمله الإعلامي بصورة أفضل، يتأقلم مع ظروف العيش الصعبة في بغداد، ويواجه التنمر من البعض بسبب إعاقته، وفي المقابل يستمتع إذ يحقق انتصارات صغيرة متتالية؛ يتذكر عام 2010 حين كان مُعدا لبرنامج ثقافي في إذاعة حياة إف إم العراقية "وقتها كانت عيني على تقديم نشرات الأخبار"، لم تواتيه الجرأة ليفصح عما يريد، حتى اعتذرت إحدى المذيعات يوما بسبب حادث طارئ.
سرت حالة من التوتر داخل استديو الإذاعة وقتها، كان مخرج النشرة يبحث عن بديل حينما اقترح عليه البصير أن يقرأ النشرة "قال لي بما معناه احنا مش هنهزر، لما ربنا يديك عين ابقى اقرأ بيها"، جرحته الجملة لكنه صمم، وضع له المخرج الخبر الأول على برنامج الـ word بالكمبيوتر والذي زوّده البصير بخاصية قراءة المكتوب بالصوت، حفظ الخبر بعد سماعه مرة واحدة "وقتها المخرج متكلمش خدني من إيدي ودخلني الاستديو قبل النشرة بدقايق"، ألقاها الشاب على المستمعين كأنما هي مطبوعة بعقله "وساعتها تم تعييني كمذيع لنشرات الأخبار".
لم يكتفِ البصير بالعمل في محطة إذاعية، حصل على ورش تدريبية عديدة في الإلقاء، وأخرى في الإعلام والصحافة، حاول تعويض ما فقده عقب المرحلة الثانوية. لم يفكر صاحب الـ32 في العمل الحكومي يوما "أصحاب الإعاقة في العراق يعملون بأجور أقل من المفترض.. نحن لا نملك وصاية على حياتنا الشخصية أصلا فما بالنا بالعمل؟"، خاض الشاب كثيرا من السجالات، أدرك قبل سنوات أن المادة 104 القانون العراقي المدني رقم 40 والمعدل عام 1959، تمنع أصحاب الإعاقة الذهنية والبصرية من حرية التصرف وضرورة وجود وصي "بالتالي أنا لا أستطيع التصرف في أموالي ولا أفتح حسابا بنكيا أو أستقبل أموالا يتم تحويلها لي"، لم تكن تلك المعركة هامشية بالنسبة له، حاول توكيل محامي لرفع دعوى قضائية "لكن محدش ساعدني، من يأسي بعثت رسالة لعدة منظمات حقوقية دولية لأن العراق بهذه المادة يخالف الاتفاقية الدولية لذوي الإعاقة"، فيما مازال ينتظر الرد.
في حياة البصير، تتداخل المغامرات، ينتصر حينا ويخفت نجمه أحيانا أخرى، لكنه لا يكف عن المحاولة، يشجعه المحيطون، ويفزعون إذا ما ألقى بنفسه إلى الهلاك، كما حدث بين عامي 2015 و2017، حين قرر الانضمام لجنود الجبهة أمام داعش.
مازال البصير يتذكر الجهد المبذول لإقناع إذاعة جمهورية العراق كي يغطي معارك الجيش في الموصل مع التنظيم الإرهابي، لم ينتزع البصير موافقة المحطة أبدا "اضطررت لكتابة ورقة اعتراف أني ذاهب بإرادتي ومسئول عن نفسي تماما لكني أقنعت الإذاعة بإخلاء ساعة لبرنامجي من هناك"، غير أن موافقة القوات المسلحة كانت الأصعب، فبعد محاولات عديدة "وافقوا أن أذهب بعض الأوقات شريطة وجود مرافق لي"، كان ذلك الشخص مصورا تابعا للجيش العراقي "كان هو عيني وأنا أجري الحوارات مع الضباط والجنود والناس".
حين يستعيد البصير تلك الأيام، يبتسم "كانت فترة جميلة.. كنت سعيد لأنني أول مراسل حربي عربي من ذوي الإعاقة البصرية"، ورغم أنها امتلأت بالأخطار "لكن كنت أشعر أنني بطل"، تقبل من حوله تلك الخطوة مع الوقت "إلا أمي.. كنت كل مرة أروح على الجبهة تقولي خايفة ترجع ميت"، كانت والدته تخاف أن يلتحق أحد أبنائها الذكور بالجيش.
فزع الأم لم يغير قرار البصير؛ يذهب للجبهة لعدة أيام ثم يعود لاستراحة قصيرة ببغداد، كان ذلك العالم جديدا بالنسبة له، مُنع أحيانا من الذهاب لأماكن بعينها خوفا على حياته، بينما في أوقات أخرى استطاع الذهاب، وكاد يفقد حياته في مرة؛ يحفظ الشاب التفاصيل جيدا "كنا في منطقة قريبة من الموصل، قال لي أحد الضباط امكث في السيارة حتى لا يراك آمر القوة ويطلب إعادتك للمقر"، كانت القوات تهاجم وكر للتنظيم الإرهابي "سمعت فجأة أصوات انفجار وإطلاق رصاص.. كنت معتادا على ذلك"، جذبته يد فجأة بعيدا، وخلال لحظات اكتشف أنه رهينة لأحد قناصي داعش "كان مختبئا وأخذني حتى تتركه القوات يذهب"، مرت الثواني كالسنوات "طلبت من القوات أن يقتلوني معه ولا يتركوه يأخذني"، علم أن مصيره سيكون التعذيب "الموت أهون ألف مرة من الوقوع بين يديهم"، لكنه اُنقذ للمرة الثانية على يد الجيش وقُتل الإرهابي.
لا يترك البصير فرصة للتعبير عن رأيه إلا واتخذها؛ خرج في تظاهرات أكتوبر 2019 التي انطلقت بسبب تردي الأوضاع المعيشية في العراق، فيما لم يسلم من التهديدات يوما، إما المباشرة أو عبر وسيط، يحتوي صندوق رسائله عبر فيسبوك على عشرات الرسايل "تارة بسبب آرائي على التواصل الاجتماعي وأخرى بسبب التظاهرات"، اعتاد الشاب تلك الحياة، ظلت وتيرتها واحدة، حتى أهدته الأيام فرصة الانضمام لبرنامج تدريبي تابع لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي بعنوان "حلق عاليا" عام 2018، وهي ورش للصحفيين ذوي الإعاقة من الوطن العربي، كان البصير الوحيد من وطنه.
21 يوما قضاها البصير في لندن، استعاد الثقة في مهاراته، قدم أكثر من حلقة عبر بي بي سي، إحداها من جامعة الخرطوم بالسودان، أعادت له الورشة حلمه الذي كاد يتمزق بسبب أحوال العراق "أن أصبح إعلاميا ومذيعا في التليفزيون والراديو"، لم يتذمّر البصير يوما من الفرص المتاحة، استغلها قدر استطاعته، إلا أن بعضها تركته، كما حدث مع الإذاعة الرسمية في العراق، فحين عُينت مديرة جديدة للبرامج أنهت عقده "كنت وقتها على الجبهة وأبلغوني بذلك"، منذ ذلك الوقت يعمل البصير بشكل حر ومتقطع في إذاعات مختلفة.
لم يشعر يوما أنه فقد شيئا "انا ولدت هكذا.. لا أعرف نعمة البصر أصلا حتى أحزن عليها.. تعامل الناس هو ما يجعلني أشعر بالنقص"، يحارب البصير يوميا لينال حقه؛ في العمل، التعليم، إثبات إمكانياته الاحترافية، يحاول أن يكون ضوءً لمن ضلوا؛ يُنظم دورات تدريبية لأصحاب الإعاقات الحديثة ببغداد "أدربهم على التأقلم مع الإعاقة"، يعلمهم استخدام وسائل التكنولوجيا والاعتماد على أنفسهم بشكل تام، يحمل داخله غصة أورثها له الوطن "لم أعد قادرا على البقاء في العراق، تعبت من كل شيء، أسعى للهجرة وبدء حياتي المهنية"، خسر الكثير بسبب إعاقته "لأني أعيش هنا وليس لأني معاقا"، تجتمع الأحزان في صدره إذ يتذكر الفتاة التي أحبّها "رفضني أهلها بسبب فقد البصر دون أن يعرفوني"، لا يرغب بشيء سوى العمل فيما يحب وإثبات نفسه، أن يُلقي ثقل ما رآه خلفه ويبدأ من جديد.
فيديو قد يعجبك: