إعلان

العيش وسط ضحايا الوباء.. كيف غيَّر "كوفيد-19" الحياة في جبّانات القاهرة؟

03:44 م الإثنين 21 سبتمبر 2020

جبّانات القاهرة

كتب- محمود عبدالرحمن:

ينقطع رنين الهاتف المتكرر، باستيقاظ مجدي جمال واستقباله مكالمة من مالك المقبرة المتواجدة في الحوش الذي يقيم فيه مع أسرته؛ يطالبَه صاحب المقبرة والحوش المتواجدين بـ"ترب المجاورين" بمنطقة منشية ناصر بالقاهرة، بفتح القبر وتجهيزه لدفن والده المتوفى، "هنتحرك من المستشفى بالجثمان دلوقتي عليك".

قبل أن ينهض مجدي من سريره، يعيد النظر في الهاتف ويكتشف أن الساعة تجاوزت الثالثة صباحًا، وعلى ضوء كشاف صغير يمسكه ابنه الذي أيقظه من نومه من أجل هذه المهمة، يبدأ جمال في رفع التراب من على باب المقبرة وفتح بابها الحديدي استعدادًا لوصول الجثمان.

ساعة تمر.. تصل بعدها سيارة نقل الموتى وخلفها سيارة ابن المتوفى بمفرده بدون مشيعين أو أقارب، على عكس ما هو معتاد كما يروي التربي، بمرور دقائق.. تتضح تفاصيل أكثر، يهبط من سيارة نقل الموتى ثلاثة أشخاص يرتدون بدلات وقائية وقناعات تخفي ملامحهم، يذهب أحدهم برفقة ابن المتوفى؛ لمشاهدة مكان الدفن ومعاينته، قبل نقل الجثمان إليه برفقة زَميلَيِه.

يستفسر مجدي من مالك المقبرة عن سبب الوفاة، خوفًا من العدوى إذا كان سبب الوفاة الإصابة بـ"كورونا": "لما سألته أنكر وقال مرض عادي مش "كورونا"، على باب المقبرة استقبل مجدي الجثمان من الثلاثة القادمين مع عربة الإسعاف؛ ليتفاجأ أن المتوفى ملفوف بعدة طبقات بلاستيكية فوق الكفن: "عرفت بعدها سبب الوفاة، بس كان خلاص مفيش حل قدامي".

الأولي

هذا المشهد الذي حدث أواخر يونيو الماضي، كان أول مرة يشاهده التربي وحارس الحوش؛ ليعرف أن المتوفى كان حاملًا لفيروس "كوفيد-19" وتوفي بسببه؛ وليطارده الخوف من الإصابة بالوباء الذي كان وقتها ذروة انتشاره في مصر.

الآثار السلبية لتفشي الوباء في مصر والإجراءات الحكومية التي اتخذت لمواجهته، طال تأثيرها عشرات المئات من سكان المقابر في القاهرة الكبرى تحديدًا، وتقطعت أرزاقهم وتوقفت أمورهم الحياتية، خاصة في الأشهر الأربعة الأولى لتفشي "كوفيد-19" (مارس وأبريل ومايو ويونيو).

إثر انتشار "كوفيد-19" انقطعت زيارات المقابر التي تعتبر أحد الطقوس التي تحظى بقدسية لدى عموم المصريين، يحرص بعضهم على زيارتها كل جمعة، ويقتصر تردد البعض الآخر على زيارة موتاهم في الأعياد، وبعد مرور الأسبوع الأول، وكذلك ذكري الأربعين والسنوية الأولى،.. وغيرها من المناسبات، لكنها تعتبر لقاطني المقابر أحد مصادر الدخل الأساسية التي تعيش عليها أفراد هذه الأسر الذين يقدرهم الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بـ1.6 مليون مواطن في القاهرة، ويبلغ عددهم 5 ملايين مواطن يعيشون بين الأموات في المقابر على مستوى الجمهورية.

الصورة الثانية_1

"الترب بقت مهجورة بسبب "كورونا"، وإحنا اعتمادنا على النفحة أو الحسنة اللي بتجي من الأهالي اللي بيجوا يوزعونها صدقة على أرواح أقاربهم"، تقول "أم تغريد" التي تقيم مع زوجها التربي، وتساعده في عمله منذ إقامتها بالحوش قبل 10 سنوات، "السنة دي لا فيها أعياد ولا مناسبات ولا زوار"، موضحة أن الأعياد بالنسبة لنا سواء الفطر أو الأضحى يكون في الزيارات التي كانت تأتي إلى المقابر، وترجع السيدة السبب إلى خوف الناس من "كورونا"، "في أيام كنا ننام فيها من غير عشاء".

البحث عن مصدر دخل آخر

انقطاع الزيارات وتأثر سبل الإعاشة دفع مجدي التربي وسيد حمدي مساعده في دفن الأموات إلى البحث عن مصدر دخل آخر لكي يستطيع كل منهما الإنفاق على أسرته وتوفير متطلباتهم اليومية، "إحنا على باب الله وأي حاجة بتحصل بنكون أول ناس نتأثر بها"، يقول سيد حمدي، الذي يعمل حاليًا في بيع المناديل الورقية أمام مدخل مستشفى الحسين، بعد وقف الحال في مهنته القديمة، يخبر زوجته قبل خروجه كل صباح" لو مجدي بعت لي علشان في حد هيدفن اتصلي عليا"؛ ليعود إلى المقابر التي يفصلها عن مستشفى الحسين الذي يتواجد أمامه طريق صلاح سالم وجراج السيارات، ويبدأ في تجهيز القبر استعدادًا لوصول الجثمان: "برجع على طول أدفن الميت، وأرجع تاني لبيع المناديل، رزقنا يوم بيوم، ولما الزيارات انقطعت بقى الحال صعب".

وتقول شيماء محمد زوجة سيد، زيارات الأهالي تعتبر خيرًا لنا: "لما حد يجي كان بيدفع 20 أو 30 أو أحيانًا 50 جنيهًا"، بخلاف أصحاب الأحواش الذين يتصلون بنا قبل المجيء للزيارة "عشان ننضف الحوش ونجهز لهم الكراسي في اليوم اللي هيجوا فيه، وكانوا بيدفعوا 200 أو 300 جنيه في الشهر"، وبعضهم يأتون بملابس أبنائهم المستعملة لأبنائي، وكان في رزق، دلوقتي كل حاجة وقفت بعد الزيارات ما انتهت.

شهدت الفترة الماضية ارتفاعًا ملحوظًا في أعداد الوفيات، مقارنة بالأيام التي سبقت انتشار فيروس "كورونا" في مصر، وفقا لتقدير مجدي التربي، موضحًا أن بعض الأحواش التي يوجد بها أربع أو خمس عيون في إشارة إلى عدد المقابر، كانت تستقبل في بعض الأيام أكثر من 4 حالات وفاة: "مكنش بيعدي يوم على المقابر إلا وفي حالات وفاة"، رغم ذلك "مكنش بيبقى في فلوس زي قبل "كورونا"؛ لأن الجنازات قبل "كورونا" بيكون فيها أقارب أو أصحاب المتوفى وأغلبهم كان بيراضينا، على عكس اللي بيحصل دلوقتي، يكون العدد قليل، والكل يتعامل بحذر وفي الجنازات حاليًا لا يوجد فيها غير واحد أو اتنين أو في أفضل الأحوال لا يتجاوز العدد 5 أفراد.

الصورة الثالثة

سميحة فاروق والدة عامل المقابر سيد حمدي، قبل بداية مارس الماضي؛ كانت تصطحب زوجة ابنها معها في عملها الذي تنظف فيه عددًا من الفيلات بمنطقتي الشيخ زايد والتجمع الخامس، تتعامل مع أصحابها منذ 3 سنوات: "كنت بروح يومين في الأسبوع، وكل واحدة مننا بتاخد 200 جنيه، أما مع بداية انتشار "كورونا" بدأ أصحاب هذه البيوت التعامل معنا بحذر "كانوا بيخافوا مننا"، وبدأ الخوف يتطور تدريجيًا، في الأول طلبت مننا صاحبة الفيلا الموجودة بالشيخ زايد ارتداء كمامة، وعدم خلعها طول فترة تواجدنا عندها، بينما في التجمع كانت صاحبة الفيلا تطلب من البواب تعقيمنا قبل الدخول إلى الفيلا، وصاحبة الفيلا الثالثة منعتنا من الذهاب إليها، وهو ما حدث بعد ذلك من أصحاب الفيلتين الأولى والثانية، قالوا مش هينفع تدخلوا البيت طول ما فيه كورونا"، تقول سميحة: "ابني عنده 4 أولاد وشغله اليوم بيومه، وكان الـ800 جنيه كل أسبوع تكفينا؛ بجانب شغل ابني، والحسنة التي كانت تصلنا من أصحاب المقابر وزوارها، لكن بعد "كورونا" "مفيش زيارات ولا شغل في بيوت، وأصبح لا يوجد لنا مصدر دخل يكفينا"، وتتمنى السيدة الخمسينية انتهاء "كورونا" والعودة إلى حياتها الأولى: "لما بتصل بأصحاب البيوت عشان نرجع نشتغل تاني يقولوا مش هينفع تيجوا خطر علينا وعليكم".

"كورونا" يُغيِّر تقاليد الدفن

دفن ضحايا "كورونا" في المقابر الموجودة داخل التجمعات السكنية تحتاج إلى مزيد من الإجراءات التي يتخذها مجدي جمال ومساعده سيد حمدي، بخلاف الإجراءات التي تطبقها وزارة الصحة، ويبرر مجدي ذلك بقوله: "إحنا عايشين في وسط المقابر بين الأموات، وسهل يتم نقل العدوى لينا"، سواء من جثامين المصابين بالفيروس الذين لم نعرف أنهم مصابون وذووهم لا يعرفون أو ممن تأكدت وفاتهم بالفيروس أو مرافقيهم؛ لذلك نقوم بالعديد من الإجراءات الإضافية منها الحفر أسفل المقبرة ما يقارب المتر ونصف المتر، ما يشبه مقبرة داخل مقبرة، ويوضع بداخلها المتوفى، ثم يغطى عليه بالتراب حتى مستوى أرضية المقبرة، بعدها نعقم المكان بالمواد المطهرة، بجانب التعامل بحذر مع الجثمان لعدم نقل العدوى: "بسمع إن الجثمان لو جاي ومتكفن في المستشفى مش بينقل العدوى بس الاحتياط واجب".

ومن ضمن الإجراءات الإضافية، عدم فتح مقبرة دفن بداخلها أحد المتوفين بالفيروس إلا بعد مرور فترة كافية حتى نتمكن من الدفن بها مرة أخرى: "برفض أفتحها وبطلب من أهل الميت البحث عن مقبرة تانية".

العزل داخل المقابر

أواخر أغسطس الماضي، عانى مجدي جمال التربي من ارتفاع درجة حرارته وآلام بالحلق بجانب ضيق تنفس وكحة؛ ليقرر التوجه إلى مستشفى الحسين الجامعي الذي حوله إلى مستشفى حميات العباسية للاشتباه بإصابته بفيروس "كورونا" "عملت اشعه وتحليل دم، وطلع عندي "كورونا"، وطلب مني الطبيب بعد وصف الأدوية الخضوع لفترة عزل منزلي لمدة أسبوعين، وفي حالة حدوث أي تطور لهذه الأعراض أعود مرة ثانية للمستشفى.

14 يومًا -فترة العزل المنزلي- لم يتخطَ فيها "مجدي" حجرة صغيرة ضيّقة، تقع في أحد أركان الحوش، التزامًا بتعليمات الطبيب وخوفًا أن يكون سببًا في نقل العدوى إلى أبنائه وزوجته، كذلك والده ووالدته اللذان يعانيان من أمراض مزمنة: "كانت أصعب فترة مفيش أي إمكانيات ولا علاج كويس ولا مصدر دخل"، يقولها مجدي.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان