30 عاما من الاختباء.. أمريكية توثق حياة عائلتها بفيلم بعد انتحار الأم
كتبت- دعاء الفولي:
كان الفيل يقبع في عقلها، منذ عام 1985 لم يتركها أبدا، تنام ويظل مستيقظا، تخوض أحاديث عادية مع والدها فيسخر منها، 30 عاما مرت منذ انتحار والدتها ولازال العبء يلاحقها، تخيلته دائما فيلا ثقيلا يعيش معها، كلما حاولت التحرر منه فشلت، قبل أن تواتيها الفرصة منذ خمسة أعوام فقط.
حينما كانت "راث جولدن" في التاسعة عشر فقدت والدتها؛ تجمّد الزمن، توقفت ذاكرة صاحبة الـ54 عاما عند تلك اللحظة؛ عندما ذهبت جنازة الأم ثم خلال الأيام التالية عادت هي وأختها الأصغر للدراسة، كانت وصية الوالدة ألا تتركان الحزن يأكلهما، أنهت الأم حياتها بعد إصابتها بالسرطان في مراحل متقدمة ووفاة والدها، ظنت أن رحيلها سيصلح كل شيء، وربما يجعل حياة أسرتها أفضل "لكن كان فقدانها بتلك الطريقة مأساة عائلتنا".
يناير من كل عام شهر مُرهق، فيه غابت والدة "راث" عن الدنيا؛ نفذت الابنة وصية والدتها بالحرف، حتى أنها تجنبت العلاج النفسي "والحديث مع أبي وأختي عن والدتي، لم نكن نتحدث عن حياتها أصلا لأننا عرفنا أن ذلك سيفتح أبواب كل شيء"، ظلت علاقتها مع باقي العائلة سطحية كذلك رغم الود "كنا نزور جدتي ونحتفل بأعياد ميلادنا ونخرج ونزور أقاربنا كأن شيئا لم يكن لكن ظلها كان يلاحقني"، تقول "راث" لمصراوي.
تعيش "راث" في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، كان العمل في التليفزيون شغفها الأكبر دائما، عملت في الإنتاج على مدار الأعوام بقنوات مختلفة، الصورة وسيلتها الأقرب للتعبير عما تريد، لم تتخيل يوما أن ما عملها سيخفف عنها ما مرت به؛ كانت تغبط من لديهم القدرة على الحكي "بينما كنت أنا أختبئ خلف حياتي وعملي وعندما تأتي سيرة والدتي عرضا أقول للغرباء إنها ماتت بسبب مرض السرطان"، خافت "راث" أن تضطر يوما لقول الحقيقة "لأني اعتقدت أني يجب أن أدافع عن والدتي"، لم تكن تخجل الابنة من قرار الأم "لأنها كانت سيدة جميلة، تساعد الآخرين ونشطة اجتماعيا، حاربت مرض السرطان طويلا ولم يهزمها إنما كان الاكتئاب ما دفعها لاتخاذ القرار"، لكنها لم تملك الطاقة الكافية للحديث بانفتاح، حتى اضطرت لمواجهة "الفيل" عام 2012.
تتذكر "راث" تلك الساعات التي بدلت شيئا بداخلها، وقتها اصطحبت كلبها إلى الطبيب في فحص دوري "اكتشفنا أنه يعاني من السرطان"، وجدت المنتجة نفسها في موجة هلع غير مبررة، تتصرف بلا منطقية، كاد الفزع أن يقتلها رغم أن حالته مستقرة، أدركت أن الأشياء الأصغر ما هي إلا انعكاس للمصائب المسكوت عنها، لذلك قررت الاشتراك في مجموعات دعم عائلات ضحايا الانتحار عبر الإنترنت، متخذةً قرار واضح؛ ألا تتحدث عن والدتها.
لأسابيع عديدة انخرطت السيدة الخمسينية في حكاياتهم "كانوا قد فقدوا أحبائهم بسبب الانتحار منذ أشهر فقط ومع ذلك واتتهم الشجاعة للحديث"، ظلت الابنة داخل القوقعة حتى تكسّرت الحواجز قليلا؛ حكت عن والدتها، ما تتذكره عنها وما لا تفعل، اكتشفت أن الحديث ثقيل لكن الكتمان يؤدي حتما للدمار "وقتها فقط، قررت أن أصنع فيلما نتحدث فيه عن والدتي".
مع الوقت، بات استرجاع الماضي أسهل، ساعدت المجموعة "راث" على مزيد من التحرر "قالوا لي إنني مثال حي على النجاة من حادث انتحار شخص قريب وإن الحياة تستمر رغم كل شيء"، كان وجودها بين من مروا بظروف شبيهة يساعدها ويساعدهم على حد سواء؛ بدأت التطوع في مؤسسة لمساعدة الأسر الناجية عام 2015 "سماع قصصهم غيّر حياتي"، يترك الانتحار الأسر في مآسي مختلفة، لكن ثمة أشياء مشتركة بينهم جميعا "الفقد والإحساس بالذنب والأسئلة التي لا إجابات لها، اقترابنا من بعض يجعل الأمور أهون"، تمنت الابنة دائما لو استطاعت كسر الحاجز مع أسرتها، لذا ومنذ عام ونصف نبشت الماضي "أرسلت بريد إلكتروني لأقاربي أسألهم إذا كانوا يريدون الحديث عن والدتي في فيلم وثائقي أصنعه لأجلها ولأجل ضحايا الانتحار"، وضعت يدها على قلبها "خوفا من ردود فعلهم"، غير أنهم وافقوا رغم الألم.
أصبحت الكاميرا ضيف عائلة "جولدن" الجديد، أمامها كسروا صمتهم، سجلت "راث" 7 مقابلات مصورة مع أفراد مختلفين ضمنهم شقيقتها ووالدها، وتسعى لإنجاز 4 مقابلات أخرى، لا تعتبر المنتجة الأمريكية الأمر مجرد وثائقي "لم أتخيل أن نفتح قلوبنا بذلك الشكل ونتكلم.. سيصيب الفيلم الناس بالدهشة لأننا قلنا ما يُقال خلف الأبواب المغلقة فقط"، تركت الابنة الكاميرا تعمل أحيانا لساعات وجلست للتحدث، عرضت فكرة الفيلم على الرابطة الدولية للأفلام الوثائقية ووافقوا على تبنّيها، غير أن تمويل العمل ماديا أصبح عائقا، فأنشأت "راث" موقعا لجمع التبرعات لصالح استكماله.
ما أن أعلنت المنتجة الخمسينية عن الموقع حتى تهافتت التبرعات "ليس من المهتمين فقط بل من أسر ضحايا الانتحار"، كلما شارك أحدهم بمبلغ مالي ولو قليل وضعت اسم من فقده على الموقع الالكتروني تكريما لذكراه، وخلال عملها على التصوير "تواصلت معي عدة أسر يبدون امتنانهم للفكرة" ويسألونها كيف يدعمون المشروع الذي أسمته الابنة "صمت آل جولدن".
تفككت عقدة "الفيل" رويدا، لم يعد وجوده يُرعب "راث"، مازالت علاقتها بعائلتها سطحية لحد ما "لكن لم نعد نخاف من الحديث عن والدتي، عادت لحياتنا مرة أخرى بعدما دفنّا سيرتها لـ30 عاما"، تخطط الابنة لعرض الفيلم منتصف العام القادم، تتمنى ألا يمر أحدهم بما عايشته و"أن يدرك المشاهدون كيف يغير الانتحار تفاصيل الأحياء، لعلنا نجعل أحدهم يعيد التفكير في قراره أو يطلب المساعدة أو نساند العائلات المكلومة".
تابع موضوعات الملف:
"لن تذهب دموعنا سدى".. أمهات سنغافورة يحاربن الانتحار الذي سرق الأبناء
"الصحة العالمية": 800 ألف شخص ينتحرون سنويًّا وكورونا غيّرَ خريطة الصحة النفسية عالميًّا (حوار)
حصلتُ على فرصة ثانية.. كيف صنعت "فوندا" من محاولة انتحارها طوق نجاة لآخرين؟
"لا تشعروا بالخزي".. صحفية هندية تساعد من لديهم ميول انتحارية
فيديو قد يعجبك: