فقدتها أسرتها 12 ساعة.. رحلة البحث عن "ديانا" في انفجار بيروت
كتبت-إشراق أحمد:
مازال وقع ما جرى يؤرق نفس الصغيرة، مع أقل موقف أو كلمة تنفعل ديانا أحمد، تدخل في كومة غضب عارم، يلاحظ والدها تبدل حالها منذ انفجار مرفأ بيروت، يحزن لألم ابنته والأجواء العصيبة المحيطة بالأسرة، إلا أن ذلك أهون عليه ألف مرة من تلك الساعات التي كانت فيها ديانا بين أعداد المفقودين.
في الرابع من أغسطس المنصرف، مع السادسة مساءًا، يعود أحمد عمر إلى منزله بحارة السلم –جنوب بيروت، تستقبله ابنته الوسطى، تخبره ديانا "بابا بدي أروح اشتري اندومي"، يعطيها الأب المال، تتوجه الطفلة ذات الاثني عشرة عامًا إلى المتجر، فيما ينتظر عمر مع صغيرته "جوانا" لحين عودة زوجته من العمل. تنقضي عشر دقائق، يهتز العقار، يظن الوالد أن زلزال ضرب المنطقة "والبناية راحت"، ينظر إلى التلفاز، انطفأت الشاشة وكذلك فعلت الحياة في بيروت. تنتهي الرجفة، يعود الرجل إلى ثباته لكن ابنته ديانا لم تعد.
في البداية، لم يسكن الخوف نفس عمر، ابنته الصغيرة بحضنه بلا أذي، ولا أضرار في بيته، ما تخيل النازح من سوريا قبل 8 أعوام أن تلاحقه الكوارث في محل إقامته، لكن ما خرج إلى الطريق حتى تأكد أن الخطب كبير؛ الجيران جميعهم فزعوا من بيوتهم، خرجوا على هيئتهم، مَن منهم بملابس النوم، وأخرين بالكاد يقفون على أرجلهم، انخلعت أبواب من مكانها والزجاج يكسو الطرقات.
ما كاد يستوعب عمر ما حوله حتى استقبلته زوجته بينما ينهش الرعب ملامحها، استعاد الرجل الخمسيني وعيه إزاء ما يجري، تذكر خروج ديانا قبل ربع ساعة إلى المحل القريب من منزلهم "لكنها مو مبينة"، راح يبحث عنها في الحي، يسأل الجيران عن رؤيتها بالأرجاء لكن لا أثر.
كانت ديانا بلغت المحل الواقع على الطريق، أحضرت "الاندومي" المفضل لديها وهمت بالعودة، إلا أن الانفجار دوى على بعد أقل من 5 كيلومتر من وجودها، سقطت الصغيرة أرضًا، ثم وقفت ثانية وقدماها تترنح في فزع، بينما يعج الهرج حولها، التقطها أحد المارة ينتشلها من المكان إلا أنها فقدت التواصل، أغمضت الصغيرة في عيناها، غابت عن الوعي قبل أن تُدلي بأي معلومة عنها.
في حي السلم القريب من المرفأ، أخذ الجميع يبحث عن ديانا، توجه الأب إلى قسم الشرطة، ترك اسم ابنته، ونشر الأصدقاء والمعارف على مواقع التواصل صورة الطفلة ونبأ فقدها، حينها كانت الضحايا تجاوزت مائة إصابة و4 آلاف جريح، دار عمر على المشافي يقتفي أثر طفلته بلا جدوى، بالتزامن كان يدور نبأ عن طفلة مصابة في مشفى الجامعة الأمريكية في بيروت لا تقوى على الحديث، فقط كشفت عن اسمها الأول "ديانا".
تداولت المعلومة وتلقفها مجموعة متطوعين، أحدهم اطلع على منشور الأب السوري فتواصل معه، تلقى عمر الاتصال بفرحة سرعان ما عاد بعدها لخيبة أمل عقب استقباله صورة الفتاة المصابة؛ لم تكن "ديانا" الراقدة في المشفى ابنته، ليعود ابن مدينة حلب السورية إلى البحث ثانية.
حتى الرابعة فجر اليوم التالي للانفجار، ظل الأب يتردد على المستشفيات، يتلاحم ألمه مع المصاب الجماعي، يبحث بين وجوه المصابين عن ابنته، يقف جوار المكلومين والمتلهفين لكلمة تنزل بردًا وسلامًا على نفوسهم الملتاعة، وجد عمر حاله في قلب التيه "حالة ضياع. ما حدا بيسأل على حدا كله صار ضايع لحد النهار"، كاد أن ينهار لولا أن استقبل اتصال بينما يتواجد في مستشفى رفيق الحريري، أحدهم يخبره أن ابنته بحوزته، وجدها عليلة على الطريق فتلقفها وأسرته بالرعاية.
لم يكذب عمر الخبر، سرعان ما توجه لسد البوشرية، مكان منزل الأسرة التي استقبلت ديانا. من وقت العثور عليها حتى الثالثة فجرًا غابت الصغيرة عن الوعي، عجز المضيفون عن معرفة أي شيء عنها إلى أن استيقظت، فوجدت نفسها في بيت غريب، ومن ثم أخبرت المحيطين عن اسمها كاملاً ورقم هاتف أبيها.
مع السادسة صباح الخامس من أغسطس سكنت الصغيرة حجرتها، لم تصاب ذات الاثنا عشرة عامًا بأذى جسدي، لكن الضر مس روحها، بدا ذلك مليًا لأبيها "حالة رعب وخوف ملازماها. كل شيء بيفكرها بالانفجار"، لا يدري عمر ما جرى داخل نفس طفلته، ما يعلمه أن يومًا غادر بلده ليتفادى مثل تلك اللحظات "كانت القذائف المدفعية تنضرب في ثكنة قريبة حد البيت كانت تخوف الولاد كتير"، مما اضطره للفرار إلى الضيعة في قرية عفرين –مدينة حلب السورية- قبل أن ينتقل إلى لبنان فبراير 2012.
عادت ديانا لحضن أبيها وأسرتها، لكن ثمة طفلة أخرى تحمل الاسم ذاته لا أحد يعرف عنها شيء "ضلوا يومين ورا الحادث يحكوا مكالمات عن البنت بالمشفى على أنها بنتي"، يقول الأب إنه سمع أن "ديانا" التي بالمشفى من سوريا أيضًا لكنها فقدت أسرتها في الانفجار، لا يجزم عمر بما علم لكنه حاول به التخفيف عن ابنته "راح اجيب لك ديانا التانية تراعيها عقابًا لك على الذعر اللي حصل فينا في غيابك". يعلم الأب أن الأمر يدعو للبكاء أكثر من الابتسام، لكن لا مفر.
بلغ عدد ضحايا الانفجار نحو 190 قتيلاً، من بينهم 43 سوريًا على الأقل، وأكثر من 6 آلاف إصابة. تبدلت الحياة منذ تفجير المرفأ، صارت أكثر ضغطًا وحزنًا على الأب السوري، يشعر أن المآسي تطارده "هربنا من القصف في سوريا لاحقنا لبيروت"، حتى التفكير في العودة لوطنه بات عصيًا "صار في قوانين حاطينها على الحدود. كل شخص بيرجع لازم يصرف 100 دولار"، ما يتحصل عليه الأب العامل في أحد محال بيروت التي تضررت لا تكفي المعيشة "نحنا مكسورين ماديًا"، ومع ذلك لا يشغل عمر في هذه اللحظة سوى ابنته، لا يتمنى أكثر من تعافيها نفسيًا، فهذا ما تبقى لهم. فقط أن يكونوا بخير.
تابع موضوعات الملف:
7 أيام خلف الأمل.. قصة المفقود الأشهر في مرفأ بيروت
"كرمال يخلص الكابوس".. بطولات "الحماية المدنية" في قلب كارثة بيروت
50 ألمانيًا بين أنقاض بيروت.. قصة فريق تطوع للبحث عن المفقودين (حوار)
"كعب داير" في بيروت.. رحلة البحث عن الضحايا المصريين بانفجار المرفأ
ليجد الأهالي أحبتهم| طالبة تُنشئ قاعدة بيانات للمفقودين بانفجار بيروت
معدات خاصة وكلاب مُدربة.. طُرق البحث عن المفقودين في كارثة بيروت (تقرير)
فيديو قد يعجبك: