"العائش" في الشارع.. ملامح وحيد حامد في لقاءاته التلفزيونية
كتبت- شروق غنيم:
لايزال المشهد عالقًا في ذهن الكاتب الكبير وحيد حامد؛ يرسم ملامحه في لقائه مع الإعلامية منى الشاذلي، يحكي لها عن اللحظة التي تغير فيها مسار حياته حينما أهدى للكاتب الراحل يوسف إدريس مجموعته القصصية بمشاركة كُتاب شباب من جيله، بلهفة ذهب لمقابلته في مطعم مجاور لمبنى التلفزيون المصري، يتعجّل اللحظة التي يُخبره فيها الأديب برأيه في المجموعة غير أنه لم يتطرق لها "وضح لي إنها معجبتهوش خالص"، لكن قبل نهاية اللقاء أشار إدريس إلى ما يقبع خلف حامد "قالي بص وراك، شايف إيه؟ مستقبلك هناك، في الدراما مش سرد القصة القصيرة". وقد كان.
"مدين لمن أضاء لي الطريق"
في حواراته التلفزيونية المتنوعة يتجول وحيد حامد في مسارات مختلفة من حياته، غير أن مع كل لقاء جديد يرسم ملمحا جديدا من شخصيته، يُطلق العنان للمواقف التي مر بها خلال مسيرته. الامتنان شعور يملأ نفس الكاتب الذي صعدت روحه لبارئها، اليوم السبت. ظل لآخر لحظاته التي يخرج فيها للجمهور يتحدث عن شخصيات أثرت في حياته وأثرتها، يتنقّل عبر الأجيال المختلفة التي تركت طابعًا بداخله.
لا ينسى في أغلب لقاءاته المرور على سيرة الكاتب الراحل يوسف إدريس، ظل حامد مدينًا له بأنه أضاء له الطريق، ويتذكر حينما كان يقابله بعدما تحقق في السينما وحقق خطوات كبيرة "كان يشوفني ويقولي يا ولا أنا اللي دليتك على السكة، خد قصة من قصصي واعملها فيلم". لكن لم يتمكن من ذلك، ظلت غُصة بداخله حتى ذابت مع شغف ابنه مروان بالمجال نفسه "مشروع تخرج ابني كانت قصة للأستاذ يوسف إدريس وكمان أول فيلم قصير باسم ليلي..كنت مرتاح وقتها".
"الفلاح الذي بداخلي "
بفخر يتحدث صاحب "طائر الليل الحزين" عن نشأته في قرية بني قريش بالشرقية، وكيف ينظر لنفسه باعتباره "فلاح وطالع من البلد بأخلاق القرية ودي مرحلة مهمة وليها أثر طيب في تكويني النفسي والثقافي".
عاش الكاتب الكبير في قريته حتى عامه السادس عشر، خلالها تشرّب حياة ومشاكل الفلاحين، عايش لحظات أفراحهم وأحزانهم، مبادئهم، ومن قريته النائية سافرت أولى قصصه القصيرة إلى العاصمة. لم يتخيل الصغير الذي يخطب في الإذاعة الصباحية أن يصل إلى المدينة المُبهرة بكتابته "مكنتش حتى إذاعة بمعناها المعروف لإنها كانت مدرسة فقيرة".
في مرحلته الثانوية عرف عن نادي القصة الذي يُقام في القاهرة، لمعت عيناه وقرر المشاركة دون أي توقعات "كانت مسابقة للقصة القصيرة فبعت جواب جواه اللي كتبته" ونسي الأمر حتى فازت القصة "وقتها كنت حاسس إن أنا عملت حاجة ليها قيمة، ومن ساعتها كنت أقطع تذكرة القطر بـ25 قرش عشان أروح القاهرة أحضر ندوة نادي القصة، كانت في فيلا في شارع القصر العيني، اتعرفت على أساتذة كبار كان بالنسبة لي مستحيل إني أشوفهم حتى، لكن تواضعهم ومحبتهم فاجئتني وساعدوني بآرائهم".
حينما أتّم عامه السادس عشر ارتحل حامد من قريته إلى العاصمة في أوائل الستينيات "القاهرة بالنسبة لي كانت مسارح مضاءة، ودور عرض سينمائي ومكتبات. كانت نقلة حضارية ومرحلة ثانية بالنسبة لي إني أنتقل للمدينة وأروح للمجتمع اللي فيه كهرباء عن القرية الهادئة" كما يقول في حواره عام 2014 مع الممثلة إسعاد يونس.
"قراءة المجتمع قوة"
التصقت كلمة "النبوءة الفنية" بالكاتب الراحل وحيد حامد، تصير الأحداث الدائرة في أفلامه وقائع يعيشها المصريون، لكنه كان يرى الأمور بشكل مختلف، لم يكن يرى نفسه شخصًا صاحب نبوءة، بل شخصا قادرا على القراءة الجيدة لحال المجتمع والناس والأحداث "وتعمل حسابات لو حصل كذا هيحصل كذا، زي الأرصاد الجوية هما بيتنبأوا بالطقس لكن مبني على مسائل علمية مش قائمة على الغيب".
القراءة السليمة للمجتمع كانت من سمات حامد، يعرف ذلك جيدًا ويؤمن بأن المعرفة قوة وأنها ليست قاصرة على شخص بعينه "عالم الذرة لديه معرفة والفلاح البسيط الذي لا يقرأ ولا يكتب لديه معرفة" كما يقول في حواره عام 2016 مع الإعلامية منى الشاذلي.
فيما كانت القراءة الجيّدة بالنسبة له، سبقًا كما يصفه في حواره مع الإعلامية إسعاد يونس "كان لي السبق في النوم والعسل إن أول من صرخ آه أمام مجلس الشعب وكنت قاصدها ومتعمدها، أن نصرخ أمام المجلس النيابي، كل اللي فيه وتم انتخابهم دخلوا المكان للدفاع عن مصالح وكرامة وإنسانية الشعب اللي انتخبه" كان الفيلم في عام 1996 "ولما حصلت ثورة 25 يناير 2011، نفس المشهد تكرر بكلمة آه قدام مجلس الشعب".
"رفيق الشارع"
طقس ظل مُحافظًا عليه الكاتب الراحل، أن يتجول في شوارع المحروسة، يذوب في تفاصيل أحيائها، يقف عند بائع الخضروات، يتأمّل ويُدقق في تفاصيل الحياة اليومية، لذا خرجت أفلامه من "ريحة" الشارع ولم تكن بعيدة عنها. كان الشارع مصدر الإلهام دائمًا بالنسبة له، حتى أن فيلم "اضحك الصورة تطلع حلوة" كان نابعًا منه "من مشاهداتي على الكورنيش شوفت مصور واقف بينادي على الناس صورة يا جميلة.. صورة يا حلوة. وقتها ركنت العربية بعيد ونزلت أتفرج، واتعمل من خلال المشاهدة دي واحد من أجمل وأرق الأفلام اللي بحبها. الشارع المصري بيُعطي ومشاكله موحية لكن لا يعيبه إلا الفوضى". كما يحكي في حواره مع الإعلامي وائل الإبراشي خلال عام 2020.
لم يخلُ ذكر الشارع من اللقاءات المُتعددة لصاحب "كشف المستور"، حتى في أخر مرة أطّل فيها على الجمهور في ديسمبر 2020 خلال ندوة تكريمه بمهرجان القاهرة السينمائي، تحدث عن الشارع "لحظة الكتابة متعة كبيرة جدًا، فأنا عاوز أقول إذا مكنش الإنسان يحس الواقع وإحساس جيد جدًا مش هيقدر ينقله".
يذكر في لقاء آخر حينما أنعم الله عليه "بالستر لم أغير في حياتي شيء وحتى هذه اللحظة، لازم أكون في الشارع". في عام 1977 حدث تغير بالنسبة له كما يرويه وهو اهتمامه بالشأن العام "كنت نازل الساعة 2 من نقابة الممثلين وماشي في شارع 26 يوليو وماسك كُتب في إيدي. فجأة لقيت اثنين بيمسكوا فيا ويسألوني إيه الورق اللي معاك ده؟ أنت شيوعي يا ولا؟ وجرجروني شوية". حين دار حوار بينه وبين عساكر الأمن حينها نبت في عقله فكرة فيلم البرئ "شوفت واقعة البرئ وعرفت إن العساكر دول بيتم تلقينهم، أنتوا نازلين تحاربوا أعداء الوطن، وده بيخليهم يندفعوا بالعنف تجاه الآخرين لأسباب غير حقيقية دي اللي خليتني أكتب البرئ بعدها بشهرين حصلت ثورة الأمن المركزي". لا يزال يذكر أيضًا حينما تسبب صول في أن ينال صنوفًا من الضرب في إحدى أقسام القاهرة "عشان كدة لما كنت أجي أحكي عن أي تعسف أو قهر بيبقى أنا شوفته وله جذور، لأني لم أنسلخ على الإطلاق عن حياة الناس. أنا عايش في الشارع".
"الحُرية في الكتابة"
كانت الحُرية في التعبير رُكنًا أصيلًا في كتابة وحيد حامد، يقول في حواره مع الإعلامي وائل الإبراشي إن الفن بشكل مُطلق يعتمد على الحرية "حُرية الإنسان، والتعبير بشكل صادق"، يتعرّج على سلسلة من القضايا الفنية، ويتحدث عن الحُرية في الكتابة وكيف أن الفن المصري خلال تاريخه كان قائما على القضايا وليس أبطال العمل.
"النص الجيّد يكسب"
كان وحيد حامد مُخلصًا لشغفه، أحب الكتابة حتى إنه كان يكتب الدراما الإذاعية وهو مُجند في الجيش المصري "كنت أروح أسلم النص وأنا لابس الميري". وكما كل كاتب يُدرك الكاتب الراحل أن أعماله كان فيها ما لم يكن راضيًا عنه، يقول ذلك في حواره مع الإعلامية سلمى الشماع حينما حاورته في كواليس فيلم اللعب مع الكبار وكان أول فيلم يكتبه ويُنتجه حامد بنفسه "عملت 30 عمل لحد دلوقتي وكان فيهم أعمال سيئة، الكمال لله وحده، وكل كاتب وكل مخرج له أعمال جيدة وغير جيدة. الأعمال الغير جيدة قليلة وكانت لها ظروفها".
لم يدرس صاحب فيلم "آخر الرجال المحترمين" السيناريو رغم وجود معهد مُخصص "بشوف إن كتابة سيناريو مش محتاجة دراسة، في الخبرة والموهبة الأدبية والدراسة العامة للإنسان، والفيلم السينمائي أو العمل الفني بشكل عام لازم يعتمد على نص جيد والكُتّاب المتميزين هم أصحاب الأفكار الناجحة".
"الإنسان يعيش لمرة واحدة"
في شبابه كان يحضر وحيد حامد ندوة أسبوعية يُنظمها الأديب الراحل نجيب محفوظ، يتوافد عليها كل الجيل الجديد من الكُتاب أملًا في نصيحة من كاتبهم المُفضل "كان بدقته يسأل الواحد بتعمل إيه وبتكتب إيه ويطلب مننا نقرأ في هذه الندوة القصص القصيرة اللي بنكتبها"، ما كان يُميز الندوة في نظر حامد أنه "لم يقل كلمة سيئة لأي كاتب جديد حتى لو كان سيئًا".
حرص الكاتب الذي آمن بأن الإنسان يعيش لمرة واحدة أن يكون بنفس العطاء الذي تعلمه من أساتذته "كان في مجتمع بياخد بإيد الصغير ولذلك اتعلمت كده واحترمت كل إيد طيبة اتمدت لي ولم أخذل أي إيد طلبت مني أي شيء"، يُكمل في كلمته المطولة خلال آخر ندواته مع الجمهور الشهر الماضي "مش إنتوا اللي عيشتوا في زمن وحيد حامد، وحيد حامد اللي عاش في زمانكم".
فيديو قد يعجبك: