"كورونا".. ثقب في سفينة الاقتصاد المصري (قصة مدفوعة بالبيانات)
مها صلاح الدين:
غلاف- أحمد مولا:
ثمة تحول مفاجئ طرأ على حياة مضيف الطيران الشاب أحمد حسن الذي امتهن، منذ سنوات الترحال والسفر، في 21 مارس الماضي، حينما فرضت كورونا على الطيران المصري قرارات الحظر، فتغير كل شيء.
ثلاثة شهور بدون رحلة واحدة، حيث قلت أعداد الرحلات في إبريل 2020، بنسبة 91% عن أعداد رحلات الطيران في إبريل 2019، وفقًا للنشرة المعلوماتية الشهرية التي يعدها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
قبل أن تبدأ رحلات متباعدة لإعادة العالقين، ثم رحلات استثنائية لطائرات محملة بالركاب، عادة ما كانت تعود فارغة، وفقًا لأحمد، منذ يونيو 2020، الذي قلت خلاله الفجوة في أعداد الطيران إلى 66% أقل من عدد رحلات الطيران في يونيو 2019، وزادت الفجوة بين أعداد الركاب، بنحو 96% في مايو الشهر الذي سبقه، مقارنة بمايو 2019 أيضًا.
واقع اعتبره أحمد انتكاسة مهنية، ومادية، بعد أن تقلص دخله إلى 40% فقط من دخله المعتاد، وحُرم هو وزملاؤه من بدلات ساعات الطيران والمبيت، التي كانت تشكل 60% من إجمالي دخلهم.
تخلى أحمد عن شقتهِ التي استأجرها للعيش في القاهرة، وتخلى عن دفع أقساط الجمعية، التي كانت وسيلة ادخاره مع زملائه، اقتصد من مصروفاته الأساسية، ورغم كل تلك الخسائر، يعتبر أحمد نفسه الأفضل حالًا، بعد أن عايش بنفسه كيف فقد بعض المضيفين والطيارين - في شركات طيران أخرى - وظائفهم ، خلال شهور الموجة الأولى من كوفيد 19.
لم تتجسد تلك الفجوة فقط في أعداد الرحلات، وأعداد الركاب، بينما امتدت إلى حمولة البضائع، التي تراجعت في الفترة من إبريل إلى سبتمبر 2020، من 15:40% مقارنة بحجم حمولة البضائع في الشهور نفسها عام 2019.
وبين نقطة زرقاء، تمثل عام 2019 وأخرى حمراء تمثل 2020 عام الجائحة، نستطيع أن نرى حجم الفجوة، ومدى اتساع الثقب الذي خلفه كوفيد 19، بين شهور الموجة الأولى في عام 2020، ونفس الأشهر في عام 2019، لنقدر حجم الأزمة.. ليس في قطاع الطيران فقط، ولكن في جميع المجالات، من خلال تلك القصة التفاعلية المدفوعة بالبيانات الرسمية، من النشرة المعلوماتية الشهرية، الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
كان النقل الجوي هو أكبر القطاعات التي تأثرت في شهور الموجة الأولى لكوفيد 19 في مصر، بسبب فرض حظر الطيران بشكل مباشر، لكنه لم يكن الوحيد، فقطاع النقل تأثر بجميع أشكاله.
تراجعت عائدات قناة السويس منذ مايو 2020 وحتى أكتوبر 2020 مقارنة بنفس الشهور خلال عام 2019، وصل ذلك التراجع إلى ذروته في يوليو، حيث تراجعت إيرادات القناة بنسبة 15% مقابل إيرادات قناة السويس في يوليو 2019.
ومن مايو حتى أكتوبر تراجعت حمولة السفن العابرة لقناة السويس، حيث سجلت أعلى تراجع في يونيو ويوليو، بفارق وصل إلى 14% عن حمولة السفن العابرة لقناة السويس في يونيو ويوليو 2019.
بينما زادت عدد ناقلات البترول العابرة لقناة السويس في مايو 2020 بنسبة 26% عن مايو 2019.
تقلصت تلك الزيادة في يونيو إلى 3% فقط، عن يونيو 2019، ومن ثم بدأ التراجع في أعداد ناقلات البترول خلال يوليو وأغسطس وسبتمبر بنسب تتراوح بين 6:14% عن نفس الشهور خلال عام 2019، وبلغ التراجع ذورته، حيث قلة عدد ناقلات البترول التي عبرت قناة السويس في أكتوبر 2020 بنسبة 25% عن عدد ناقلات البترول التي عبرت قناة السويس في أكتوبر 2019.
وبالمثل تقلصت أعداد السفن العابرة الأخرى في الشهور نفسها، حيث بلغت أعلى نسبة تراجع 10% في يونيو، وبلغت أقل نسبة تراجع في أكتوبر، بينما زاد عدد الناقلات العابرة الأخرى القناة السويس في شهر واحد فقط، وهو شهر سبتمبر 2020، بنسبة زيادة 7% عن عدد الناقلات الأخرى التي عبرت قناة السويس في سبتمبر 2019.
أما السكك الحديدية، فكانت الأقل تضررًا في قطاع النقل؛ حيث إن إيرادات السكك الحديد بدأت في التراجع بين شهور إبريل ويوليو، مقارنة بنفس الشهور في العام الماضي، بفوارق تراوحت بين 54% و 22%، ثم شهدت الإيرادات ارتفاعًا بداية من شهر أغسطس وحتى شهر أكتوبر بشكل تصاعدي، بنسب زيادة، بدأت بـ15%، ووصلت إلى أكثر من 40%، مقارنة بنفس الأشهر في عام 2019.
وذلك رغم تراجع عدد ركاب السكك الحديد في جميع الشهور بدءًا من إبريل وحتى أكتوبر 2020 بفارق يتراوح بين 19% و62% عن عدد الركاب في نفس الشهور في عام 2019.
الأمر الذي قد يعود إلى زيادة البضائع المنقولة عبر السكك الحديد خلال شهور الموجة الأولى من أبريل وحتى أكتوبر 2020، والتي وصلت إلى 22% زيادة عن عام 2019، في شهر إبريل، وتراجعت في شهر واحد فقط بين تلك الشهور بنسبة 15% وهو شهر مايو، الذي ازدادت خلاله قرارات عزل القرى، حيث تم عزل 56 قرية خلال شهر مايو وحده، وفقًا للبيانات الرسمية الصادرة عن المحافظات.
وبين تراجع حمولة البضائع في قناة السويس، وزيادة حمولة البضائع في السكك الحديدية، يجد نعمان خالد، محلل البيانات ببنك الاستثمار كابيتال، تفسيرًا، بأن الشركات المحلية التي كانت تصدر منتجاتها إلى الخارج، يمكن أن تكون وجدت في السوق المحلي بديلًا للأسواق الخارجية، خاصة أوروبا، التي كانت تخرج إليها أغلب صادرات مصر، وأغلقت بشكل كامل.
ويرى نعمان في ذلك حلًا مناسبًا، خاصة بعد تراجع الصادرات إلى أعلى مستوى، في الربع الرابع من العام، ومع بداية الموجة الثانية في أغلب البلدان الأوروبية بفارق اقترب من النصف عن الربع الرابع في عام 2019، بقيمة تراجع بلغت 80 مليار جنيه.
يقف عصام العشري في الطابق العلوي، يتفقد ساحة السيارات الخارجية لمصنع الأسمنت الذي توارثه عن أبيه وجده، منذ 40 عامًا، وهي تقريبًا شبه خالية "إحنا لو فيه عربيات فيه رزق.. مافيش عربيات مافيش رزق"، يقول عصام، ثم يصمت قليلًا قبل أن يستأنف "قبل كورونا كان المصنع بيدخله 100 عربية في اليوم، دلوقتي بيدخله عربيتين بس في اليوم".
كانت صادرات الأسمنت هي الأعلى تراجعًا، تحديدًا في إبريل 2020، بخسائر وصلت إلى 13.7 مليون دولار، بفارق يعادل 82% من صادرات الأسمنت في إبريل 2019، الأمر الذي يعود إلى أن تصدير الأسمنت له متطلبات خاصة، ومن وجهة نظر محلل البيانات، نعمان خالد، أهمها النقل لوقت قصير ومسافات قليلة، حتى لا يفسد، وهو ما يتناقض مع تراجع الصادرات إلى الدول الأقرب، في بعض شهور الموجة الأولى، مثل الدول العربية، ودول حوض النيل، ودول الكوميسا.
ولهذا، فقد عشرات عمال اليومية، الذين يتعاملون مع عصام في تحميل ونقل الأسمنت وظائفهم، وتخلى عصام عن ثلث العمالة الدائمة التي لديه في المصنع، فتراجع عددهم من 22 إلى 16 موظفا، يقول عصام مبررًا "استحملت رواتبهم 3 شهور، وبعدين مقدرتش".
اضطر عصام إلى ذلك، بعدما قلت أرباح مصنعه إلى النصف، مقارنة بعام 2019، ومع ذلك لا يفكر عصام في التخلي عن العمل ككل، "فكرة إغلاق المصنع غير مطروحة أساسًا.. مهما بلغت الخسائر".. يقول عصام بحسم.
لم تتراجع صادرات الأسمنت فحسب، بدأت فجوة الصادرات البترولية منذ مارس، ووصلت ذروتها في إبريل، حيث تقلصت بنحو ثلاثة أرباع صادرات إبريل العام الماضي، بنحو 332 مليون دولار، وبدأت في التراجع بداية من مايو حتى حققت أقل نسبة تراجع في أغسطس، بفارق 39% فقط من صادرات أغسطس 2019.
وبالمثل، تراجعت الصادرات غير البترولية منذ مارس وحتى أغسطس، إلا أنها شهدت زيادة بنسبة طفيفة- تحديدًا- 4%، عن يونيو 2019، بينما شهدت الصادرات غير البترولية أكبر تراجع في مايو بـ 843 مليون دولار، بنسبة 37% عن الصادرات غير البترولية في مايو 2019.
مع غلق النوادي والصالات الرياضية، أغلقت عائلة محمد أبو خميرة، مصنع الملابس الرياضية، الذي فتحته منذ 10 سنوات، ثلاثة أشهر كاملة، كبدتهم خسائر كبيرة.
اضطروا إلى تصفية عاملين، ووقف رواتب آخرين، واكتفوا بصرف رواتب للأكثر احتياجًا منهم فقط، ورغم عودة فتح النوادي والصالات الرياضية منذ منتصف يوليو الماضي، وإعادة فتح المصنع، فالحال لم يعد كما كان، "دي أسوأ فترة مرت علينا من ساعة ما فتحنا".. يقول محمد.
تراجعت صادرات الملابس والمنسوجات إلى أكثر من النصف، في مايو، مقارنة بصادرات مايو 2019.
وبالتبعية، تراجعت مساهمة تجارة الجملة والتجزئة في الاستثمارات بنسبة تبدأ من 45:55%.
ومع توقف مصنع محمد لمدة ثلاثة أشهر، وتراجع إنتاج مصنع عصام للأسمنت، وغيرهما من المصانع، تراجع إنتاج واستهلاك الكهرباء، والبترول والغاز الطبيعي، والطاقة بشكل عام.
وتراجعت الاستثمارات في البترول الخام بنسبة 78% في الربع الثاني من العام، الأمر الذي أرجعه محلل البيانات نعمان خالد، إلى انخفاض أسعار برميل البترول من أكثر من 60 دولارا إلى أقل من 20 دولارا خلال تلك الفترة، ما أثر على الاستثمارات في قطاع البترول والطاقة بشكل عام.
فكان هم الشركات الكبرى الحفاظ على استثماراتها الموجودة، وعدم ضخ استثمارات جديدة حتى يتحسن الوضع، كذلك اتسعت تلك الفجوة بسبب الطفرة التي حققتها الاستثمارات الأجنبية في مجالات الطاقة عام 2019، وفقًا لمحلل البيانات.
والتي انعكست على تراجع حجم صافي الاستثمارات الأجنبية عام 2020، حيث شهدت الاستثمارات الأجنبية تراجعًا طفيفًا في الربع الثاني من عام 2020، مقارنة بالربع الثاني من عام 2019، بفارق وصل إلى 7%.
وتضخم ذلك الفارق في الربع الثالث من 2020، حيث بلغ 58% مقارنة بحجم الاستثمارات الأجنبية خلال الربع الثالث من عام 2019.
وبالمثل انعكس ذلك المبدأ على معدل تأسيس الشركات، فتم رصد معدل تأسيس الشركات مرتين خلال شهور الموجة الأولى، كانت المرة الأولى في مايو 2020، حيث تم تأسيس 667 شركة فقط، بتراجع وصل إلى 61% عن معدل تأسيس الشركات في مايو 2019.
والمرة الثانية كانت في أغسطس 2010، وهنا زاد معدل تأسيس الشركات بنسبة 44% مقارنة بعدد الشركات التي تم تأسيسها في 2019.
ومع الجائحة، ازدادت نسبة الاستثمارات في الخدمات الصحية في الربع الثاني من 2020، بنسبة 50% عن الربع الثاني من 2019.
إلا أنها شهدت تراجعًا كبيرًا وصل إلى 75% في الربع الثالث من 2020، مقارنة بالربع الثالث من عام 2019، الأمر الذي يفسره محلل البيانات نعمان خالد، بأن الحكومة صرحت بأنها رصدت 100 مليار جنيه لمواجهة كورونا، ومع نهاية الموجة الأولى خرجت تصريحات أخرى بصرف نحو 70 مليار جنيه منهم.
ومع تراجع أعداد المصابين والوفيات في شهور الربع الثالث من العام، لم تعط الحكومة الاستثمارات الصحية نفس الأهمية، وتراجعت عن ضخ الأموال، الأمر الذي قد يكون تسبب في مشكلات الآن، مثل نقص الأكسجين، وفقًا لنعمان.
وكان أول قرارات الحكومة لمواجهة كورونا، أكثر ما أثر على أحمد عبد ربه وعمله، غلق الكافيهات ومنع الشيشة، فتراجعت الاستثمارات في قطاع المطاعم والكافيهات خلال شهور الموجة الأولى بنسبة تقترب من 60% مقارنة بالفترة نفسها عام 2019.
توقف مدير التشغيل، الذي يعمل في ذلك المجال منذ 17 عامًا، لمدة ثلاثة أشهر عن العمل، وتوقف راتبه، وحينما عاد، تراجع راتبه إلى النصف، حتى يعوض صاحب العمل خسائره طوال فترة التوقف، الذي كان يدفع خلالها إيجار المكان كاملًا.
توقف أحمد عن استخدام سيارته، وأقلع عن التدخين لتوفير نفقات أسرته الشهرية، التي تقلصت أيضًا، وبعد أن كان يزور السوبر ماركت بصحبة زوجته 4 مرات شهريًا، أصبحا يزورانه مرتين على الأكثر منذ بداية الأزمة.
فيديو قد يعجبك: