"نعمة التعليم".. سيدة خمسينية تمحو أميتها: ساعدني لفهم متلازمة ابني
كتبت- شروق غنيم:
السنوات مرت؛ تجاوزت نعمة حسنين محنة اقتصادية كبيرة برفقة والدها، باتت على أعتاب عامها الثلاثين بينما صغيرها يُكمل عامه الثالث. انقبض قلب الأم فجأة، أجهشت في البكاء "مين اللي هيعلمه دلوقتي؟ ويساعده في المذاكرة؟.. الحياة مساعدتنيش زمان أتعلم بس جه الوقت اللي ده يتغير".
حين وصلت نعمة إلى المرحلة الإعدادية، كانت الظروف الاقتصادية في منزلها تتعقد، تكلفة تعليم سبع فتيات صارت عبئًا على رب الأسرة، فضلًا عن تفاصيل المصروفات اليومية. اضطرت وقتها ابنة الاثنتي عشر عامًا التخلي عن حلمها في الدراسة "أنا أكبر أخواتي، وكان لازم أبدأ أشتغل عشان أساعد أبويا".
إلى ميدان العمل ذهبت نعمة صغيرة، تجربة شاقة خاضتها في المحال والمصانع المُختلفة، تتنقل بحثًا عن عمل لائق، في أوقات أخرى لجأت إلى العمل اليدوي، كانت تُصر على العمل لساعات أطول، تمنحها أموالًا إضافية لسد الاحتياجات المادية للمنزل، تزول لحظات الشقاء حينما تعود للبيت، تحل ابتسامة حينما تجد أثر العمل على فرص شقيقاتها الست في الدراسة "قدروا يكملوا تعليمهم بسبب شغلي".
لم يكن بُدًا أمام نعمة غير العمل؛ لم تستطع بجواره أن تلتحق بأي صفوف دراسية، ظل مسارها واحدًا حتى شعرت بأنها أتمت مهمتها إزاء شقيقاتها، وفي عُمر السادسة والعشرين عامًا، طوت صفحة المرحلة الشاقة، وبدأت رحلة جديدة في مدينتها بمحافظة الإسكندرية، تزوجت الشابة وأنجبت طفلها الأول، ومعه تغير من جديد مسار حياتها.
خلال رعايتها بصغيرها شعرت نعمة بغصة شديدة، لا تعرف الأم كيف تعتني به بشكل سليم، حين ينضج ويبدأ رحلة التعلُم؛ ماذا ستقدم له؟ "في اللحظة دي فوقت، حسيت أني ضيعت كتير من عمري". عادت لشقيقاتها وسألتهن، ماذا لو عادت مُجددًا للدراسة "كان رد فعلهم سبب في أني أرجع من تاني، كلهم شجعوني وبدأوا ينصحوني أعمل إيه".
لم يكن بجوار السيدة الثلاثينية حينها صفوفًا لمحو الأمية، لم تيأس نعمة، توجهت إلى معهد قريب من محل سكنها تطلب التعلم برفقة الأطفال في مرحلة الحضانة "الكل كان مستغرب، بس أنا مكنتش مكسوفة أقعد وسط العيال الصغيرة أتعلم معاهم".
كلما تخطو نعمة مرحلة جديدة، تجد دعمًا لم تتخيل وجوده. في المنزل كان زوجها خير داعم لها، يرتبان سويًا مواعيد رعاية صغيرهما خلال فترة تواجدها بالحضانة المُجاورة، أما في المعهد نفسه، لاقت ترحابًا من المُعلمين وأيضًا الأطفال، حتى من جيران الحي، كلما رأوها تتأبط كراسات الدراسة في طريقها للمكان "كانوا بيشوفوني من البلكونة يدعولي ربنا يوفقني".
لأول يوم دراسي رهبة للأطفال، ذلك ما شعرت به نعمة أيضًا "كنت حاسة أني رجعت بالزمن لورا، وأني لسة عيلة".في المعهد انهالت عليها أسئلة الصغار "هو أنتِ هتذاكري وتعملي الواجب معانا بجد يا ميس؟"، لسرد لهم السيدة الثلاثينية حكايتها "بقيت أقولهم أيوا أنا جاية هنا عشان فاتني التعليم، شوفتوا المذاكرة حلوة إزاي؟ أوعوا يا ولاد حد يفوتوا التعليم".
نالت نعمة إعجاب المُعلمين بالمكان، دائمًا ما كانت تحجز مكانها في صفوف الأوائل، لذا لم يتوقف دعمهم لها حتى مع التحاقها بالمرحلة الإعدادية "اتكرمت وأنا في سنة ثانية إعدادي بسبب حكايتي".
لم تكن لتتوقف نعمة عن مشوارها تحت أي ظرف، مع خوضها للامتحانات في المرحلة الإعدادية، كانت حامل في طفلها الثاني "كنت بصمم أروح أمتحن، رغم أني هولد كمان أسبوع، ووقتها كان في اهتمام عظيم من كل اللي حواليا في المكان".
في المنزل تبذل نعمة قصارى جُهدها كأم، لكن حينما تتجه إلى المدرسة لحضور صفوفها، تتحول إلى طالبة وحسب، تستعيد شغفها الماضي بالتاريخ، ينصب تركيزها على حل مسألة رياضية مُعقدة، أو تحصل على لحظات ترفيهية في حصة الرسم، رحلة من التعلم على الورق وداخل نفسها "ولادي كمان اتعلموا خلال الفترة دي بأنهم يعتمدوا على نفسهم في غيابي".
لا يخلو تحقيق الحُلم من أشواك الواقع؛ أحيانًا تلاحق نعمة نظرات "وده كله جاي عليكي بإيه؟"، لكنها تصبر نفسها، تُدرك أن وجدانها تغير خلال تلك التجربة، ثقتها في نفسها، ونظرة صغارها لها "يمكن مكنوش فاهمين أوي لسة صغيرين، بس كانوا مبسوطين أننا قاعدين بنذاكر سوا"، فيما تستعيد موقف لا ينسى كلما تتبعتها تلك النظرات.
ذات يوم ذهب لها صغيرها باكيًا، يرجوها بعدم الذهاب في الغد إلى امتحان مادة التاريخ لأنه خائفًا من عدم فهم كامل دروسه، هدأت الأم من روع صغيرها، وأخذت الكتاب من يديه وأخذت تشرح له بسلاسة الدروس الصعبة "كأنها حدوتة مش درس لازم يحفظه"، بعد أيام عاد الصغير مرتميًا في أحضان والدته مُهللًا "ماما أنا جيبت الدرجة النهائية، بحبك"، انحبست دموع الفرح في عيونها "وحسيت ساعتها بنعمة التعليم".
لم يكن ذلك الموقف وحسب الذي رّد الروح في نفس الأم بعد قرارها باستكمال الدراسة، خلال دراستها في المرحلة الثانوية أنجبت مولودها الثالث، والذي اكتشفت بعدها إصابته بمتلازمة داون "بدأت أقرأ عن الموضوع عشان افهمه أكثر وأعرف أبقى جنب ابني بشكل صح"، ومعه بدأت رحلة تعلم جديدة من نوعها "خدت دبلومة تخاطب علشان عصام، وبدأت أهتم بأنه يلعب رياضة وينمي مهاراته".
أتمّت نعمة عامها الثالث والخمسين، تنظر لرحلتها بعين الفخر، تُبصر كيف تغير حياتها وحياة أبنائها، ترى عصام بينما يحصد جوائز في رياضتي الكاراتيه والعدو، وحصل باقي أبنائها على الشهادة العُليا كما كانت تحلم، فيما لم تنتهِ رحلتها مع التعليم.
قبل عامين بدأت نعمة في التدريس لسيدات المنطقة في فصل محو أمية باسمها، خلال العام الحالي علّمت 11 سيدة فاتهن التعليم بسبب الظروف الاقتصادية، ألهمت جارتها بالمنطقة لتلتحق بالصفوف، ينتابها الامتنان لفرصة مساعدتهن لتحقيق أحلامهن كما حدث معها مُسبقًا، فيما لا يمنحها سعادة أكبر من دعوة من إحدى السيدات لأنها جعلتها تستطيع "فّك الخط أو قراءة القرآن الكريم".
اقرأ ايضا:
أخفت عن أسرتها و"اشتغلت" عاملة نظافة لتتعلم.. حكاية صعيدية مع محو الأمية
هزمت الأمية.. القلم سلاح سيدة فلسطينية أمام الاحتلال (حوار)
التعليم في الكِبر.. 4 شقيقات يصنعن المستحيل لمحو الأمية (صور)
فيديو قد يعجبك: