لماذا غضب الفلسطينيون من فيلم أميرة؟
كتبت-إشراق أحمد:
أبدًا، لا يغيب عن ليديا الريماوي تفاصيل تلك الأيام؛ لحظة أن أخفى زوجها في يدها لفافة رقيقة تحمل نطفة منه، رجفة جسدها بينما تطبق كفيها على ما يمثل حياتهما المحكوم عليهما فيها بالفراق 25 عامًا، تضرعها الخفي بأن تَعمى عنها عيون السجانين الاسرائيليين المحيطين بها، رهبتها طيلة ١٢ ساعة في الطريق من غياهب صحراء بئر السبع إلى رام الله، انتظارها بشارة الحمل، وشوقها الحزين حتى احتضنت مجدها. مجد عبد الكريم الريماوي ثاني طفل يولد لأسير فلسطيني بعد النجاح في تهريب النطفة من السجن الإسرائيلي.
٨ أعوام هي عمر مجد الآن، لا تكف الريماوي عن إخباره بالحكاية، ولا يمل الصغير من السؤال عن كيف جاء إلى الدنيا. ما عاشته زوجة الأسير جعلها أكثر تلهفًا لرؤية الفيلم الذي سمعت أنه ربما يحكي للعالم شيئًا عن طفلها وغيره من قرابة ١٣٠ طفلاً ولدوا حتى الآن بعدما تمكن أباؤهم من تهريب نطفهم المنوية من خارج زنازين الاحتلال، لكن ما إن شاهدت الأم فيلم "أميرة" حتى خاب أملها.
أميرة، فيلم أردني للكتّاب المصريين محمد وخالد وشيرين دياب، وإنتاج فني مصري أردني مشترك. صدر في 3 سبتمبر الماضي، يحكي عن فتاة –أميرة- تولد لأسير فلسطيني عبر عملية النطف المهربة ثم تدور الأحداث عن اكتشاف أن الأب عقيم والنطفة لم تكن له، ويستعرض تفاصيل البحث عن والد الصبية الذي يُكتشف أنه الضابط الإسرائيلي المتواجد بالسجن.
قبل نحو شهر، علمت الريماوي عن الفيلم، حكت لها ابنتها رند، طالبة الإعلام في جامعة بيرزيت، عما عرفته، لكن ما توقعت الأم شيئًا سيئًا، إلا أنه بعدما تحدث إليها البعض في وزارة شؤون الأسرى الفلسطينيين، زاد ذلك من رغبتها في رؤية الفيلم وعدم الاكتفاء بالسمع، تمكنت زوجة الأسير من مشاهدة "أميرة" بالكامل مسربًا، فكان وقعه سيء عليها كما تحكي لمصراوي "كل بداية مشهد اسكر –اقفل- ما كان بدي أكمل للنهاية".
لأيام ظلت زوجة الأسير في صدمة "بعد كل ها النضال والمعاناة اللي عانيناها تانجيب هاي النطفة ونزرعها ونكبرها ونفتخر فيها بيطلع فيلم منا وفينا ومن دمنا ولحمنا بيمس كرامتنا وبينقص من القيمة الإنسانية اللي موجودنا عنا".
لم تستطع الريماوي أثناء مشاهدتها للفيلم المستند لـ"حبكة خيالية" أن تنفصل عما خاضته في الحقيقة ونتج عنه ميلاد طفلها مجد في 31 يوليو 2013. تداعت عليها التفاصيل؛ كيف حُرمت من زيارة زوجها عام ونصف بعد الولادة لأن ابنهما جاء عبر عملية تهريب للنطفة، وكيف عانت مرة ثانية مع ابنها من معاودة الأسئلة عن الغياب، بعدما خاضت الأمر ذاته مع ابنتها رند، فحينما اُعتقل الأب عبد الكريم عام 2000، كان عمر الابنة 8 شهور.
حاز فيلم أميرة على جائزتين في مهرجان فينيسيا السينمائي، وكان المفترض أن يمثل الأردن في ترشيحات الأوسكار، لكن بعد عرضه في المملكة الهاشمية اتسعت موجة الغضب من مضمون الفيلم، وبلغت إلى إصدار الكاتب محمد دياب بيان عن أسرة العمل وإعلان توقف عرضه حتى تشكيل لجنة مختصة من الأسرى وعائلاتهم لتقييم الفيلم.
وأوضح القائمون على البيان أن الفيلم ينحاز لفلسطين "فالبطلة تختار أن تنحاز للقضية العادلة"، وأنه يدين ممارسات الاحتلال.
ما وجدت الريماوي في الخيال المحبوك به قصة "أميرة" أي استناد للواقع، لم تلمس أي من تلك المشاعر التي خاضتها كما تقول، حتى النهاية التي وصفها القائمون على العمل بـ"النضالية" اعتبرتها لا تشبه الفلسطينيين.
تفاصيل كثيرة عاشتها الريماوي، لكنها لا تنسى حين احتضنت مجد وهو ابن ثلاثة أسابيع لترى فرحة زوجها عبد الكريم فحرمها جنود الاحتلال وعادت مع ابنتها ورضيعها دون لقاء الأب، إلا أن يومها كُتب مجدها حقًا "حسيت بالرعب في قلوبهم. قد إيه هاد الطفل هزمهم. مش عارفين يعملوا شو. كأني طلعت عبد الكريم قدام عنيهم وهو لساته عندهم. رجعت من الزيارة وراسي مرفوعة لا مقهورة. حسيت بالانتصار اللي كنت أحلم فيه من قبل".
ليديا الريماوي واحدة من بين 80 شخصًا التقتهم عبير الخطيب لتوثيق عملية تهريب النطف، على مدار عام ونصف بحثت عن كافة الجوانب المتعلقة بوسيلة المقاومة هذه، وضمتها في رسالة بعنوان "ثورة تهريب النطف من المعتقلات الإسرائيلية" وحصلت بها على بكالوريوس الحقوق من الكلية العصرية الجامعية في رام الله.
مثل جميع الفلسطينيين كانت تعرف الخطيب عن تهريب النطف كوسيلة مقاومة تتداولها النشرات الإخبارية، لكن ذات يوم تبدل حالها وعزمت على خوض الرحلة لمعرفة تفاصيل هؤلاء الأطفال الذين خرجوا من عتمة الزنازين. أرادت الأم لثلاثة صبية أن تنجب ابنة. علمت أن بإمكانها إجراء عملية تسمى بالفصل لتحقيق ذلك، وفي المركز الطبي المتخصص بالحقن المجهري، التقت شابة، جرى حديث تلقائي بينهما، لتعرف أنها زوجة أسير ومُقبلة على زراعة نطفة بعدما تمكن شريكها من تهريبها.
بحكم دراسة الخطيب للقانون سألت الشابة "هدول الأطفال بيتسجلوا ولا لا؟". فما كان لدى زوجة الأسير إجابة وكذلك صاحبة السؤال، ومن هنا بدأت البحث. كان ذلك منتصف عام 2018.
تفاعلت الخطيب مع الحكايات التي وثقتها، عاشت تفاصيل أهالي الأسرى كأنها واحدة منهم، وبعد أن انتهت مسها الحزن "تقريبًا 4 شهور عانيت من الاكتئاب. كتير القصص الإنسانية مؤلمة". حُمِّلت الباحثة القانونية بالغضب للأسرى وزوجاتهم وأسرهم، وجاء فيلم أميرة ليعيد لها تلك الحالة، بعدما تمكنت من مشاهدته "كان معروض على نخبة من المثقفين في الأردن وحضرت معهم مباشرة من خلال تطبيق zoom".
وضعت الخطيب يدها على مواطن غضبها، بداية من التناول المغلوط كما تصف "ليس في تهريب النطف احتمال لخلط الأنساب لأن هناك معايير شرعية وعلمية وضعتها الحركة الأسيرة تمنع منع كامل أن يكون هناك خطأ"، فهناك فحص يتم قبل وبعد عملية زرع النطفة في رحم الزوجة بعد موافقتها وكذلك الشهود الذين يكونون من أهل الزوجين.
كما تشير الباحثة إلى وجود مشاهد "تخدش كرامة زوجة الأسير"، تضرب المثال بمشهد إجراء فحوصات لإثبات النسب لـ"البقال والمكوجي" وكل محيط الأم وابنتها، وكذلك طريقة تهريب النطف في الفيلم والذي وجدته الخطيب "شيء لا يحدث علميًا".
"الفيلم خيالي وأن طريقة التهريب الحقيقية غير معروفة، بل إن عمر البطلة في الفيلم 18 عامًا يتنافى منطقيًا مع بداية اللجوء لتهريب النطف في 2012" جاء ذلك في بيان أسرة فيلم أميرة، فيما تقول الباحثة الفلسطينية أن أكثر التفاصيل التي فاجأتها هي طريقة إخراج النطف، تضرب المثال ببعض قام بالتهريب عن طريقة حبة تمر وأخرين عبر أكياس الحلوى، معتبرة أن القائمين على الفيلم لم يعلموا أي شيء عن الواقع ولم يتواصلوا مع مَن خاضوا التجربة للبحث عن الحقائق.
استاءت الباحثة القانونية من تخيل أن يشاهد الفيلم أحد أطفال النطف المهربة "المؤلف والمخرج وضع هؤلاء الأطفال أمام سؤال هل أنا ابن أبي. هل يمكن أن تكون أمي خائنة. كيف ينظر لي المجتمع؟"، ولهذا تعتبر أن "أميرة" بمثابة "جريمة تمس أطفال أكبرهم عمرًا بلغ 9 سنوات". وكذلك انزعج رائد الشيوخي، ممثل مسرحي، وأستاذ دراما يقيم في الخليل حينما رأى مقاطع من الفيلم، خاصة لمشاركة ممثلين أصحاب شعبية مثل صبا مبارك.
أول ما خطر على بال الممثل المسرحي الفلسطيني "ليش اجى على بال الكاتب أول ما يعمل فكرة عن الأسرى يعملها بهاي الطريقة. ليش ما فكر يبين قد ايه صعب الأسير يطلع نطفه من السجن والاجراءات اللي بتصير وليش أصلاً بيقوم بهيك عمل"، ود الشيوخي لو خرج الفيلم بارزًا لمعاناة الأسرى وتضحياتهم وارتباطها مع حياتهم خارج السجن وليس بشكل "مخزي" كما وصف.
اكتشفت الخطيب خلال بحثها الوضع القانوني لأطفال النطف، خاصة القدس والضفة الغربية "كان فاجعة بالنسبة لي"، إذ يرفض الاحتلال إعطائهم شهادة ميلاد، ومن ثم حرمانهم من التعليم والعمل، أي يحرمهم من الوجود، كما وثقت العنصرية التي يواصلها المحتل.
تحكي الباحثة الفلسطينية أن الطفل الوحيد المسجل من أهالي الـ48 وولد عبر النطف المهربة، هو لأسير فلسطيني محكوم عليه بـ20 مؤبد، لكنه متزوج من سيدة يهودية الديانة، فحينما وضعت الابن أعطاها الاحتلال كافة الوثائق الرسمية للطفل فقط لأنها يهودية، فيما لا يغيب عنها زوجة الأسير المقدسي التي تحمل هوية الضفة الغربية واضطرت لمغادرة منزلها وذهبت للعيش في رام الله لتستطيع علاج طفلها الذي لا يملك أي أوراق ثبوتية بسبب الاحتلال.
تعلم الخطيب أتم العلم ماذا يعني أطفال النطف المهربة عند ذويهم، ليسوا مجرد صغارًا بل الأمل الذي يعيشون من أجله، تذكر أسير من غزة كان سجين مع والده وشقيق زوجته، حاول تهريب نطفة مرة فوصلت ميتة لينجح في المرة الثانية وحينها كان والده قد خرج من المعتقل، ليستقبل الجد النطفة المهربة في سيارة إسعاف كما يحكي للباحثة الفلسطينية "كنت اضعها في حضني كأني حاضن ابني. كنت خايف عليها تقع مني لأن ابني هو هاي النطفة".
ولا تنسى الخطيب بكائها حينما علمت بقصة الأسير تامر الزعني من غزة، الذي حكم عليه الاحتلال بالسجن 19 عامًا بعد شهرين من زواجه، وعندما أخبر زوجته أن يرغب في منحها الحرية بالطلاق، رفضت وأمضت 8 أشهر تقنعه بتهريب النطف حتى نجحوا في إنجاب الحسن الذي احتضنه أبيه ويعيش مع أسرته بعدما انهى الحكم الصادر بحقه.
ليس لدى الباحثة الفلسطينية أي شك في أن الأسير الذي يفكر في تهريب نطفة من داخل الزنزانة يعلم أنه يومًا ما سيكون حرًا، كما لم تعد الريماوي تعطي اهتمامًا بالحديث عن فيلم أميرة رغم ضيقها الشديد بعد رؤيته "يعملوا فيلم يعملوا عشرة ما بيهمني بالعكس. أنا عارفة شو جبت النطفة وأني اللي استلمتها بإيدي وأنا اللي زرعت وحملت ولا مرة الفيلم يهز ثقتي بحالي. أنا زرعت 3 مرات بعد مجد ما ظبطت ولو يصح لي الآن ازرع راح ازرع مرة تانية".
فيديو قد يعجبك: