خير لم يدم.. هكذا عاشت "أبوشعرة" أيام مبارك
قصة/ فيديو- مارينا ميلاد
صور- محمود بكار
"أعرف قريتي تمامًا. لم تكن تستطيع أن تقف عند شيء أو تُشغل بشيء على الإطلاق في تلك السنوات التي يلهبها دائمًا صراع لا يهدأ من أجل القوت".
عبد الرحمن الشرقاوي
الأرض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وصلت الأنباء إلى القرية بزيارة الرئيس المرتقبة لها. ولم يزرها رئيس من قبل.
في ذلك العام وصل دخل السياحة لـ2 مليار دولار، حدد وزير الزراعة قواعد بيع أراضي الدولة، وراح وزير الداخلية يعلنها في كل مناسبة: "الشرطة أقوى سلاح لمواجهة الإرهاب". استكمل عادل إمام عروض مسرحيته الجديدة "الواد سيد الشغال" على مسرح الحرية. وظلت قضية "القاهرة المختنقة" تتصدر تقارير صحفية متسائلة: لماذا لم يحل مشروع مترو الأنفاق الحديث المشكلة؟
بينما كان الرئيس الذي أمضى ست سنوات في الحكم وجرى الاستفتاء عليه مجددًا، يوجه تركيزه نحو المشروعات الصناعية التي كثف زياراته لها. ذلك بعد أن ظل فترته الرئاسية الأولى لا يشغله سوى خلق "حالة الاستقرار" بعد اغتيال الرئيس السادات: أعلن التزامه باتفاقية السلام، أفرج عمن اعتقلوا، ووطد علاقاته بالولايات المتحدة. لكنه كان يعرف أن مصر، التي تجاوز عدد سكانها 44 مليونا تعاني وضعًا اقتصاديًا سيئًا؛ فبلغ حجم ديونها نحو 21 مليار دولار، وهو ما ألزمه بالتحرك سريعًا.
عقد مبارك مؤتمرًا اقتصاديًّا كبيرًا عام 1982 تحت عنوان: "من أين وكيف تبدأ مسيرة التنمية في مصر؟"، وجرى الاتفاق على اتباع استراتيجية. قال مبارك عنها فيما بعد: "الهدف هو توفير احتياجات الناس، إيجاد فرص عمل، بناء بنية أساسية لبلد خرج من فترة حروب، ومراعاة البعد الاجتماعي للطبقات غير القادرة".
هذه القرية التي وضعها الرئيس على جدوله لتنفيذ خطته قرية فقيرة الخدمات لكنها منتجة. يصنع أهلها السجاد اليدوي، يعلمون أولادهم، يكسبون ويصدرون للخارج.
خرج أهلها على الجسر ليشاهدوا موكب الرئيس: عايدة السيد مدكور الفلاحة التي عادت مسرعة من الغيط لترى الموكب، ابنها عزالدين الحاصل على "دبلوم المصانع الحربية" وتَعين حديثًا في هيئة الطرق، وحسن ناجي، التاجر ذائع الصيت في القرية، وقد فض جلسة جيرانه المتجمعين عنده لشرائه التليفزيون مؤخرًا.
يصف حسن التاجر قريتهم التي رأها الرئيس بـ"المدفونة". يشكل مشهدها بيوتا من الطوب اللبن، وحدة صحية واحدة، مدارس ابتدائي وإعدادي متواضعة الحال كان يقيم بها المهاجرون وقت الحرب، وأطفال يعمل أغلبهم في صناعة السجاد؛ لينفقوا على أنفسهم بجانب الدراسة.
لكنها رغم ذلك؛ تملك صناعة قوية ومربحة، حيث وصل متوسط دخل الفرد العامل في الصناعة لـ150 أو 200 جنيه شهريًا في وقت لم يتخط فيه سعر الدولار الجنيه الواحد، ويمكن شراء كيلو من الخضروات بحوالي ـ12 قرشا، كما أن "عزالدين" الذي سيتزوج في يوم الزيارة نفسه، لم يكلفه زواجه إلا شراء غرفة نوم في بيت والدته بـ1000 جنيه وذهبًا كان جرامه بـ20 جنيهًا تقريبًا.
مر الرئيس على بيوتهم، التي تضم 500 نول يعمل عليها 2500 عامل وعاملة. مزح معهم، والتقط الصور. ورغم عدم تلقي حسن التاجر أي تعليم؛ كان لديه من الفطنة ما جعله يفهم أن هذه الزيارة سوف تفتح عليهم بابًا عملوا كثيرا على تجنبه.
فسكان القرية كانوا يبتعدون كلما اقتر ب مندوب الضرائب من القرية. فلا علاقة بينهما منذ عرفوا المهنة. لكن بعد الزيارة أصبح عليهم تقنين أوضاعهم. ارتضوا الأمر بعد أن أوصى الرئيس وزيرة الشئون الاجتماعية بتوفير مستلزمات الإنتاج لهم وتسويق منتجاتهم، وهو ما عاد بالخير على القرية خلال سنوات طويلة فيما بعد.
في منتصف التسعينيات؛ انتشرت الحملات الداعية للقضاء على الأمية في القرية. وقد بلغت نسبة الملتحقين بالمرحلة الإبتدائية – وفقًا لبيانات البنك الدولي – 95%. ولد أحمد، الابن الرابع لعزالدين وحفيد عايدة السيد مدكور التي ظلت تعمل في الغيط كل يوم منذ شروق الشمس وحتى غيابها. أصبح لدى حسن التاجر مصنع آخر وخمسة أبناء يساعدونه في صناعته. وقد تبرع أحد أثرياء القرية بفدان لبناء مدرسة ثانوي، كما أسست الجمعية الشرعية الإسلامية المستشفى الأول لهم.
سارت أمورهم على نحو جيد حتى تأثر حسن وغيره من أهل القرية العاملين في الصناعة جراء الضربة القاصمة التي شهدها قطاع السياحة بعد الهجوم الكبير الذي أودى بحياة 62 سائحًا بالأقصر عام 1997، وكانت القرية تعتمد على طلبات الأجانب. لكن كل هذا مر أيضًا وأعيد انتخاب مبارك من جديد عام 1999رئيسًا للبلاد في استفتاء شعبي عليه مرشح أوحد؛ حيث إن الدستور المصري وقتها كان يحدد فترة الرئاسة بست سنوات دون حد أقصى للمرات التي يمكن أن يترشح فيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صارت القرية تتابع القنوات الفضائية الحديثة. تفاجأ متابعو قداس عيد الميلاد بحضور جمال مبارك، نجل الرئيس، للتهنئة لأول مرة. قد مر حينها عام على تعيينه رئيسًا لأمانة السياسات العامة بالحزب الوطني الحاكم، والذي بدأت تنتشر معه أخبار إعداده لخلافة والده؛ الموضوع الذي بات الحديث عنه محرمًا لسنوات.
ما زال التاجر حسن ناجي يعمل ومن معه بكامل طاقاتهم، فالسياحة في أفضل أوقاتها، لكن بدأت آثار الزيارة التي قام بها الرئيس لقريتهم تختفي، ولم يتبق منها إلا الضرائب والتأمينات دون دعم من الحكومة كما حدث في السنوات الماضية أو بحسب وصف حسن: "رفعت يدها عنا وسلمتنا للتجار".
فيما باتت عايدة السيد مدكور تخشى على أرضها، فأغلب الأراضي الزراعية المجاورة لها تم البناء عليها بعد أن زاد عدد سكان القرية. لم يكن يشغلها في هذا الوقت سوى هذا الأمر، أما تدبير معيشتها اليومية، فلم تكن مسألة شاقة لدرجة كبيرة عليها؛ فتشتري الأنبوبة بـ4 جنيهات واحتياجاتها من المجمع الاستهلاكي الذي جدد أسعار السلع هذا العام: كيلو اللحم بـ16 جنيهًا، زيت الذرة بـ5 جنيهات، وكيلو الأرز بـ165 قرشًا. وأصبحت تذهب إلى أقاربها بالجيزة مرة شهريًا بعد عمل الكوبري الجديد: "اكتشفنا أن المسافة مش بعيدة بعد الكوبري اللي عمله الريس".
أما ابنها عزالدين الذي أنجب ابنًا خامسًا، فغرق في مصروفاته التي زادت خاصة مع كثرة الدروس الخصوصية. وأصبح روتينه اليومي يتلخص في إنهاء وظيفته في الثانية ظهرا، ثم يسرع باتجاه بيته لعمل منتج أو أكثر من السجاد اليدوي يدعم بعائدها الذي يصل لـ200 جنيه راتبه الحكومي.
ثم جاء العام 2005 ليقدم مبارك على تعديل دستوري جعل انتخاب الرئيس بالاقتراع السري المباشر، وفتح باب الترشيح لقيادات الأحزاب. فذهبت عايدة السيد مدكور لتنتخبه مجددًا بعدما مرت من القرية عربات تحمل ميكروفونات وتدعو لذلك.
وبينما تدلي عايدة بصوتها – وهو ضمن 93% من أصوات المحافظة التي ذهبت إلى مبارك - قد أخذ اهتمام حفيدها أحمد عزالدين أجهزة الكمبيوتر التي انتشرت أكثر في القرية ودخلها الإنترنت على استحياء. فكان يذهب إلى "السايبر" للعب عليها وتصفح الموقع الجديد "فيسبوك" في أوقات فراغه من مدرسته وصناعة السجاد مع والده.
مرت سنوات؛ بلغ متوسط دخل الأسرة السنوي 20 ألف جنيه لكن يقل عند أسر الريف اللذين انخفض إنتاجهم للقطن من 600 ألف طن في عامي 2005 – 2006 إلى 281 ألف طن في عامي 2008 – 2009. اضطر أهل القرية إلى جمع الأموال لشراء ماكينات ضخمة لفلترة المياه التي أصبحت غير صالحة للشرب وكثر مرض الفشل الكلوي في القرية بسببها بحسب عزالدين؛ لذلك أصبح ملء الصفائح عادتهم اليومية. وفي بيت عايدة السيد مدكور؛ يقوم حفيدها "أحمد"- وقد بلغ الـ15 عامًا- بهذه المهمة.
وفي 6 يونيو عام 2010؛ صادف أحمد أثناء تصفحه الإنترنت صورًا لشاب يُدعى خالد سعيد. يقول إن هذه القضية لم تشغله، كذلك أهله. لكن شَغلهم تراجع عملهم بشكل ملحوظ مع زيادة أسعار السلع والخامات التي يستخدمونها. يقول حسن ناجي: "عشنا 10 أو 15 سنة حلوين، والمفروض لما نتقدم منرجعش!".
في الوقت نفسه أعلن الرئيس ترشحه لولاية سادسة، واكتسح الحزب الوطني الحاكم انتخابات مجلس الشعب بنسبة تجاوزت الـ90%.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تبدل مشهد القرية عن الصورة التي رأها الرئيس في 1987: تحولت الأرض الخالية التي هبطت عليها طائرته إلى مركز شباب القرية. زاد عدد سكانها نحو ثلاث أضعاف، زادت المدارس وانضمت لها أخرى أزهرية، أصبحت البيوت من الخرسانة المسلحة، رُصفت الطرق، تم تجديد الوحدة الصحية، لكنها ظلت وحيدة بجانب مستشفى الجمعية الشرعية الذي ارتفعت أسعاره، فيلجـأ أغلب الأهالي إلى الذهاب إلى العيادات الخاصة.
حصل أبناء حسن الكِبار على تعليم عالٍ، بينما انقسم أبناء عزالدين بين الدبلوم والجامعة. ولازال أسرة حسن وغيرهم من أهل القرية يحتفظون بالصحف التي تحمل صورهم مع مبارك.
وفي 25 يناير؛ قامت الثورة ضد الرئيس وانقسمت القرية.
تمنى أحمد عز الدين أن ينزل إلى القاهرة؛ ليشارك في التظاهرات ضد مبارك. كان مؤيدًا لها عكس أهله وكبار القرية. لكن "منعه الكباري المفتوحة عند القناطر، وغلق الطرق الواصلة بينهم وبين القاهرة، كذلك خوف والده"- بحسب ما يقول. في حين يضرب حسن التاجر (60 سنة) كفًا بكف ويسأل نفسه: "هنطول على ده الحال؟"، ويقصد توقف الحركة، العمل، والسياحة. أما عايدة السيد مدكور، فلم تكترث كثيرًا بوجوده أو وجود غيره.
قرية ساقية أبوشعرة؛ إحدى قرى مركز أشمون في محافظة المنوفية، وهي أشهر قرية في صناعة السجاد اليدوي.
فيديو قد يعجبك: