كفر طهرمس.. تعرف على منطقة عُرفت بـ"حريق عقار الدائري"
تقرير- مارينا ميلا:
لأيام، قد تبطئ السيارات المارة على الطريق الدائري بطريق الهرم قليلا، لتلتفت وتلقي نظرة على برج محترق تتصاعد منه الأدخنة رغم مرور أسبوع على اندلاع النيران به.
وقد صوب ذلك المبنى الضخم الأعين إلى العالم الذي يجري أسفله. ذلك العالم يشبهه في أسبابه، نشأته، مظهره، مخالفته، وووقوفه على أرض كانت زراعية.. عالم "كفر طهرمس" الواقع على مساحة 4 كم تقريبًا، والذي يمكن اكتشافه بالهبوط على سلالم الدائري المتهالكة.
في السابق، كانت هذه المنطقة اسمًا على مسمى، "كفرا" بالفعل: مساحات خضراء من كل اتجاه، ومزارع، وفلاحون. لكن بعد أن التف حولها "الطريق الدائري" الذي بدأ 1986 وتم افتتاحه عام 2005، لم تعد كذلك، إذ تبدل كل ما هو أخضر بخرسانات عشوائية تقف متحدية قانون تجريم البناء دون ترخيص والتعدي على أراضٍ زراعية. وقد انعكست عشوائية تلك الأبنية على ساكنيها ثم على كل شيء حولهم.
في بداية الألفينيات، استغل صلاح القادم من أسيوط مع أسرته ويسكن بمنطقة بولاق الدكرور طرح أراضٍ للبيع بكفر طهرمس الخالية المطلة على أهم مشروع مروري آنذاك. فلم يترك الفرصة تضيع في وقت كان المتر الواحد فيه بخمس جنيهات ونصف. فوضع صلاح كل المبلغ الذي ادخره لشراء 100 متر يبني عليها بيتًا فيما بعد ليتركه لأبنائه الأربعة.
وبالمثل اشترت "أم محمد" في عام 2014 أرضًا بالمنطقة نفسها، لكن قد وصل سعر المتر 2000 جنيه. وأخذت السيدة قرارها بعد أن ضاقت الشقة التي تسكنها في فيصل المجاورة لكفر طهرمس عليها وزوجها وأبنائها الخمسة، فاضطرت إلى بيعها وبنت بيتًا من ثلاثة أدوار يسع أبناءها وزوجاتهم جميعا.
ما بين الوقت الذي اشترى فيه صلاح أرضه ووقت انضمام أم محمد له بنيت عشرات المباني المخالفة في كفر طهرمس والمناطق المحيطة بها، والتي شكلت وغيرها الكتلة العمرانية العشوائية التي قدرها رئيس الوزراء بـ50% من إجمالي البناء.
"وإيه اللي يجيبنا من بلادنا لهنا إلا لو مكنش لينا مكان فيها!"، تقول "أم محمد" (45 سنة) عندما تحكي عن مجيئها من بلدها بني سويف عام 1997 للسكن في القاهرة أو الجيزة بحثًا عن فرصة عمل لزوجها انتهت إلى عمله "فواعلي" باليومية، وعليه خرج أبناؤها الخمسة من المدارس واحدا تلو الآخر، ثم تزوجت ابنتها الكبرى في سن مبكرة، وأنجبت 3 أطفال.
أسرة "أم محمد" ضمن 9 ملايين نسمة يسكنون محافظة الجيزة، وجعلوها تحتل المركز الثاني بعد القاهرة في الكثافة السكانية. وتعد "بولاق الدكرور" أكثر مناطقها عددًا، إذ تصل إلى المليون تقريبًا، بحسب الدكتور عمرو حسن، مقرر المجلس القومي للسكان، الذي أشار خلال بيان سابق إلى أن نسبة الأمية بين الإناث ارتفعت إلى 33% عام 2017 ما يترتب عليه زواج وإنجاب مبكر.
لم تختلف الحال عند أسرة صلاح، عامل النظافة بإحدى الحدائق العامة، حيث خرج أبناؤه أيضًا من المدارس بمن فيهم "محمود" الأصغر الذي اكتفى بالصف الأول الإعدادي، واتجه نحو الورش ليعمل نقاشا، ثم ميكانيكيا حتى انتهى به الحال إلى شراء "توك توك".
لسنوات اعتمد سكان كفر طهرمس على جهودهم للتكيف مع حياتهم التي أقاموها على ضفاف الطريق الدائري. لجأوا لاستخدام نظام الممارسة فى الكهرباء ودفع 5 آلاف جنيه عن الشقة ليدخلها العداد ويصدر وصل باسم المالك يغنيه عن المصالحة مع الحي أو استخراج ترخيص. قاموا بتوصيل الصرف الصحي بالجهود الذاتية، ومن قبل كانوا يأتون بمياههم من "الطرومبات". ذلك كله قبل أن تدخل المنطقة الخدمات والمرافق كافة- بحسب السكان.
وعلى الرغم من أن العشوائية تصبغ تفاصيل المشهد هنا حتى إن أكوام القمامة ومخلفات المباني تتراكم على جانبي الطرق وتُحرق، إلا أن المنطقة أخذت في التطور، وتسارعت وتيرة البناء حتى خرج منها الأبراج العالية المتصدرة واجهة المنطقة على الدائري، كذلك انتشرت اللافتات المعلنة عن شقق للبيع، والتي رآها سيد جودة، الموظف، في عام 2017 عندما كان يبحث عن سكن أفضل لأبنائه الثلاثة بدلا من منطقة إمبابة، ولم يجد أحدًا من المسؤولين فى الحى أو المحافظة قد حذر أمثاله من الشراء.
كان سيد أول ساكن في البرج الضخم المطل على الطريق الدائري والمكون من 14 طابقا و105 شقق، ذلك مقابل 220 ألف جنيه لشقة على الطوب الأحمر. وقتها عرف سيد أن العقار بلا ترخيص، وتم بناؤه على أرض زراعية خارج الحيز العمراني، لكن لم يكترث بالأمر: "كل المباني في مصر مخالفة وصاحب العقار قال لما تبقى تيجي مخالفة ندفعها. أنا كل اللي همني وقتها إن المبنى تكون أساساته قوية".
تضع "أم محمد" لافتة على بيتها لتكون في مواجهة أفراد الحي مفادها أنه "تم التصالح" فيما يخص مخالفتها لشروط البناء، ذلك بعد أن دفعت عشرة آلاف جنيه كدفعة أولى اقترضتهم من شقيقتها. تحكي ذلك ثم تشير إلى مجموعة من العقارات أمامها يسمونها بـ"البلوكات": "هي المباني الوحيدة المرخصة عشان كده اسمها مباني الحكومة وهي الأقدم هنا".
كانت المادة 104 من قانون البناء الموحد رقم 119 لسنة 2008، تلزم بحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر وغرامة 50 ألف جنيه كحد أدنى لإقامة أعمال دون الأصول الفنية المقررة قانونًا. لكن لجأت الحكومة لإصدار قانون التصالح في مخالفات البناء عام 2019 حتى تتفادى "أم محمد" و"صلاح" ذلك المصير إلى جانب هدم بيتهما.
وعلى الرغم من أن صلاح تكلف نحو 250 ألف جنيه ما بين البناء والغرامة، فهو وأسرته لم يستقروا في كفر طهرمس لارتباطهم ببيتهم في بولاق الذي سكنوه لأكثر من 45 سنة.
لكن محمود، الابن الأصغر لصلاح - 23 عاما- ترك العمل في بولاق، وجاء إلى كفر طهرمس ليفتح محل بيع المواد الغذائية بسعر الجملة: "خلصت القضايا اللي عليا ودلوقتي بدقها بالحلال. هنا بالنسبة لنا بورتو السخنة يعني أحسن من بولاق وبعيد عن القلق والناس بتاعت شقا".
يقول محمود إن جميع ساكني كفر طهرمس تقريبًا من محافظات أخرى أو مناطق مجاورة؛ يعمل أغلبهم عمالًا والقلة موظفون، فيما يلجأ عدد من الشباب الآن للعمل بخدمات التوصيل عبر الإنترنت مثل شراء ملابس والرسم والطباعة عليها، ومن ثم بيعها عبر صفحات فيسبوك.
وفي يوم 30 يناير الماضي، تفاجأ سيد جودة وأسرته لأول مرة بصراخ يملأ البرج الذي سكنه في 2017 ومعه نداءات: "اخرجوا العمارة بتولع". خرج سيد وأسرته بملابس البيت من دون أن يحملوا معهم شيئًا. وبعد ما يقرب من الساعتين– بحسب سيد– وصلت قوات الحماية المدنية التي حاولت إخماد الحريق لكن لم تنجح تماما وتصاعد حتى التهم شقق ومنها شقة سيد.
كان مصدر الحريق هو مخزن الأحذية الذي يملكه صاحب العقار في الدور الأرضي، لذلك قررت النيابة انتداب عدة لجان ضمن إجراءات التحقيق في الواقعة: لجنة من مكتب السلامة المهنية بمكتب القوى العاملة، لجنة من الإدارة المختصة بمحافظة الجيزة، لجنة من الإدارة الهندسية بمركز كرداسة لمعاينة العقار والمخزن.
وأودعت الإدارة الهندسية بمركز ومدينة كرداسة تقريرًا أثبتت فيه استغلال الطابق الأرضي في نشاط تجاري هو تخزين الأحذية، ما أدى لوجود مواد معجلة للاشتعال. كما ذكرت أن العقار غير مرخص ولا يمكن صدور ترخيص له لوقوعه خارج الحيز العمراني وبنائه على أرض زراعية في حرم الطريق الدائري، لذلك تم رفض طلب مالك العقار بالتصالح.
وأشار هذا التقرير إلى عدم اتخاذ بعض المهندسين بمركز ومدينة كرداسة الإجراءات القانونية تجاه القائمين بأعمال تلك المخالفات مما تسبب في عدم تحرير محاضر بالمخالفات والتقاعس عن المتابعة. لذلك أمرت النيابة العامة بحبس مالك العقار ونسبت إليه اتهامات بإقامة عقار دون ترخيص، وعدم تنفيذه القرار الصادر من تلك الجهة بإزالة الأعمال المخالفة بعد انتهاء المدة المقررة قانونًا، وعدم اتخاذه- بوصفه صاحب عمل- الاحتياطات والاشتراطات اللازمة للوقاية من مخاطر الحريق.
في اليوم السابع لاندلاع الحريق استمر تمركز رجال الشرطة والحماية المدنية أمام العقار وفي الشوارع الجانبية. تم إخلاء العقارات المحيطة وفتح الطريق الدائري ناحية الهرم، والذي تعطل ليومين عند بداية الحريق، حيث يذكر محمود أنه كان يصل بصعوبة إلى عمله بعد أن يترجل من العربة الأجرة التي يستقلها من بولاق ليسير وسط عربات النقل المتراصة على الدائري وصولا إلى سلم طهرمس.
كما لم تهدأ الأحاديث هنا عن الحادث حتى وإن هدأت نيرانه. يتفق سكان العقار يوميًا على "واتس آب" أن يأتوا من الأماكن المتفرقة التي توزعوا عليها للمقابلة على مقهى بالمنطقة ليتابعوا تطورات الأمر والمصير الذي ينتظرهم، خاصة بعدما صدر تكليف الوحدة المحلية لمدينة كرداسة بسرعة تنفيذ قرار لجنة المنشآت الآيلة للسقوط بهدم العقار كليا. يقول سيد: "أنا تقريبا ببات على القهوة لأن ولادي ومراتي عند جدتهم ومفيش مكان ليا".
ليس سكان العقار فقط من يشغلهم الأمر، لكن الجميع هنا يتحدث عما أصاب هؤلاء وضياع "شقا عمرهم" وعن صاحب العقار الذي تقول "أم محمد" عنه: "راجل بتاع خير بروح له بمقاسات العيال الصغيرة يدينا كوتشيات ببلاش، وهو كان يعني عمل إيه؟". كما يفكرون في الأثر الذي يلقيه حادث البرج عليهم، فقد تم تكليف الوحدة المحلية أيضًا بمراجعة موقف العقارات المجاورة للعقار على أن يشمل الفحص: تراخيص تلك العقارات ووجود مخالفات لأحكام قانون البناء بتلك العقارات من عدمه.
لقد وجد ساكنو الكفر أنفسهم في دائرة صخب لم يعتادوا عليها من قبل: "كل الناس عرفتنا خلاص بعد موضوع العقار". تقول أم محمد ذلك ثم تستكمل مشاجرتها المعتادة مع المشرفين على بناء عقار أمام بيتها بسبب فتحهم شبابيك خلفية ستصب مخالفتها على مساحة الأربعة متر المتروكة أمامها: "أنا لما جيت كان كل ده فاضي مفيش غير بيتين عاليين بس في أول الشارع وآخره، لكن دلوقتي مفيش متر فاضي".
فيديو قد يعجبك: