بالزغاريد و"الغنا على السمسمية".. جيران القناة احتفلوا بتعويم سفينة بنما
كتبت- شروق غنيم:
اعتاد أهل منطقة "المشروع" على حركة السُفن في قناة السويس، التي يرونها عبر نوافذ منازلهم، ألفوا مشاهد الحركة الدائمة، وبها تدّب الحياة في أرجاء القرية الصغيرة، ومن الأراضي الزراعية يطل أهل البلدة على أهم ميناء عالمي، غير أن يوم الثلاثاء الماضي، تغيرت معالم المكان، وساد الصمت لأول مرة منذ عام 1975.
ومنذ افتتاح قناة السويس عام 1869، توقفت بها الحركة ثمان مرات في أعقاب حروب، كان أخرها عام 1975، بعد حرب يونيو عام 1967، ودام الإغلاق لمدة 8 سنوات. ومنذ تلك اللحظة ولم تقفل القناة أبوابها في وجه الملاحة العالمية "الأجيال الصغيرة في البلد متعرفش فكرة إن ممكن القناة تقف أصلًا".
وبعد قرابة 46 عامًا، في الثالث والعشرين من مارس لعام 2021، كان الإغلاق التاسع في تاريخ قناة السويس، إذ علقت سفينة حاويات بنمية عملاقة تسمى "إيفر جيفن"، الثلاثاء الماضي، عند الكيلو 151 بقناة السويس، خلال رحلتها القادمة من الصين والمتجهة إلى روتردام في هولندا.
في القرية الصغيرة بمحافظة السويس، يعرف الجميع بعضهم البعض؛ كلما مرّ السيد المدبولي يسأله أهل البلد باللهجة السوايسية "أخبار القنال إيه؟ مش هيمشي تاني"، إذ يعمل السيد منذ 25 عامًا سائقًا لإحدى القاطرات بقناة السويس "الناس كانت في حالة حُزن وذهول.. فجأة البحر وقف، وبقى ولا كإنه صحراء".
على القاطرة كان يتناوب السيد في وردياته، أصبح مُعايشًا لتفاصيل تحريك السفينة، والجهود المبذولة على الأرض، وأيضًا قريبًا من ردود فعل أهل القرية ومشاعرهم وكيف أراد الجميع المُساهمة من أجل إعادة الحياة مُجددًا في روح القنال "الناس كانت تقعد في الأراضي الزراعية لبليل، مستنية لحظة الفرج، ورغم وجود الأمن وسور فاصل بينا والقنال، لكن حبوا يحرسوا برضوا المنطقة".يقول الرجل الخمسيني في حديثه لمصراوي.
في منطقة المشروع الممتدة على خط الجناين، يقطن غريب عاطف، لا يطل منزله مباشرة على مكان السفينة الجانحة، إلا أنه كان يذهب بالمنطقة المُحيطة لمقابلة أهل المكان "كلنا عارفين بعض". يحكي صاحب الـ43 عامًا، الذي لم يشهد في حياته لحظة توقف نبض قناة السويس.
بلسان بسيط كان الناس يعبرون عن مخاوفهم من الأحداث وأثرها على وطنهم "يمكن مش عارفين حجم الخسائر ولا متابعين أخبار، لكن الكل كان بيدعي إن ربنا يكرم والسفينة تطلع".حين كان يُنهي المدير بإحدى شركات البترول عمله يذهب إليهم "كلهم ناس كبيرة في السن.. بركة، وبعد صلاة العشاء كانوا ينظموا دعوات وابتهالات لربنا".
لم يقف أهل القرية خلال الأيام المنصرفة عن تلاوة أيات قرآنية "وسخّر لكم الفُلك لتجري في البحر بأمره"، كما يحكي عاطف "الحمد لله ببركة المجهودات الدعوات ربنا قدر يزيح الغُمَّة".
في البحر كان يقضي السيد المدبولي أغلب وقته على واحدة من القاطرات التي تساعد في تعويم السفينة، وبعد يوم شاق يعود إلى منزله الذي يقع ترتيبه الثالث في البيوت المُطلة على الضيفة العملاقة التي حلّت على القرية "بليل كانت ناس تتجمع بالسمسمية ترتجل وتغني.. أصغر واحد فيهم ييجي خمسين سنة".
قضى السيد المدبولي حياته في مياه القناة، يصف عمله بأنه "ريّس بحر"، حيث ورث ذلك عن والده المدبولي شلبي، الذي ولد عام 1930 وعمل سائقًا على إحدى القاطرات أيضًا "بس وقتها مكنتش قاطرة بالشكل ده، أبويا لحق الشغل على القناة أيام الإنجليز".
حكايات متقطعة حكاها الوالد قبل سنوات طويلة لصغيره، فتشرّب حُب البحر أيضًا وصار سائقًا مثله "بقيت شبه ابن البحر، وحياتي كلها إديتها للقناة.. حكالي عن تأميم القناة، وفرحة المصريين ساعتها باللي حصل".
بعد مرور حوالي أسبوع من جهود العُمال المصريين، نجحوا في تعويم السفينة التي وقفت حاجزًا في مجرى القناة، كان نصيب السيد احتفالين "بقينا في القاطرات نزمّر ونحتفل"، وبعد ساعة إلا ربع عاد إلى بيته في منطقة المشروع "لقيت زغاريد وتهييص.. أفتكرت في فرح أتاري أهل القرية بيحتفلوا".
على إيقاع السمسمية أخذ الأهالي يرتجلون، كما يحكي السيد المدبولي عند بيت مجاور له "مجموعة كانوا قاعدين مع بعض رجالة كبيرة في السن، كلهم على المعاش.. واحد منهم فضل يغني بفطرته.. يجعلك عمار يا قنالنا.. ونشوف المراكب رايحة وقافلة الشمال.. شوفوا شوفوا القنال شوفوا الجناين، شوفوا النفق فوقوا السفاين.. قولوا معانا الله أكبر على بلدنا الله أكبر".
الأجواء الاحتفالية لم تنقضِ كما يذكر غريب عاطف، الذي شمله الدفء رغم برودة الطقس أيامها "قعدنا سوا، الستات بقت بتجيب لنا اللي طابخاه ناكل ونشرب شاي وسهرة لحد واحدة الصبح، نغني يا بيوت السويس يا مدينتي.. إحنا القناة مش رمز للمدينة بس، لا دي حياتنا كلنا".
فيديو قد يعجبك: