أصل الحكاية| أبطال تجهيز عرض المومياوات الملكية عام 94 يتحدثون لمصراوي
كتبت-إشراق أحمد:
أعوام انقضت لكن أيامها لم تدخل في عِداد الذكرى لدى أصحابها؛ فهي لم تغادر المرمم نصري إسكندر، المدير السابق لمركز بحوث الآثار، كأنما ترك روحه هناك في حضرة قاعتي 52 و56 بالمتحف المصري، لا يمكن أن ينسى إسكندر بسهولة 22 عامًا من عمره قضاها بين المومياوات الملكية مسخرًا نفسه لتحقيق الحلم "كان مشروع حياتي إني ألاقي طريقة لحفظ 50 مومياء موجودة في المتحف"، فيما يؤجج الرقم "27 عامًا" مشاعر عبير العدني، وهبت الباحثة قلبها للآثار لحظة مشاركتها بالمشروع الأول لها في مسيرتها العملية، تتعجب الأستاذة بجامعة أبردين بينما تستقر الآن باسكتلندا "مش مصدقة.. معقول الوقت ده كله عدى".
تتوجه الأنظار اليوم لموكب نقل 22 مومياء ملكية من المتحف المصري في التحرير إلى المتحف القومي للحضارة في منطقة الفسطاط بمصر القديمة، لكن إسكندر يتابع ما يحدث بمشاعر مختلفة، ما بدأه أستاذ الترميم من السبعينيات يكمله فريق آخر في ظروف أفضل كثيرًا مما عايشها.
وضع المدير السابق لبحوث الآثار بذرة حفظ المومياوات الملكية "والآن بتطرح" فالطريقة التي يتبعها المرممون حاليًا في عرض المومياوات الملكية داخل صناديق مخصصة ذات بيئة ملائمة للحفظ، كان لإسكندر الفضل في اعتمادها نظريًا وتنفيذها عمليًا حين تجهيز قاعة المومياوات الملكية في المتحف المصري لأول مرة عام 1994.
26 عامًا ظلت مجموعة المومياوات الملكية رهينة المخازن، تُفتح الأبواب لأصحاب الشأن من الباحثين والرؤساء لرؤيتها، كان الفضول يراود إسكندر للعمل على تلك المجموعة، أراد أن يرممها في وقت يخشى الجميع الاقتراب منها "خوف من تدميرها ولأن الإمكانيات كمان قليلة جدًا والعملية صعبة"، راودته الأمنية حتى أطلت نافذة صغيرة عام 1972 تنير له الطريق "بدأنا نعمل دراسات أشعة X ray على المومياوات بالشراكة مع جامعة ميتشجان الأمريكية"، لم يتردد إسكندر، بادر بالتطوع لترميم مومياء "حنوتاوي" ابنة رمسيس الثاني، والأخت غير الشقيقة لـ"مرنبتاح".
عام كامل عكف إسكندر على ترميم "حنو تاوي"، من وقتها حمل على عاتقه مشروع حفظ المومياوات الموجودة في المتحف المصري. استمر المرمم المصري في العمل 15 عامًا إلى جانب مهام بحثية أخرى "أوقات كتير كنت بصرف من جيبي عشان أعمل أبحاث وأجيب أدوات"، قطع على نفسه عهدًا ألا يبرح المتحف حتى يترك كل مومياء سليمة من التدمير.
كل الخطوات دفعت إسكندر للمضي؛ عام 1987 ًقدم للمتحف المصري منحة للتطوير عن طريق البنك الدولي بالتعاون مع مؤسسة في باريس تتبع اليونسكو"9 مليون دولار كان مبلغ كبير وقتها وكان الهدف توسيع سعة المتحف من 5500 متر مسطح غرض إلى 7 آلاف"، اختير كبير المرممين المصري ضمن لجنة بحث سبل تطوير المتحف، في ذلك الوقت لم تكن عبير العدني سوى طالبة في السنة الثانية بكلية الآثار جامعة القاهرة. لا تعلم أن أعوام قليلة تفصلها للانضمام إلى واحد من المشاريع الأثرية المؤثرة.
طرح إسكندر ثلاث توصيات في لجنة التطوير، أولها "محاولة علاج أوضة المومياوات الملكية". كانت المومياوات بالفعل في حجرة وصناديق زجاجية لكن غير مؤهلة للحفظ الدقيق واستمرار بقائها على هذا الحال يهددها، أما المقترحين الآخرين كانا تطوير مقبرة نفرتاري وترميم أبو الهول. قُبلت التوصيات وتولى إسكندر إدارة مشروع تجهيز القاعة الملكية، فيما شارك في المشروعين.
الاكتشاف للخبيئة الأولى للمومياوات كان 1881 بالدير البحري في الأقصر، تعرضت المومياوات للتحنيط مرتين كما يقول إسكندر لمصراوي، الأول عقب وفاتها والثانية حينما جمعت الأسرة 21، عدد 39 مومياء في خبيئة واحدة منذ نحو ألف سنة قبل الميلاد "استعملوا وقتها ما يمكن تسميته بوقتنا الحالي حقن تحت الجلد للحفاظ على الهيكل في حالته كأنه متوفي إمبارح"، مما يتطلب بذل جهد للحفاظ على جثامين الملوك "وعمل حيز مقفول يكون مناسب لجو المقابر". توصل إسكندر لصناعة ما يمكن وصفه بالرحم.
لم تكن المهمة يسيرة، هاجم الكثير فكرة إسكندر بالهجوم، وصفه البعض بالجنون، تعرقلت خطاه بزعم أنه لا يوجد سند علمي مسبق يمكن الاعتماد عليه، صار على مدير مركز بحوث الآثار أن يؤسس لبحث علمي جديد لكيفية حفظ المومياوات في درجة حرارة مناسبة، أن يعرف الحرارة الملائمة في الأساس، وقد فعل.
لأشهر يقيس إسكندر درجة حرارة في أماكن مختلفة لتواجد المومياوات، يسافر إلى الأقصر، يعود إلى سقارة، ثم يلزم المتحف المصري متنقلاً بين البدروم والطوابق الثلاثة، يستخدم مومياء "نِفر" –موسيقى الأسرة السادسة- نموذجًا للتطبيق.
حتى محيط المتحف لم يتركه "درست إيه التلوث والعوادم اللي موجودة بره وممكن تأثر على الموميا لما تدخل من الشباك"، لم يترك الأثري الثلاثيني العمر حينها ثغرة إلا وحاول التكفل بها، إلى أن صار لديه 19 عنصرًا يضعها نصب العين بينما يؤسس نظرية تصميم الصناديق والقاعة المخصصة للمومياوات.
اختار إسكندر الطريق الأصعب؛ أن يعمل في صمت، بحث عن سبل التعاون لتحقيق الحلم الذي يراه وحيدًا بعينيه ويلقى بعض الداعمين، على رأسهم "لويس مونريال" رئيس اللجنة المشاركة في المشروع، الذي تواصل مع مدير معهد Paul Getty، ذلك الثري الأمريكي الذي وهب ثروته بعد وفاته للإنفاق على المشاريع الثقافية.
بالتعاون مع هذه المؤسسة البحثية توصل إسكندر لما يسمى "micro environment" أو البيئة متناهية الدقة "فاترينة مغلقة تمامًا نستبدل منها الإكسجين بالنيتروجين الراكد ونعمل بالونة من تحت الهوا يتنقل منها للفاتيرينه.كل حاجة ليها محابس وخارج". تلك الطريقة التي سار عليها المرممون لكن باستخدام النيتروجين المتحرك المتوفرة بالوقت الحالي وهو الأكثر تكلفة بحسب إسكندر.
مع مطلع التسعينيات أصبح لدى إسكندر أساس علمي قابل للتنفيذ شارك فيه أساتذة كيمياء وفيزياء ومهندسين وباحثين للبيئة، أي فريق متكامل معتمد من مكان دولي، لكن ظل هذا أيضًا غير كافي لإقناع المسؤولين وقتها لدعم المرمم المصري لعمل العارضات. لم ييأس إسكندر "أخدت الفكرة واتعملت الفاترينة الأولى في لوس انجلوس وجبتها مصر وقلت لهم هنعمل النموذج المصري وعملت تعديلات بسيطة بما يتلائم معانا وأخذت موافقة نعملها"، وبدأ العمل على تجهيز القاعة الأولى لتضم 11 مومياء ملكية.
لم يرغب إسكندر يومًا أن يعمل وحده، يؤمن المرمم الأثري أن "كل ما يشترك ناس أكتر وعلوم أكتر كل ما يكون البحث العلمي أعمق وأكبر". تلك المشاركة لم تقتصر على الباحثين فقط، خلق مدير مركز البحوث قاعدة دعم شعبية "كان بيجي زيارات لطلاب من الجامعة وثانوي يقعدوا وأعرفهم على المومياوات". وجد إسكندر أنيس إلى جانب مساعدين قلائل انضموا إليه مع التسعينيات، كانت عبير من بينهم.
عام 1991 عرفت عبير طريقها للعمل مع المومياوات الملكية للمرة الأولى، عقب تخرجها عملت في المعامل العلمية الموجودة في مبنى خلف المتحف المصري، كان مديرها "دكتور نصري إسكندر". سِيقت الأثرية الشابة للانضمام إلى فريق المساعدين الصغير "كان في 2 قبل ما انضم وبعدين انضم زميلين تانيين". جنبًا إلى جنب عملت عبير مع إسكندر، تعاونت مع زملائها لمتابعة نتائج الاختبارات المستمرة.
تتذكر عبير أن "اختبار كل علبة عرض وهي فارغة بيستغرق شهور"، وبعد التأكد من أن كل شيء على ما يرام يوضعون المومياء داخل العلبة ثم يخفضون مستوى الأكسجين حتى يكون معظمها من النيتروجين، بعدها تبدأ مرحلة الملاحظة اللاحقة "نرصد درجة الحرارة والرطوبة ونسجلها مرتين داخل وخارج العلبة ونوثق حالة كل مومياء"، كخلية نحل على مدار ثلاثة أعوام لم تهدأ عبير ورفاقها المساعدين لإسكندر.
قبل انضمام عبير لفريق إسكندر، لم تكن تعرف الكثير عن المومياوات، تعتبر الباحثة الأثرية في جامعة ابردين الأسكتلندية نفسها محظوظة للعمل ضمن التجهيز الأول للقاعة الملكية، منه لمست خطاها نحو البحث العلمي، فضلاً عن الرؤية المباشرة لأجساد الملوك الراحلين، تتذكر عيني رمسيس الرابع وهيكل الباروكة التي ترتديها نجمت، ومعرفتها بوجه "حنو تاوي" وكيف أُجرى ترميم لها بعد آلاف السنين.
تحدي كبير خاضته نفس عبير، استمدت القوة من مديرها، تراه لا يتوقف عن الاجتماعات لشرح عملية التجهيز وطمأنة الجميع أنها آمنة وأفضل شيء للحفاظ على المومياوات لأجل الأجيال القادمة. كما لا تنسى اللحظات العصيبة، تُطل عليها لحظة تحطم إحدى الألواح الزجاجية "اضطريت اجمع كل قطع الزجاج الصغيرة من كل مكان في المختبر"، بقدر ما تسبب ذلك من إحباط للفريق، لكن قائد الفريق وأفراده رأوا الجانب الإيجابي، فقد ظهرت حينها فاعلية هذا النوع من الزجاج في حالة وقوع أي حادث أثناء عرض المومياوات.
لم يكن في بال إسكندر عرض المومياوات للجمهور "كل اللي همني حفظها بشكل لائق"، أراد المرمم أن يحذو نهج الأجداد في فعلهم مع التحنيط، يحفظ لهم صنعهم بأقصى ما يملك من طاقة، لكن مع مطلع عام 1994 تكلل عمله على مدار 22 عامًا بمشهد جليل؛ وافقت الحكومة على افتتاح القاعة الأولى للمومياوات الملكية.
في مارس 94 وقف إسكندر ومساعديه يستقبلون الحضور، يستعيد مدير مشروع تطوير القاعة الملكية "حضر رئيس الوزراء عاطف صدقي وكل قناصل وسفراء الدول ووفود دولية من الباحثين والطلاب خلاف الناس"، كان المشهد أشبة بـ"مظاهرة كبيرة" كما يصف إسكندر.
ما التفت إسكندر ومساعدوه لفرحة المشهد بقدر عاطفيته، عز عليهم مغادرة القاعة، تقول عبير "عملنا نوبات مراقبة خلال أوقات العرض"، استقبلوا أسئلة الجمهور، وحصروا في الوقت ذاته على التأكد من أن مستويات الصوت جيدة، شعرت الباحثة من فرط رغبتها في حماية المومياوات بإحساس جديد "كأني وديت ولادي للمدرسة وحدهم أول يوم"، لم ترغب الباحثة في ترك المتحف وحده.
وثقت مؤسسة paul getty عمل إسكندر وفريق البحث في دراسة تم نشرها عام 1998، ذكرت أن تكلفة "الفاترينة الواحدة" تكلفت نحو ألفين دولار أمريكي "مما يشير إلى إمكانية عمل حالات عرض مماثلة"، وهو ما حدث في الهند لحفظ دستورها، وفي إسبانيا استعانوا بنهج إسكندر أيضًا لحفظ مومياء مصرية لديهم كما يقول المرمم المصري.
أخيرًا تحقق جزء كبير من حلم إسكندر، لكنه لم يكتف؛ واصل العمل حتى 2002 لإنهاء القاعة الملكية الثانية بالمتحف، وبالفعل تمكن من حفظ 6 مومياوات قبل خروجه على المعاش في هذا العام، غير أن مَن مثل نصري إسكندر لا يغادر، ظل متابعًا لخلفائه في المتحف إلى اكتمال العدد 12 والافتتاح الثاني عام 2006 الذي لم يأخذ صدى واسع شأن سابقه.
وضع إسكندر "سلمة" كما يصف، 23 مومياء حُفظت في أبهى صورة لأعوام طوال بفضل ما عمل وفريقه، استودع صُنعه دون انتظار جزاءًا ولا شكورًا، واليوم 22 منها تُنقل في موكب مهيب لا يقل عما حدث قبل 27 عامًا، يحفظ تفاصيلهم عن ظهر قلب كأنهم أبنائه، يُكن معزة خاصة لـ"رمسيس الثاني، مرمبنتاح، رمسيس الخامس، وحنوتاوي ونجمت"، بذل مجهود مضن لترميمهم.
أكثر من 40 عامًا من العمل مع المومياوات تمر أمام عيني إسكندر بينما يشاهد الموكب عبر التلفاز في منزله بمصر الجديدة، بنقل المومياوات لمتحف الحضارة يتحقق وجه من حلم آخر له "كنت من المشاريكين في تخطيطه واقترحت تكون القاعات أشبه بمشرحة للمومياوات خاصة للباحثين".
أما عبير، تكاد تعلم في هذه اللحظة ما يكنه المشاركون تجهيز المومياوات في متحف الحضارة. سبق أن اختبرت الأثرية تلك المشاعر "متحمسين وقلقانين للتأكد أن كل شيء اتنفذ على أكمل وجه"، من اسكتلندا تتابع الباحثة المصرية ما يجري عبر الانترنت، رغم اكتشافها المهم لبقايا الهرم الأكبر العام الماضي، إلا أنها تُضمر للعمل مع المومياوات الملكية اعتزاز كبير، تخُرج الصور التي التقطتها للمومياوات أثناء علمها، تعيد تفقدها بينما تنبض أحاسيسها لعلها تصل لمصر "قلبي وروحي مع زملائي العاملين في المشروع من وراء الكواليس".
فيديو قد يعجبك: