"الوخزة الأخيرة".. رحلة أمهات أطفال السكري مع جهاز القياس بدون "شكشكة"
كتبت-رنا الجميعي:
جرافيك-أحمد ياسين:
داخل المنزل كانت سمر الرمسيسي تبحث عن ابنها ذو العامين الذي اختفى في أحد أركان البيت، كان بيدها شريط قياس السكر ؛ فما إن لمحه صغيرها "هادي"، حتى جرى للاختباء في الدولاب، أخذت سمر تبحث عنه حتى وجدته "كان لسة مش بيعرف يتكلم، يدوبك بيقول ماما"، ولكنه ربّت بيديه ناحية صدره راجيًا إياها "عايز يقولي متشُّكنيش".
تُواجه سمر دومًا تلك المواقف من قِبَل ولدها الصغير، منذ أن اكتشفت إصابته بمرض السكر من النوع الأول، حينها كان هادي يبلغ سنتين، وفي عيد ميلاده أكل قطعة حلوى غاب بعدها عن الوعي "طلع عنده سكر"، منذ ذلك الوقت يخاف هادي من أثر "الشكّة" التي تُؤلم أصابعه، لا يقتصر الأمر على ذُعر هادي والألم الناتج عن الوخز، بل يصل إلى أثر الوخزات على الأصابع نفسها "فيه أصابع الجلد بتاعها تِخن ومبقاش ينفع أشكّها، وفيه أصابع التهبت جدًا، وبقت بتعمل بقاليل".
في نهاية شهر فبراير الماضي انطلقت حملة إلكترونية على موقع الفيسبوك تحت اسم "ادعموا جهاز فري ستايل ليبري في التأمين"، وفيها طالبت العديد من الأمهات بتوفير جهاز "freestyle libre" في التأمين الصحي، وهو جهاز لقياس نسبة السكر في الدم بدون وخز، ومن ضمن المُشاركات في الحملة الإلكترونية، مي عمر، التي تشرح مكوّنات الجهاز "هو مكوّن من قطعتين؛ قارئ استشعار بنقرأ منه مستويات السكر، وسينسور (مجسّ) بيتعلق في الجسم لمدة 14 يوم وبعدين يتغير"، فيما تبلغ قيمة المجسّ 1050 جنيه، ويجب شراءه مرتين شهريًا "وهو مُكلّف جدًا على أسر كتير عشان كدا عايزينه يتوفر في التأمين الصحي".
لا تتبع مي التأمين الصحي، غير أنها اشتركت في الحملة لأنها مُدركة أهمية الجهاز للمرضى الأطفال، ففي بداية مرض ابنها سلكت نفس طريق جميع الأمهات "واشتريت الجهاز التقليدي بس لمدة شهرين تلاتة"، وبعدها تعرّفت على إحدى مجموعات الدعم، وعن طريقه علمت بأمر الجهاز الذي أصبحت تطلبه من الخارج، فلم يكن مُتوفرًا في مصر.
وبسبب الجهاز قللت مي حجم المعاناة التي تُواجهها مع ابنها على مدار ثلاث سنوات ونصف، حيث يبلغ "علي" من العمر أربع سنوات الآن، وصارت الأم تطلب الجهاز بكميات حسب مقدرتها المادية، فيما تُدرك أن معاناة أمهات السكريين "أعمق بكتير مني"، لذا شاركت في الحملة التي أطلقتها مجموعة الدعم المُسماة "اكفل طفل سكري".
لم يكن جهاز "freestyle libre" مُتوفرًا داخل مصر خلال السنوات الماضية، غير أن شركة "abbott" المُصنّعة للجهاز قامت بتوفيره منذ يناير الماضي، كما تذكر داليا وائل، المسئولة عن مجموعة دعم إلكترونية أخرى تُسمى "type 1D -أمهات أطفال السكري"، ففي سبتمبر عام 2019 أطلقت داليا هاشتاج تُناشد فيه وزارة الصحة باستيراد جهاز "freestyle libre"، وفي نفس الوقت قامت بالتواصل مع الشركة التي يوجد لديها فرع داخل مصر، لكن لم يكن جهاز قياس السكر بدون وخز ضمن منتجاتها المتاحة، وعبر التواصل مع الفرع عرفت داليا أنهم بالفعل يُخططون لإتاحة الجهاز ضمن واحدة من ثلاث دول عربية واقع عليهم الاختيار، وكانت مصر ضمن الدول الواقع عليها الاختيار.
في 19 مارس 2020 أعلنت الحكومة المصرية تعليق حركة الطيران، والتي عادت مُجددًا في 1 يوليو من نفس العام، من ضمن من شعروا بأزمة التوقف كُنّ أمهات السكريين اللاتي يطلُبن جهاز قياس السكر من الخارج "كنا بنُطلب الجهاز من دول الخليج أو أوروبا، فجأة لما الطيران وقف مبقيناش عارفين نجيبه"، تقول شيرين جودة، المُثقّف السُّكري والمسئولة عن مجموعة الدعم "اكفل طفل سكري"، فالجهاز يُريحها كثيرًا من المعاناة مع طفلها "رغم سعره العالي كنا بنيجي على نفسنا وبوفره عشان ابني".
نفس المشاكل التي قابلتها مي وسمر مع طفليهما، كانت تُقابلها شيرين أيضًا، وبدأت في طلب الجهاز من الخارج منذ عام 2017، لكن مع توقف الطيران حصلت الأزمة، حينها قررت شيرين برفقة الأهالي المُتابعين لمجموعة الدعم المشرفة عليها التواصل مع فرع الشركة في مصر "ووقتها الشركة قالتلنا إننا بنسعى لفتح سوق للجهاز في مصر، بس مش عارفين هيوفروه امتى بالظبط"، وقتها قررت مجموعة الدعم بتوجيه النداء إلى وزارة الصحة، عبر الهاشتاجات أيضًا "عشان خاطر يسهّلوا دخوله".
مجهود كل تلك المجموعات تكلّل بالنجاح حينما تداول الجهاز في السوق المصرية، ففي يناير الماضي بدأ توفّره بالفعل، لكن لم تتوقف جهود أمهات السكريين عند ذلك الحد؛ بل يرغبْن في ألا يُعاني طفل مصري واحد مصاب بمرض السكري من النوع الأول، حيث يُعاني في مصر حوالي 1.1 مليون طفل ومراهق تحت سن العشرين، "الناس فاهمة مرض السكر غلط، فاكرين إنها مُجرد إبرة بتتاخد وخلاص"، تذكر سمر والدة هادي دامعة العينين، فيما يتردد في ذهنها صوت صغيرها وهو يقول لها "ماما.. هي الجنة مفيهاش شكشكة ولا حقن؟".
على مدار ست سنوات عانت سمر كثيرًا، وكذلك ابنها هادي، الذي يبلغ من العمر الآن ثماني أعوام "دلوقتي ابني مش قادر يمسك القلم، بيقولي مش قادر صوابعي بتنغزني، ويدوبك يمسك القلم لمدة ربع ساعة"، لذا تتجه الأم نحو تعليمه على الإنترنت، وطيلة سنوات لم تتمكن سمر من تحمّل تكلفة الجهاز المُثقلة على الكثير من الأسر المصرية، لكنها مؤخرًا استطاعت توفيره.
ولأجل جميع الأمهات انطلقت الحملة الإلكترونية، في شهر فبراير الماضي، التي نادت بتوفير الجهاز في التأمين الصحي، كانت الحملة مجهود تعاون بين مجموعتيْ دعم هما؛ "اكفل طفل سكري"، ومجموعة أخرى تُسمى "أطفالنا والسكر"، "عملنا الحملة دي عشان الجهاز بيرحم الطفل من 300 شكّة شهريًا لشكتين كل شهر"، تقول المُثَقّف السُكري شيماء العدوي، المشرفة بـ"أطفالنا والسكر"، والتي تحوي على 35 ألف عضو من داخل وخارج مصر
بدأت شيماء في تأسيس مجموعة الدعم عام 2017، وتدريجيًا زادت أعداد أهالي الأطفال من مرضى السكر، ولكن ما يُميّز مجموعة الدعم تلك أن هناك حلقة تواصل بينها وبين وزارة الصحة مُباشرة، ففي 2019 تمكنّت أحد أعضاء المجموعة من التواصل مع وزيرة الصحة، دكتورة هالة زايد، واهتمّت بالشكوى المُقدّمة حينها، تذكر شيماء، ومنذ ذلك الوقت صار هناك تواصل مباشر بين شيماء ووزارة الصحة "وبالفعل قدّمنا مطالب واتحققت، منها إدخال أنواع باهظة الثمن من الأنسولين، ودخل هيئة التأمين الصحي بأجور رمزية، وفيه منها بيتم صرفه بشكل مجاني"، كما تذكر شيماء أن هيئة التأمين التزمت بالتوصيات العالمية في عدد مرات قياس نسبة السكر في الدم "وبقوا بيوفروا أربع علب شرايط قياس شهريًا".
لذا حين انطلقت الحملة الإلكترونية الخاصة بجهاز "freestyle libre" في شهر مارس، تم التواصل بعدها مع وزارة الصحّة أيضًا، وتذكر شيماء أنه تم تحديد موعد مع الدكتور محمد ضاحي، رئيس هيئة التأمين الصحي "اتبلّغت بيه من مكتب وزيرة الصحة"، واستمع رئيس الهيئة جيدًا لمطلب الحملة الإلكترونية "وقبل ما أوصل البيت اتصل بيا مكتب الوزيرة إنه تمت الاستجابة بالفعل"، لم تسعْ الفرحة شيماء من قبول مطلب توفير جهاز القياس بدون وخز في التأمين الصحي، حيث يوجد حوالي 40 ألف طفل سكري داخل منظومة التأمين-بحسب شيماء "ده إنجاز إنه يتم قبول مطلبنا وفي خلال شهر من وجود الجهاز في السوق"، ولا تعلم متى سيتم توفير الجهاز داخل التأمين تحديدًا، ترى أنه من المؤكد استغراقه بعض الوقت لتوفير تلك الكمية.
انفرجت أسارير سمر حين علمت بالخبر، فهي واحدة من أعضاء مجموعة الدعم التي تُشرف عليها شيماء، كما أنها تعمل كمُثقف سكري أيضًا، "ده حلم بالنسبالنا".. تقصد أهالي السُكريين، تقول ذلك وهي تعدو وراء ابنها هادي راجية إياه أن يأكل شيئًا، فلم يدخل بطنه أي طعام منذ الصباح، فقد تكوّنت علاقة شرطية بين الأكل و"شكّة" الإنسولين "هادي ممكن يقعد يوم مياكلش عشان خايف من الإبرة".
لا تنتهي مطالب أهالي السُكريين عند ذلك الجهاز فقط، فلا حدود للمعاناة اليومية مع أطفالهم، فأثر الوخز لا يقتصر على جهاز قياس السكر فقط، حيث يحتاج مريض السكري من النوع الأول إلى إمداد جسمه بالإنسولين، ويحدث ذلك عبر مضخة تصل جسمه عبر الأسلاك "ومن كتر الحَقن، ابني جسمه بقى طبقات زي السفنج مهما تِحقني فيها مش بيوصل"، تقول سمر، لذا فإن أكثر المطالب الأساسية لأهالي السُكريين هي مضخة بدون أسلاك، يستطيع الأهل التحكم بها عبر جهاز "ودي مش موجودة في التأمين الصحي".
يوميًا تعيش سمر ومي وشيماء وداليا مُعاناة مع أطفالهن، لا يتمنين سوى "ولادنا يرتاحوا وينعموا بالخدمات الطبية الحديثة الموجودة في العالم كله".
فيديو قد يعجبك: