"صدمة" في مساكن المشروع الأمريكي.. هل حُرقت جثة موظفة حلوان بسبب "كورونا"؟
كتب- محمود عبدالرحمن:
غلاف- مايكل عادل:
على صوت خَبط متكرر ومتصاعد على باب الشقة، استيقظ طه عبدالحميد، فجر الثلاثاء الماضي، يُخبره الطارق "إحنا مباحث القسم، افتح"، ردًا على استفساره عن هويتهم، يسأله أحدهم عن الشقة المجاورة "تعرف إيه عن سكان الشقة اللي جنبك دي؟"، يقول الرجل ما يعرفه، يسأله آخر عن "منى" تحديدًا التي توفيت ودفنت الأسبوع الماضي، ويرد على السؤال وأسئلة أخرى تتعلق بالمتوفاة وشقيقيها وعلاقتها بجيرانها وفقًا لما يعرفه، لكنه لم يعرف سبب بحث الشرطة عن جارته التي توفيت بعد أيام من إصابتها بـ"كورونا".
ظُهر الاثنين الأخير من شهر مارس الماضي، أعلن عبر مكبرات الصوت بمسجد "فرحان الخالد" بالمجاورة 10 بالمشروع الأمريكي بحلوان، وفاة "مني جاد"، الموظفة بمستشفى حلوان العام، والعزاء مقتصر على تشييع الجنازة بالمقابر.
"معرفتش إنها مصابة "كورونا" غير يوم وفاتها"، يقول عصام العزازي مؤذن المسجد، الذي يقع على بعد أمتار من منزل الضحية، عندما جاء شقيقها إلى المسجد، للإعلان عن وفاتها، طالبًا منه أن يتضمن النداء تعريف شقيقته بالـ"التي تعمل بمستشفى حلوان علشان الناس متعرفهاش غير بكدا"، وعرضت عليه توفير الكفن والمغسلة والنعش؛ ليخبره شقيقها بتجهيز جثمانها للدفن بالمستشفى، لوفاتها بسبب إصابتها بفيروس "كورونا".
ما سمعته زوجة طه عبدالحميد عبر مكبرات الصوت، أخبرت به زوجها تليفونيًا، "اعمل حسابك تكون موجود في الدفنة والعزاء مع أخوها"، يحكي طه الذي رافق شقيقها في انتهاء إجراءات الدفن وتلقي العزاء، المرحومة كان ليها خدمات لناس كتير من أهالي المنطقة: "أي حد كان يحتاج حاجة من المستشفى كانت بتخلصها"، وهى وإخواتها كانوا في حالهم واحتكاكهم بالناس كان في أضيق الحدود، استلم شقيقها الأصغر وليد جثمانها من المستشفى وتحرك به إلى مقابر عزبة الباجور.
عقب انتهاء الدفن وتلقي العزاء، عاد طه عبدالحميد برفقة وليد إلى المنطقة، وأحضر شقيقها 10 كراسٍ، أمام مدخل 22 بالبلوك المكون من 5 طوابق؛ لاستقبال من يأتي لمواساتهم، لعدم تمكنه من حضور تشييع الجثمان، ولم يتجاوز عدد من جاءوا 10 أشخاص، بسبب إعلان شقيقها أن العزاء قاصر على تشييع الجنازة بالمقابر، كما يروي طه، الذي يرى أن معرفة الناس بوفاتها بـ"كورونا" كان سببًا آخر في عزوف أهالي المنطقة عن العزاء.
التحريات الأمنية ببلوك 6 الذي كانت تقيم فيه "منى" بمجاورة 10 بالمشروع الأمريكي بحلوان، كان سببها تسلل مجهولين إلى مقابر عزبة الباجور في عتمة ليلة الثلاثاء الماضي، واستخرجوا جثمان السيدة الأربعينية التي توفيت بسبب إصابتها بـ"كورونا" ودفنت قبل 7 أيام، وأشعلوا النيران فيها، بحسب ما نشر على لسان مصادر أمنية في وسائل الإعلام يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين، وبينما عرف جار أسرة المتوفاة، طه عبدالحميد ظهر يوم الثلاثاء الذي حدث فيه الجريمة من أهالي المنطقة.
وانحصر الكشف عن الجريمة في روايتين؛ الأولى بلاغ أهالي المتوفاة الذين اكتشفوا الجريمة أثناء زيارة قبرها، والأخرى أن خفير المقابر أبلغ الشرطة بعد اكتشافها صباح اليوم التالي للواقعة، ولم تنفِ أو تؤكد أيًا منهما الأجهزة الأمنية بقسم شرطة حلوان أو مديرية الأمن.
مقابر عزبة الباجور أو كما ينطقها قاطنو البنايات المجاورة "مقابر عزبة الوابور"، تكتسب شهرة قديمة باعتبارها وكرًا للبلطجة والخارجين على القانون، وحدث جرائم قبل سنوات، حيث تكرر العثور على جثة شخص مقتول، وفقا لرواية أحد أهالي المنطقة: "كنا نسمع حد غز حد بمطواة وقتله قبل كده، لكن في عام 2014، شنت الشرطة حملات أمنية متكررة، كانت سببًا في تطهير المقابر ومحيطها من الخارجين على القانون، وشهدت المقابر التي تحاصرها بنايات سكنية من ثلاث جهات خلال يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين حملة أمنية لكشف تفاصيل الجريمة.
"الخبر كان صدمة ومش مصدق اللي حصل"، يقول طه عبدالحميد، جار الضحية، منذ تسلمنا الشقق في بلوكات المشروع الأمريكي عام 1990، لم نسمع عن جريمة بهذا الشكل، ولا يوجد أي مبرر منطقي من الممكن أن يكون سببًا في ارتكاب جريمة وصفها بالبشعة، خاصة أن أسرة الضحية لم يكن لها مواقف عدائية مع أي شخص، وتتفق معه: "أم بسمة" صاحبة محل البقالة المتواجد أسفل العقار الذي تقيم فيه الأسرة، فعلى مدار السنوات الخمسة التي تواجدت فيها السيدة بالمنطقة، لم تسمع أحدًا يشتكي منهم: "كانت في حالها ومعاملتها محدش اشتكى منها".
ذهبت منى إلى المستشفى الذي تعمل به قبل وفاتها بأيام: "كانت تعبانة وطلعت كشفت والدكتور حولها لمستشفى الحميات، بحسب إحدى زميلاتها بمستشفى حلوان العام، كان تشخيص الأطباء، الاشتباه بإصابتها بـ"كورونا"، بعدها حاولت زميلتها الاتصال بها، لكنها لم ترد، وعرفت بعد ذلك بتدهور حالتها الصحية، لتفاجأ بخبر وفاتها، وعرفت زميلتها التي تعمل ممرضة بالمستشفى ما حدث بجثمانها عندما جاءت الشرطة بالمستشفى تسألنا عنها.
قبل عام، وتحديدًا في أبريل 2020، وفي ظل ذروة الموجة الأولى من انتشار وباء "كورونا"، تكرر اعتراض الأهالي على دفن 4 ضحايا ماتوا بسبب إصابتهم بـ"كورونا" في مقابر قراهم، ولم يتمكن ذوو الضحايا الذين تواجدوا في 4 محافظات مختلفة من دفنهم إلا بعد تدخل قوات الأمن.
"كانت منى تساعد أي حد من المنطقة يروح مستشفى حلوان"، يقول عصام مؤذن المسجد، متذكرًا عندما ذهب إلى مستشفى حلوان العام مع زوجة ابنه أثناء ولادتها لحفيده، أول ما عرفت لم تتركنا حتى خروجنا من المستشفى، وأنهت جميع الإجراءات بنفسها، رغم كونها المرة الأولى التي يحدث فيها تعامل بيننا، يتساءل الرجل بعد صمت لثوانٍ: "إيه الدافع اللي يخلي شخص يستخرج جثة بين يدي الخالق ويحرقها؟".
قبل 30 عامًا تسلم أحمد جاد والد الضحية منى شقته ببلوك 6 بالمشروع الأمريكي، أحد المشروعات السكنية التابعة لجهاز المشروعات المشتركة بوزارة الإسكان، والمكون من 10 مجاورات، كل مجاورة، تضم 5 بلوكات سكنية، وأقامت الأسرة المكونة آنذاك من 6 أفراد: (الأب، والأم، وولد، وثلاث بنات) في الشقة المتواجدة بالطابق الثالث، كما يروي جارهم طه عبدالحميد، فالأب القادم من إحدى محافظات الوجه البحري كان يعمل سائق ميكروباص، الأم ربة منزل، وكان أكبر أبنائهم وقتها لم يتجاوز عمره 15 عامًا.
وبعد سنوات فقدت الأسرة عائلها، حيث توفي الأب، وفقًا لرواية سامي شوقي الذي سكن بالمنطقة في نفس العام، بعد فترة تزوجت أخت منى الكبرى، وانتقلت للإقامة مع زوجها في شقة أخرى بحلوان، وعاشت الأم وأبناؤها الثلاثة: (منى وجيهان ووليد) في الشقة، توظفت منى بمستشفى حلوان، بينما شقيقها وليد عمل سائق تاكسي، وبعد عامين توفيت الأم، عاش بعدها الأشقاء الثلاثة معًا، ولم تتغير حياتهم أو أسلوب تعاملهم بعد رحيل الأب والأم، وفقًا لراوية سامي.
وتقول "أم بسمة" عن منى،" كنت بشوفها الصبح رايحة لشغلها وآخر اليوم راجعة"، ولم يتغير روتين حياتها يوميًا: "كانت تعدي وتسلم عليا، وتسألني لو محتاجة حاجة"، كان خبر وفاتها بسبب إصابتها بالفيروس صادمًا ومفاجئًا للسيدة؛ لتتحول هذه الصدمة إلى ما لا تستطيع التعبير عنه بعد معرفتها باستخراج جثمانها وحرقه: "مش عارفة أقول إيه ربنا ينتقم منهم اللي عملوا كدا؟".
"ربنا يصبر أهلها حالتهم صعبة من بعد الحادث"، تقول أم إبراهيم، التي تقيم في بلوك 5، وتتذكر السيدة ما دار بينهما قبل أسبوع من وفاتها، كانت تسألني: "عن التوابل والبهارات اللي هحتاجها لرمضان، فبجانب عملها بالمستشفى، كانت تشتري التوابل والبهارات جملة وتبيعها للأهالي في المنطقة، كما تحكي السيدة الخمسينية التي وصفتها بالـ:"البنت المجدع".
"من يوم الحادث مشوفتش إخواتها غير مرة واحدة كانوا خارجين"، تقول أم إبراهيم، التي استوقفت، الأربعاء الماضي، جيهان شقيقة منى؛ للتأكد منها من حقيقة ما سمعت، من فعل ذلك؟: "قالت معرفش لسه أي حاجة ومشيت"، وكانت حالتها صعبه، ومن بعدها لم تشاهدها مرة أخرى: "لا هي ولا أخوها وليد"، وتؤكد روايتها أم نسمة: "كان أخوها وليد بيركن التاكسي بتاعه كل يوم هنا، النهاردة لليوم الثالث مش موجود وباب الشقة مقفول ومحدش فيهم خرج ولا جه".
يدعو العديد من قاطني بلوك 6 الذي كانت تقيم فيه الضحية منى وأسرتها على مدار 30 عامًا لها بالرحمة والمغفرة، ويؤكد على طيبتها وحسن معاملتها وسيرتها الحسنة، يتمنون الكشف عن الجاني ومعاقبته على جريمة، التي اعتبرها مركز الأزهر العالمي للفتوى: "امتهان جثة المتوفى بفيروس "كورونا" أمر محرم ومجرم مناف للدين والقانون والإنسانية والمروءة "، وما زالت مباحث قسم شرطة حلوان تجري تحرياتها بثلاثة أماكن: (المقابر ومستشفى حلوان والمشروع الأمريكي)؛ لكشف ملابسات الجريمة، التي استعجلتها أمس الخميس النيابة العامة.
فيديو قد يعجبك: