جار القصف الإسرائيلي على بنايات غزة: نعيش الموت مرات
كتب- محمد زكريا:
كان صباحا عاديا. أن تسمع صوت انفجارات من حولك، وترى ألسنة اللهب تتصاعد دخانا، ليس إلا المعتاد في أوقات العدوان الإسرائيلي على غزة. بنافذة تطل على الشارع، وقفت عندليب عدوان تحضر القهوة، في حوالي الـ8 صباحا، بانتظار أن يبدأ اجتماعها بالعمل، عبر "زووم"، قبل أن تلمح أطفالا ونساءً يركضون بالشارع في هلع، خارجين للتو من البرج المقابل لبنايتها، واسمه "الأندلس"، حاملين أمتعة وبعضا من الصراخ والبكاء والدموع، لتسأل السيدة جيرانها عن السبب وعيناها تُبطن الإجابة أو تحاول، كأنها لا تريد أن تصدق ما هي على موعد معه في مشهد كهذا تحفظه جيدا. كان الجار على موعد مع قصف إسرائيلي.
فهم أبعاد وتعقيدات حاضر صاحبة الـ55 عاما يستلزم عودة إلى الوراء، إلى لحظة مفصلية في تاريخ أسرتها، إلى النكبة، إلى العام 1948.
قبل نكبة 1948، كان والد عندليب عمدة قرية بربرة، ويملك من شدة ثرائه مئات الدونمات من أرض القرية وما حولها في أسدود والفالوجة، ولا تزال تملك العائلة إلى الآن الأوراق الثبوتية لهذا الحق، قبل أن تحكم ميليشيات صهيونية مسلحة قبضتها على معظم أراضي فلسطين، وتُخرج مئات الآلاف من الفلسطينيين من مساكنهم وأراضيهم. هاجر والدا عندليب إلى مخيم رفح للاجئين، وولداها هناك، ولها 9 أخوة و3 أخوات، يتشتتون الآن بين أرجاء الأرض، من أستراليا إلى كندا وما بينهما، فيما مات العمدة فقيرا في مخيم اللاجئين دون أن يتمكن أولاده الكبار من حضور جنازته، حتى إن عندليب لم تر أخاها الأكبر الموجود في الدوحة منذ 35 عاما، ولا تعرف السيدة أحفاد أخواتها، ولا يعرف أولادها أقرباءهم، حيث تزوجت في المخيم، أيام الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987، وأنجبت أولادها الثلاثة الكبار هناك في ظروف شديدة الصعوبة، من القتل والاعتقال ومنع التجوال وصعوبة التنقل، قبل أن تنتقل إلى قطاع غزة مع زوجها في العام 1992 وتنجب ابنها الأصغر أحمد، ولا تزال تتواجد بالقطاع إلى الآن.
كانت لحظة مرعبة، تلك التي تيقنت فيها السيدة من حلول القصف الإسرائيلي لـ"برج الأندلس". هرولت إلى غرفة نوم زوجة ابنها الحامل في شهرها التاسع وطفلها ذي الـ3 سنوات. فزّعت نومهما، فيما كانت تتحسب الأسرة للحظة إخلاء كهذه منذ بدء العدوان الأخير، كانت تُحضر حقيبتين تجمعان بعض الأغراض الشخصية والأوراق الرسمية الثبوتية وجوازات السفر، بينما أبى زوجها الانصياع لقهر المحتل وخوفهم الشديد على حياته. رفض إخلاء المنزل، بينما لم يكن هناك وقت لإقناعه بالعدول عن قراره. جرت السيدة ومعها حفيدها وأمه الحامل إلى الشارع. استقلوا سيارة أجرة إلى منزل أهل زوجة الابن، ويبعد حوالي 4 كم عن موقع الخطر المنتظر، لتشعر الحامل بالأمان قبل الولادة التي اقتربت، بينما ظلت عندليب قلقة على زوجها، الذي انصاع في اليوم التالي لنصيحتهم ولحقهم إلى نفس المنزل، بينما حكى لهم عما عايشه في ساعات الليل وحده، حيث استهدف صاروخ إسرائيلي الأدوار الأخيرة لـ"برج الأندلس"، محدثا انفجارا شديدا وغبارا كثيفا، لكن لحسن الحظ لم يكن تضرر منزلهم قبل أن تداهم الطائرات الحربية الإسرائيلية البرج بصواريخ أخرى. تابعت الأسرة آثارها على "البرج" من خلال التلفاز، في الوقت الذي لا تعرف مصير بيتها وبيت ابنها وزوجته في الأعلى، مصير الورد الذي زرعته في النافذة قبل العيد وحرصت على رعايته، شعور تقول عندليب إنه أصعب من أن تصفه، ربما حاولت.. استمع إلى كلماتها من المحتوى الصوتي التالي:
لم تكن تلك المرة الأولى التي يستهدف فيها الاحتلال "برج الأندلس"، بل فعل بالهجوم على قطاع غزة (ديسمبر 2008 - يناير 2009)، حيث ألحق القصف دمارا واسعا في المنطقة بالكامل. انهار المبنى الملاصق لـ"البرج"، لحقت التشققات بمنزل عندليب، فيما هجر الزجاج والأبواب مكانهما للأبد، بينما كانت الأسرة في القاهرة لا بغزة لظروف عمل عائلها، وكان هذا داعيا لقلقها أكثر من اللازم: "كان صعب علينا إن دارنا صارت مفتوحة، ومش قادرين نسكرها ونحميها، كانت أوضاع مدمرة نفسيا علينا واحنا بعيد عن غزة".
عندما اشتعلت الحرب الإسرائيلية على غزة في العام 2014، كانت الأسرة في القطاع وبنفس البناية التي عاصرت الدمار أكثر من مرة. وقتها كان الابن الأصغر لعندليب واسمه أحمد في عمر 15 عاما، وكان أكثر المتضررين من بين الأسرة من القصف الإسرائيلي على بنايات القطاع المحاصر. أصابه الخوف والهلع وأصر على ألا ينام في المنزل ولو ليوم واحد. وجد أمانه في مكتب التلفزيون الياباني بالقطاع، حيث يعمل أخوه الأكبر مراسلا من الميدان لصالحه. اعتقد الصغير أن كونه تلفزيونا أجنبيا يحميه من البغي الإسرائيلي، ورغم استهداف الصواريخ الإسرائيلية لبناية مقابلة له وأرض تلاصقه، لم يغير الصغير نظرته وقراره هذا. قضى مدة الحرب بالكامل في المكتب، حتى إن ساعات الهدنة التي سمح فيها الإسرائيليون لأهل القطاع بالتزود بالغذاء لم تكن شفيعة لعودته للمنزل ولو لساعات، كان أخوه الأكبر يعود إلى أسرته ليطمئن عليها ويطمئنها عليه، بينما ظل أحمد ملاصقا لمكتب التلفزيون الياباني طوال الـ52 يوما. تصف عندليب تلك الأيام بالقاسية، تخيل ألا ترى ولدك الأصغر لمدة بطول هذه، أن يسيطر عليك الخوف على أولادك طوال ساعتها، فيما لم يتخلص أحمد من آثار تلك الحرب حتى بعد انتهائها. أصر من شدة ما أصابه من هلع ألا يعيش بعدها في غزة، لتضطر الأسرة الرضوخ لهواجسه وتوافق على سفره للخارج. الشاب لا يزال يدرس بأمريكا إلى الآن.
لكن إن كانت السيدة التي تدير مؤسسة أهلية بغزة اسمها "مركز الإعلام المجتمعي" تصف حرب العام 2014 بالقاسية، فإنها تقول إن عدوان العام 2021: "كل يوم فيه يعادل الـ52 يوما كاملة لحرب الـ2014".
لا نوم في الليل، ليس لأن النهار يخلو من القصف، ولكن لأنه في الليل مكثف بشكل "مرعب"، وكأن إسرائيل أرادت به "تعظيم الخوف وسواد الهلع". ويكون بديله لدى الأسرة الإغماء من شدة التعب. والذي ينهيه "زلزال القصف المتواصل" و"أصوات الانفجارات" و"رائحة البارود والدخان"، وبكاء حفيدها الذي تقول إنه صار يحفظ تفاصيل الحرب ومصطلحاتها: "هذا الصاروخ. هذه الطيارة. ليش ما يحبونا؟ ليش يقصفونا؟ ليش بنموت؟"، بينما زاد من حدة الأزمة حمل أمه في الشهر التاسع: "كنا نرجو الله في كل دقيقة ميجيهاش المخاض في تلك الظروف الصعبة، وإن كان يجي في النهار عشان نعرف نتحرك". وعقّدها عدم وجود ابنها إلى جانبها وجانب زوجته وابنه، بسبب التزامه بالتواجد في مكتب التلفزيون الياباني بغزة، وخوفها عليه من استهداف إسرائيل للمكاتب الإعلامية. وكان يكفي لتوترها أنها لم تره منذ بدأ العدوان، وحتى فرض الهدنة المؤقتة.
لا تثق عندليب في قدرة الهدنة على ردع إسرائيل، تقول إن الإسرائيليين لا يحفظون عهدا ولا ميثاقا، لا شرفا ولا وعدا، وإلا بماذا أتت اتفاقية أوسلو؟ تسأل مستنكرة، والأخيرة وعدت بدولة فلسطينية بعد 5 سنوات، ومرّ 28 عاما "لم ير فيهم الفلسطينيون إلا القتل والتطهير العرقي والفرقة والانقسام الذي أخمد روايتنا وأطفأ وهجها في كل العالم وأضعفنا كفلسطينيين". غزة في "الحرب الأخيرة"، وبحسب روايتها "عادت 100 سنة إلى الوراء، ما رجعت 50 سنة كيفما قال نتنياهو. البيت اللي متدمرش عمره قصر من شدة الانفجارات، تخلخلت أساسات البيوت، وتخلخلت أرواحنا. اللي صاير دمار شامل، إيش تعمل الهدنة للدمار الشامل؟".
لكنها من أنصار المقاومة، وفي نظرها، هي تلك التي تكون في إطار "رؤية وطنية استراتيجية متفق عليها من جميع الأطراف، أولهم الشعب الفلسطيني".
تابع باقي موضوعات الملف:
فلسطيني يروي دقائق الرعب والفزع في قصف إسرائيل لبنايته بغزة
بين نارين.. كيف تعيش مصورة فلسطينية في غزة وسط القصف الإسرائيلي؟ (صور)
قصف الاحتلال منزلها بعد 4 أشهر من الزواج.. رسالة سيدة من غزة إلى العالم
فلسطينية تروي ذكرياتها مع بناية قصفتها إسرائيل: انخلع قلبي لكنه لا يزال ينبض
فلسطيني عن قصف إسرائيل لمحل عمله بغزة: ما عاد لي بيت في وطني
فيديو قد يعجبك: