هل أراك؟ (12).. مارد الانتفاضة
كتبت-إشراق أحمد:
لا يحتاج الأمر لإشارة أو دافع. كل شيء يمر عليه ابن فلسطين يذكره أنه غريب في وطنه، لكنه يقاوم. لا حاجة ليوم أو ميعاد ليثور على الاحتلال، بقاؤه حتى الساعة انتفاض. ينتفض كل لحظة له داخل بيته، كل وقت يتواجد في قريته، وكل عبور له في شوارع مدينته، فعلى أرض فلسطين، الانتفاضة لا تعرف الخمود.
صباح كل يوم، يخرج سامي صادق من منزله، يتوقف بكرسيه المتحرك أسفل شجرة الخروب، تحت ظلها يجتمع الرجل الستيني وأفراد مجلس قرية العقبة في الضفة الغربية، يتشاورون عن أحوال السكان الصامدين وما يعزز بقاءهم. منذ التسعينيات ولا يخلف صادق ميعاده عند الشجرة، فذلك المكان المتاح اتخاذه مقرًا رسميًا للمجلس القروي دون أن يهدمه الاحتلال الإسرائيلي. تلك وسيلة صادق في الانتفاض، وكذلك حال أكثر من 5 مليون فلسطينيًا يرابطون يوميًا للبقاء في دولتهم المحتلة.
لم يهدأ الفلسطيني ويستسلم للواقع المفروض، يتصدى منذ أبصر وجود مكيده على أرضه قبل النكبة 1948، ما كان كما روج الاحتلال وأتباعه بأنه باع الأرض وتركها. انتفض الفلسطيني في وقت غابت عنه الكاميرات، وحينما صارت العدسات في كل يد، لم يتوان عن الصراخ والمواجهة ولو بكلمة، وكلما كثرت الظنون بغيابه، خرج كالمارد من قلب الضباب، ينتفض حتى يُجبر الجميع على الالتفات.
كلما تجبرت إسرائيل تشبث الفلسطينيون بالأرض وموضع أقدامهم فيها. 3 مارس 1976 فاض الكيل بفلسطيني الداخل المحتل أو ما يعرف بـ"منطقة المثلث". خرج المارد كالسيل في تظاهرات فاجأت إسرائيل التي ظنت أنها فرضت سيطرتها، صرخت الجموع في وجه الرصاص رافضين مصادرة أراضيهم لبناء المستوطنات، وسُمع دوي الهتاف في أرجاء فلسطين، حتى أن مخيم بلاطة –أكبر مخيم في الضفة الغربية- خرج عن بكرة أبيه تضامنًا مع الجليل والنقب.
كان انتفاض قبل "انتفاضة الحجارة" التي عرفها التاريخ في 1987، للمرة الأولى منذ النكبة يلتحم أهل فلسطين، القاصي والداني فيها، سقط الشهداء ووقعت إصابات عدة، ولم يتراجع المارد، انتزع مكسبًا من عدوه؛ وصلت حينها قوائم منظمة التحرير الفلسطيني إلى المجالس البلدية في قرى الضفة الغربية، وتشكلت بعدها لجنة التوجيه الوطني لتضم متطوعين لمقاومة الاحتلال بكافة السبل.
لم يكن صادق سوى فتى في السادسة عشر من عمره، حين اخترق جسده ثلاثة رصاصات من سلاح المحتل الرابض في معسكر مقام على أرض قريته "العقبة". لنحو 50 عامًا أقعدت الإصابة صادق على كرسي متحرك، ومازالت إحدى الرصاصات تستقر بالقرب من القلب، لكن فلسطين لصادق هي أقرب إلى فؤاده من أي ضُر يمسه، من حينها قطع على نفسه عهدًا أن يحرر أرضه بطريقته، وقد كان.
استمر أهالي العقبة البالغ تعدادهم نحو 300 شخصًا مرابطين في بيوتهم البسيطة، تقام 3 معسكرات إسرائيلية من حولهم، تتشكل المناورات، يسقط 50 فلسطينيًا ما بين مصاب وشهيد، يرحل البعض خوفًا، ولا يهتز جفنًا لصادق ورفاق له، يشدون من أزر الباقين، ويعلون أصواتهم، ينتفضون بالحجارة في الأولى، ويواصلون الصمود في الثانية، حتى ينتزعوا شيئا من المراد.
12 مارس 2003، في خضم انتفاضة الأقصى، استطاع أهالي القرية المحتلة عام 1967 أن يزيلوا معسكر تدريبي من الثلاثة المقامة بقرار من المحكمة العليا للمحتل، ومن قلب قوانينهم، بعد خمس أعوام على رفع دعوى قضائية، خرج القرار بمنع أي دبابة أو سيارة أو جندي اسرائيلي من أن يطأ أرض العقبة.
بين القرى الفلسطينية في الضفة الغربية تُعرف العقبة -القريبة من حدود فلسطين مع لبنان- بالقرية المحررة منذ نحو 15 عامًا، ورغم أن 95% من المنازل مهددة بالإخلاء من قِبل الاحتلال، وأن القرار لم يمنع اقتحامها بين الحين والآخر، لكن ما ازداد الأهالي إلا صمودًا.
عام 2019 استطاع أهالي العقبة إزالة بؤرة استيطانية، وأقاموا مصنعًا صغيرًا ووحدة طبية، إلى جانب مكتبة وروضة للأطفال، فيما يخصص صادق، الذي يترأس المجلس القروي، نصف منزله كمدرسة لنحو 70 طالبًا.
في الانتفاضة الأولى حتى مطلع التسعينيات خرجت كلمات من المقاومة لم يتوقف الفلسطينيون عن ترديدها معنًا ولفظًا "8/12 أشعلناها بإيدينا والعالم كله عم يتفرج علينا يا فلسطين لاجلك على الجمر مشينا والنصر قرب يا يُما وتعدينا"، وكذلك يجبر ابن فلسطين على أن ينصت العالم إليه في كل مرة يهب فيها.
حينما وُقعت معاهدة أوسلو 1993، ذهب الاعتقاد إلى أن الفلسطينيين هُزموا، وأن الاحتلال أمسك بتلابيب الأرض، لكن بُهتت الظنون؛ مع الألفية كان للمارد الفلسطيني "قومة" أخرى، تبعها مقاومة يومية لم تتوقف.
في كفر قدوم بالضفة الغربية المحتلة –شمال القدس- لا تكف المسيرات الأسبوعية المقاومة لتضييق الخناق على العائلات المتمسكة بـ24 ألف دونم. أقام الاحتلال نحو 5 تجمعات استيطانية على 4 آلاف منها، أغلقوا الطريق الوحيد المؤدي للقرية، منعوا العبور بسيارة أو السير على الأقدام، فعلوا كل شيء وما هدأ المارد؛ حتى الآن يخرج الأهالي من كل ركن بالقرية ضاربين بقرارات المحتل عرض الحائط معلنين "إنا ها هنا باقون".
وفي الأغوار الفلسطينية معركة أخرى –من بيسان شمالاً إلى النقب جنوبًا. يغلق الاحتلال نحو 60% من الأراضي، يمنع الفلسطينيين من زراعتها وحصاد غرسهم بزعم "التدريبات العسكرية"، لكن عدد من الأهالي ممن أجبروا على الخروج عادوا وسكنوا الخيام.
صار مشهدًا معتادًا؛ يزيل الاحتلال الخيام في الصباح، وقبل أن ينجلي النهار يعيد الفلسطينيون خيامهم من جديد ولو للمرة 184 كما يحدث في قرية العراقيب بصحراء النقب، جنوب فلسطين.
عرفت أجساد الفلسطينيين الرصاص المطاطي والحي والغاز المسيل للدموع والمدفعيات من قبل أن تُرى على الشاشات باسم الانتفاضة، ما بين عامي 2000 وحتى مطلع 2021 قتلت قوات الاحتلال نحو 9844 فلسطينيًا (غزة، الضفة الغربية، الأراضي المحتلة) وفق مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان "بتسليم".
كما أن الشيخ جراح –شرق القدس- ليس الحي الأول الذي يصدر بحق بيوت سكانه قرارات إخلاء بل وهدم. وفق مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان منذ عام 2006 وحتى الآن هناك 1.756 منزلاً هدمها الاحتلال بزعم عدم الحصول على ترخيص، و1.873 بحجة الحاجة الأمنية للأرض ما بين عامي 2004، 2018.
ولم يكن اقتحام المسجد الأقصى في رمضان المنصرف سابقة على القدس. عشرات الانتهاكات تحدث يوميًا ويقتحم المستوطنون ساحات الأقصى بشكل كبير منذ عام 2015، حتى أنه بلغ عدد عدد المقتحمين، العام الماضي، قرابة 18.526 مستوطنًا حسب دائرة الأوقاف الإسلامية.
حفظ الفلسطينيون ألاعيب الاحتلال، واعتقادهم الساري على مدار 73 عامًا. "استيقظ باكرًا تأخذ ما يحلو لك من الأرض". فما نامت أعين المقاومين، ينقل المارد خبرته في الانتفاض من قرية إلى أخرى في الضفة، ومن ركن إلى آخر في غزة، الخليل والقدس، وبئر السبع.
مثل "العرس" تكون مواجهة الجرافات الاسرائيلية المقبلة على الهدم في قرية نعلين، شمال غرب رام الله. يلبي الأهالي النداء الأسبوعي، يفدون كالمطر، يقيمون الصلاة ويؤدون القداس. كتف بكتف يتصدون لمحاولات الاستيطان، وداخل غزة تشهد مسيرات العودة لنحو العام على شعب لا تفارقه الحياة رغم كثرة موتاه.
أما بطرقات بيت لحم والناصرة، يقاوم مارد فلسطيني يعتنق المسيحية، يُشتم ويبصق على رمزه الديني، يُحرم من الوصول للقدس وتتبع مسار المسيح، توضع على أبوابه استمارة هجرة مختومة لا ينقصها سوى الاسم، يُزيف الإسرائيليون معتقده ببرامج سياحية يتقدمها مرشد يهودي يُحدث الزائرين الأجانب عن أماكن مختلفة عن المفترض أن يحجوا إليها،لكن؛ لا ييأس المارد، يبدأ من الصفر، يقيم بقوة فردية مكتب سياحي مواجه، يضع البرنامج الحقيقي، يتحدى السلطة المحتلة مقابل ألا يُسرق ويُزيف التاريخ المقدس ولا وجوده على الأرض.
يُمهل الفلسطيني الاحتلال فإن فاض به لا يُهمله، يتدحرج غضبه كصخور جبل يتزلزل. في الانتفاضة الأولى حطم المارد الفلسطيني إدعاء الاحتلال بأن على الأرض نموذج للتعايش الإسرائيلي الذي ظل يروج له بعد عام 1967 واحتلال الضفة الغربية والقدس، عقب عام من الانتفاض لم يستطع أحد ولا قيادة عربية تجاهل ما يحدث في فلسطين.
وفي انتفاضة الأقصى 2000، كسب المارد دعم العديد من الأصوات الأجنبية ممن جهلوا بالقضية بعدما خرجت الانتهاكات والقتل على مرأى ومسمع من العالم. أما في الثالثة المندلعة منذ الشهر المنصرف، فأطلق صرخته "مازلنا هنا"، عاد الفلسطيني لمكانه على ساحة الاهتمام الشعبي العربي بل والعالمي، رجع عقب سنوات غياب بررها انشغال العرب بما أصابهم. اليوم تخلى الكثير عن أولوياته وأصبحت فلسطين في المقدمة، لا حديث يسبق ما يحدث لأهلها. انتصر المارد على كسر العزلة قبل أن يواجه المحتل في معركته المستمرة.
قرر الفلسطينيون المتواجدون على أرضهم الآن ألا يعيشوا نكبة أخرى. يصمد أفراد 28 عائلة في الشيخ جراح بالقدس، و80 ألف مهدد بالتهجير في النقب، وتدفع غزة مرة أخرى ثمن مقاومتها ونصرتها لبقية شعبها بـعدوان إسرائيلي استمر 11 يومًا خلف 253 شهيدًا، و16.800 وحدات سكنية ومبنى أصابها القصف.
ماذا يفعل الحجر أمام دبابة ومسلحين؟.. لم يعرف المارد الفلسطيني ذات يوم طرحًا لهذا السؤال. يفعل الحجر في يده والكلمات في صوته أكثر مما يتخيله بشر، فيما يوقن قلبه أن الطريق طويل وشائك لكن الوصول حتمي.
المصادر:
*سلسلة الأفلام الوثائقية فلسطين تحت المجهر
*مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان (بتسليم)
*مركز المعلومات الوطني الفلسطيني (وفا)
* موقع الأوقاف الإسلامية
* لقاءات مع سامي صادق، رئيس المجلس القروي لقرية العقبة الفلسطينية
اقرأ أيضًا:
هل أراك؟| (1).. "حصّادين" الأرض المقدسة (بروفايل)
هل أراك؟| (2).. عيون قارة الفلسطينية (بروفايل)
هل أراك؟| (3).. زارعو الألغام في سوق حيفا (بروفايل)
هل أراك؟| (4).. يوم أن حملت مُعلمة فلسطينية السلاح (بروفايل)
هل أراك؟| (5).. الثلاثاء الأحمر في سجن عكا (بروفايل)
هل أراك؟| (6).. ليلة عيد في ديار فلسطين (بروفايل)
هل أراك؟| (7).. مَوطني (بروفايل)
هل أراك؟| (8).. رسالة بريطانية: ليس لإسرائيل صديق (بروفايل)
هل أراك؟| (9).. معركة الأرض (بروفايل)
فيديو قد يعجبك: