ظهرت في "القاهرة كابول".. حكايات "أم الحويطات" من زمن الحب لقرية مهجورة
كتبت-رنا الجميعي:
تصميم الغلاف- أحمد مولا:
داخل كهف بأحد الجبال يجلس رمزي (طارق لطفي) بين جماعته، يُحدّثهم في كونه الخليفة ويُبايعونه، عدا واحدًا يرفض البيعة فيُقتل، ذلك كان واحدًا من المشاهد بمسلسل "القاهرة كابول"، وقد تم تصوير مشاهد الجماعة الإرهابية- والمفترض أنها تعيش بأفغانستان- داخل كهف بأحد الجبال الموجودة في محافظة البحر الأحمر، وتحديدًا داخل قرية تُسمى "أم الحويطات".
إذا ابتعدت عن مدينة سفاجا بحوالي 23 كيلو جنوب غرب، ودخلت لعمق الصحراء بعدة كيلوات ستجد قرية خاوية على عروشها، ليس فيها سوى آثار لبيوت مُتهدّمة، ينتصفهم مسجدًا لازال باقيًا كما هو، وُمحاطة بالجبال من الجهات الأربع، رُبما تكون قرية "أم الحويطات " القديمة مجهولة لكثيرين، ومهجورة أيضًا، لكنها لازالت حيّة داخل قلوب سُكانها الذين اضطرهم الزمن لمُغادرتها،
في بدايات القرن العشرين تم إنشاء قرية أم الحويطات، أثناء الاحتلال الإنجليزي لمصر، ففيها تم اكتشاف كميات ضخمة من مادة الفوسفات، مما جعل القوات البريطانية تُنشأ مساكن للعمال والمهندسين حول المناجم الموجودة في المنطقة، وقد اشترط الإنجليز على العمال أن يسكنوا بمفردهم، دون عائلاتهم، لكن الوضع تغيّر مع الوقت، ومن ضمن الأسر التي جاءت بزوجاتهم كان مبارك، القادم بالأساس من محافظة قنا، يحكي ابنه محمد، المولود بالقرية عام 1965.
قبل سنوات من مولد محمد قدم الأب للعمل في مناجم الفوسفات، وقد كان بيته بسيطًا مثل باقي العُمال، "كانت بيوتنا من مادة الطفلة، ونجيب الحجارة نرصها فوق بعضها، ونعمل السقف من جريد النخل"، بينما اختلفت بيوت المُهندسين والملاحظين عنهم كما يقول مبارك "نص القرية مُنظم والنص التاني عشوائي".
كانت القرية كُلها تعمل في مناجم الفوسفات لتصديره، وأنشأت سكة حديد لنقل المادة الخام إلى ميناء سفاجا، لكن مع الوقت، وازدياد عدد العمال وأسرهم، أنشأت مدرسة إبتدائي عام 1925، وبعدها أنشأت مدرسة أخرى، ثم مدرستين؛ إعدادي وثانوي "في البداية كانوا المدرسين أغراب مش من البلد وبعدين احنا جينا"، يقول أحمد رضوان مُدرس العلوم بالقرية القديمة، وهو من مواليد عام 1961.
كانت تُواجه القرية مشكلات عديدة، واحدة من تلك الأزمات كانت عدم وجود المياه، فكان القطار المُخصص لنقل الفوسفات يأتي مُحملًا بخزان مياه حمولته 20 طن تتوزع بين الأهالي "كل واحد ياخد صفيحة مية".. يحكي مبارك، وكانت عربات الخضار تأتي قادمة من قنا، وإذا احتاج أحد للإسعاف عليه الذهاب إلى قنا أو الغردقة حيث المستشفى العام "حتى سفاجا لوقت قريب مكنش فيها مستشفى"، حيث تعتبر سفاجا حديثة التأسيس عن أم الحويطات، فقد أنشأت عام 1911، أي بعد إنشاء القرية بحوالي تسعة أعوام. كما أن الكهرباء لم تدخلها إلا في السبعينات، حينما وصل سن مبارك لعشر سنوات "كانت تنوّر من بعد المغرب لحد 12 بالليل".
ليست الأزمات ما يتذكره مبارك ورضوان الآن، بل يأخذهم الحنين للأيام الجميلة حيث الجيرة والعشرة الطيبة؛ "كنا عيلة واحدة"، فطبيعة المكان المُغلق على سكانه القادمين من محافظات مختلفة جعلتهم كبيت واحد، فكان الجيران يقومون على خدمة الأسرة التي يُسافر صاحبها، ولا خوف من السرقة فكانت الأبواب مفتوحة على اتساعها، وإذا حدث فرح أو عزاء لمتوفي؛ فالحزن واحد والفرح واحد "جارك هو كل حاجة بالنسبة ليك هو أهلك، هو كنزك في الدنيا".
منذ فترة قريبة خرج رضوان على المعاش، بعدما قضى سنين عُمره في التدريس، توالت ذكريات القرية القديمة عليه من بينها؛ حينما كان يلعب بالكرة مع زملائه في ساحة القرية، وتعب أحدهم فجاءت الإسعاف تصحبه إلى مستشفى الغردقة العام "والدي ركب معاه الإسعاف، بدون أي حاجة لا محفظة ولا فلوس، هو مفكرش، عمل اللي عليه لأن أبو زميلي مكنش موجود".
حتى الطعام فكان مُتشابهًا بين الناس؛ فقد كان لأثر القوانين المنظمة لعمل المحاجر في السبعينيات أكبر أثر، "كان فيه وجبة تبع الشركة، كانت الناس بتاخد 6 كيلو لحمة في الشهر"، ومعها مواد أساسية أخرى مثل الدقيق واللبن والجبن والبصل "فكانت الناس متبصش لبعضها وتطبخ ويبدلوا الأكل سوا".
تلك الأيام الحُلوة طُويت سريعًا؛ جاءت فترة التسعينيات لتُبدّل حال القرية تبديلًا، أُغلقت الشركة وخلّفت ورائها فراغًا كبيرًا "الشركة اتباعت واتصفّت"، وكان عام 1996 فارقًا بالنسبة لأهالي قرية أم الحويطات القديمة، ليس فقط بسبب إغلاق الشركة، بل لأن السيول اجتاحت القرية ودمّرت بيوتها.
كانت الأمطار جُزء أصيل من حياة سكان أم الحويطات "كانت بتيجي بكميات بسيطة" يقول رضوان، لكن في ذلك العام اختلف الأمر كثيرًا، كانت السيول حادث فارق في تاريخ القرية وأهلها. منذ بداية التسعينات ومع إغلاق المحاجر وتصفية الشركة انتقل السكان إلى قرية أم الحويطات الجديدة، والتي بُنيت في أوائل الثمانينيات بالمعونة الأمريكية، وكان سبب إنشائها بالأساس لتوطين البدو كما يقول مبارك "في الوقت ده فيه ناس راحت القرية الجديدة، وفيه مننا اللي استلم شققه هناك بس قفلها وفضل في القرية القديمة"، مثلما فعل مبارك ورضوان.
حينها كان مبارك يعمل بالوحدة القروية التابعة لمجلس مدينة سفاجا، واستمر رضوان في عمله كمدرس للعلوم، وذات عصر يوم عام 1996 وقع السيل بارتفاع وصل أربعة أمتار "الناس كلها طلعت الجبل"، ولمّا توقف المطر ونزل الناس "لقينا البيوت كأنه بسكوتة اتحطت في الشاي"، فاضطروا حينها قهرًا للمغادرة إلى القرية الجديدة التي تبعد عن القديمة بحوالي 17 كيلو في اتجاه البحر الأحمر.
كان رضوان آخر من ترك القرية؛ غادرها بعد ذلك بعامين، فبعض البيوت والمنشآت لم تُصب بأذى، ومن بينها المدرسة التي يعمل فيها رضوان "كنا آخر ناس تمشي احنا، آخر امتحانات كانت الملاحق في شهر سبعة 98".
صارت القرية فارغة من الحياة وأصوات الناس المُتداخلة، من صوت الأطفال وهم يلعبون الكرة، وآذان المسجد الحديث الذي بُني في مُنتصف الثمانينيات، لكن بعد ذلك بسنوات، وفي يوم من الأيام كان محمود الدندراوي برفقة شقيقه يتجولون بالقرية، مُتجهين نحو بيتهم الذي تركوه، فيما خُيّل إليهم بصوت أحدهم يرفع الآذان "أنا فاكر اللي حصل لحد دلوقت ولما قربت من الجامع ملقتش ولا بني آدم".
حدث ذلك في عام 2005، حينها كان الدندراوي يسعى في اتجاه حُلمه بتحويل القرية لمنطقة سفاري؛ وُلد الدندراوي بالقرية عام 1977، قضى فيها طفولته وصباه، وغادرها مع من غادروها أيضًا في التسعينيات، حيث عاش بعد ذلك في مدينة سفاجا، لكنه عاد إلى قريته القديمة بعدما نضج الحُلم في رأسه "من وأنا صغير كنت غاوي الجبل".
عام 2004 طلب الدندراوي من إدارة محافظة البحر الأحمر تخصيص القرية له كمزار سياحي "كنت عايز أستغل المكان بدل ما هو فاضي كدا"، لكن الدندراوي اصطدم بالروتين "كنت اللي بطلبه غريب عليهم ومكنش فيه قانون محدد للسفاري"، بمرور الوقت تمكّن الدندراوي من استخراج تصريح من المحافظة لعمل محطة سفاري على بعد 7 كيلو من أم الحويطات بالتنظيم مع الجهات الأمنية، ومقابل ذلك يدفع اشتراكات سنوية "بييجي السياح يقعدوا في الكامب ويزوروا البلد"، فيما سمّى الدندراوي مشروعه "ghost city" أي مدينة الأشباح، كما صوت الآذان الذي سمعه ينطلق فجأة.
ذكريات الدندراوي عن طفولته بالقرية لازالت تتراءى أمام عينيه "عمرنا كله كان فوق الجبال"، صغارًا كانوا يجمعون العقارب ويلهون بها ثم يضعونها في زجاجات، كذلك يتذكر نفحة الأخلاق الطيبة التي اتسم بها أهل القرية، فكان الصبي يذهب بالطعام لوالده الذي يعمل كفني ونش بالمناجم "وكانت هوايتي أركب في العربية وهما يزقوني".
نجح المشروع السياحي للدندراوي، أقبل العديد من السياح الأجانب على زيارة القرية، كذلك المصريين "الناس لما كانت تدخل القرية بتتوهم، وبتفضل تسأل ازاي كان فيه ناس عايشين في المكان ده في قلب الصحرا".
ولايزال حُلم الدندراوي في بدايته، رغم مرور سنوات على مشروعه السياحي، لكنه يرغب في التوسع فيه، وفي كل مرة يصطدم أيضًا بالروتين الحكومي"عملت شركة سياحة وكنت بتكلم عن المشروع ده برة مصر كتير ولقيت مستثمرين يقدروا يدفعوا بس كنا بنصطدم في القوانين"، يحلم بترميم القرية وإقامة متحف يُوثق تاريخها، حيث يمتلك ابن أم الحويطات العديد من المخطوطات منذ زمن الإدارة الإنجليزية للشركة "لما الناس مشيت فضل فيها أوراق كتير، وأنا كنت أروح أقلب وألاقي الدفاتر دي واحتفظ بيها"، فيما يرغب أيضًا في ترميم القرية والحفاظ عليها "الناس بتوع الخردة كانوا بييجوا وياخدوا من بيوت القرية اللي فضيت من أهلها".
الآن يسكن في أم الحويطات الجديدة أبناء وأحفاد سكان القرية القديمة، والتي كان يُقدّر عدد سكانها بحوالي 16 ألف نسمة، ورغم أن معيشتهم في الوقت الحالي أفضل بكثير مما كانت عليه سابقًا، إلا أن الأهالي يشعرون بحنين دائم لأم الحويطات القديمة، وفيهم من غرز ذلك الحنين داخل الأحفاد، "دايمًا لما تحصل مشكلة عندنا يتضرب المثل بالقرية القديمة ويقولوا الله يرحم أيام زمان" يقول الحفيد حسن صلاح، وهو من مواليد أم الحويطات الجديدة سنة 2000.
وقد زار الشاب القرية القديمة قبل ذلك، كان عمّه يصطحبه لرؤيتها على الطبيعة "وحكالي ايه اللي جرى هنا"، فيما يعلم الشاب أن تلك المحبّة للأيام القديمة ليست من فراغ "كل ما تيجي سيرة القرية عمي يحكي عن حاجتين، نظام التعليم الممتاز والطيبة في التعامل مع الجيران".
رُبما يمرّ عابرو طريق على أطلال القرية القديمة إذا ما توغلوا قليلًا في الصحراء، سيجدون بيوتًا خالية وصفير هواء يمرّ عبرها كأنما يقول: لا شيء هنا، ولكن الحقيقة غير ذلك؛ فلا تزال القرية ساكنة بقلوب أهلها، وذكرياتها تتراءى أمام أعينهم حيّة، ومنذ عدّة سنوات بدأ أهل القرية في زيارتها مُجددًا، "لما بكون تعبان نفسيًا ومتضايق، ناخد أكل أنا وزمايلي ونروح نقضي اليوم هناك" يقول مبارك الذي يشغل حاليًا منصب رئيس قرية أم الحويطات الجديدة، كما يصطحب أحيانًا أولاده وأحفاده يُذكّرهم بقريتهم، ويُشير لهم لمواقعها "هنا كان البيت وهنا المدرسة".
كذلك يفعل رضوان في شهر رمضان ، حيث ينتظر قدوم البدر في السماء "نزورها في نص رمضان على ضوء القمر، عشان مفيش كهربا"، فيذهب رضوان ومجموعة من أهل القرية فيصعد أحدهم للمأذنة حيث يرفع آذان المغرب "نصلي ونفطر سوا وننتظر للعشا نصلي التراويح ونروح بعد كدا".
لا يزال الدندراوي على حُلمه أيضًا، لا يرى القرية بعين هؤلاء العابرين، بل في أبهى صورة؛ مُرممة ومزار سياحي مفتوح للجميع "عايز اللي يدخلها يبقى مطمن".
فيديو قد يعجبك: