رحيل سيدة الفخار.. "مين اللي ميحبش ايفلين؟"
كتبت- رنا الجميعي:
في رحيلها كانت هادئة ووديعة كما كانت حياتها، عند حمام السباحة داخل منزلها المُطلّ على بحيرة قارون صعدت روح إيفلين بوريه لبارئها بمُنتهى الهدوء، لم تكن تُعاني من شيء قبلها، كأنها لم ترغب في أن يُقاسي أحد في حالة مرضها، وتوفيت إيفلين السويسرية عن عمر يُناهز الـ82، مُخلّفة ورائها مشروع عُمرها كله، مدرسة الخزف الموجودة بقرية تونس في محافظة الفيوم.
كانت روح إيفلين تميل للطبيعة، شبّت مُحبة للريف لا المدينة، وهو ما كانت عليه طيلة حياتها، ففي عمر الـ20 قدمت إيفلين إلى مصر في منتصف الستينات، غير أن ما اعتقدت أنها ستكون رحلة قصيرة المدى، اتضح أنه عمر بأكمله، فقد تزوجت من الشاعر سيد حجاب واستقرت في مصر، وذات يوم ذهبت إلى قرية تونس بالفيوم التي سُحرت بطبيعتها تمامًا.
وقد كان عام 1979 حاسمًا لدى إيفلين، ففيه استقرت السيدة السويسرية بقرية تونس وعاشت حياة أهلها البسيطة دون كهرباء ومياه. كانت خطتها: الله أكبر من ذلك، فمن يعرف أنها ستكون السبب الرئيسي في تحويل حياة أهل قرية تونس؟ فقد تحولوا من الفلاحة إلى صناعة الفخار.
درست إيفلين الفنون التطبيقية في جامعة جنيف، وعند مجيئها لمصر عملت لفترة في قرية الحرانية، الموجودة بمحافظة الجيزة، وقد اشتغلت بالتحديد لدى مركز المعماري رمسيس ويصا واصف، المتخصص في صناعة السجاد والكليم. اكتسبت إيفلين خبرة كبيرة هناك، فقد كان للمركز أسلوب تعليمي مميز، حيث يقوم بتعليم الأولاد الصغار حرفة صنع السجاد، وتركهم على فطرتهم البسيطة، وهو ما فعلته بعد ذلك إيفلين داخل قرية تونس، حين أسست مدرسة الفخار.
يدين أهل قرية تونس بالفضل لإيفلين، فحاليًا يوجد أكثر من 20 ورشة لصناعة الفخار داخل القرية، جميعهم كانوا أولادا صغارا علّمتهم إيفلين الحرفة، وكانت السيدة قريبة منهم جدًا، حتى إنهم يرونها أكثر مما يروا أهلهم. امتلك إيفلين صبر طويل، ظلت تعمل مع الصغار، رغم استغراب الأهل في البداية، لكنها بعد أربعين عاما من الاستقرار داخل القرية أصبحت تُدعى "أم أنجلو".
اتسمت روح إيفلين بالمحبة والبساطة. لم تكن يومًا مُتعجرفة أو مغرورة، حتى إنها لم تتحدث يومًا بفجاجة عن مشروعها الكبير، رغم ما غيرته في حياة أهل القرية، لكنها كانت ترى دومًا أن ذلك بفضل عملهم وحُبّهم للفخار. كبر الصغار وتحولوا إلى أصحاب ورش، لكل منهم شخصيته المُتفردة التي تراها من خلال أعماله، يبيعون ما تصنعه أياديهم ويعرضونها في معارض عالمية في فرنسا وسويسرا، كذلك عملت السيدات أيضًا كصانعات للفخار، وصرن أشبه بسيدات الأعمال، لديهن ثقة كبيرة بالنفس تُمكّنهن من المنافسة ورؤية العالم.
تدريجيًا تحولت قرية تونس بفضل إيفلين إلى مزار سياحي، فقد اتسعت شهرة السيدة السويسرية، حتى إن بعض الأساتذة في كليات السياحة كانوا يُشيرون إلى النموذج الناجح الذي قدمته في قرية تونس. صارت علامة مُسجلة، يسمع عنها الجميع، ويتطلع إلى مقابلتها، وفي عام 2011 أطلقت مهرجان قرية تونس للفخار والحرف اليدوية، لتصير قرية تونس وجهة عالمية يأتيها جنسيات مختلفة، مما أدى إلى قرار بعض الأجانب في الاستقرار بقرية تونس.
لم تترك إيفلين قرية تونس أبدًا، فعلى مدار 42 عامًا ظلت واحدة من أهلها، فأكرمها وأحبها الجميع، ولم تُرد شيئًا أكثر من تنمية مدرسة الخزف، والحصول على الجنسية المصرية التي لم تُعط لها حتى وفاتها، لكن رُبما يكمن العزاء في المحبّة البالغة التي رزقها إياها الله، والقلوب التي ودّعتها اليوم لتستقر بمدفن على تبّة عالية مُطلة على واحة، مكان يُشبه إيفلين وروحها الوديعة.
فيديو قد يعجبك: