إعلان

"العزبي وشركاه"| رحلة صعود وهبوط "سلاسل الصيدليات": احتكار وديون وإفلاس

12:09 م السبت 01 أكتوبر 2022

تصميم: مايكل عادل

- مارينا ميلاد:

في صيف عام 1975، وقف "أحمد" يتصبّب عرقًا وهو يعلق لافتة صيدليته الأولى في حي مصر الجديدة الراقي. نظر إليها ولم يصدق ما يراه.. أخيرًا، تحول ابن الـ27 من موظف في الصيدليات إلى مالك لصيدلية يعلوها اسم عائلته: "العزبي".

لم يكن أحمد العزبي وقتها يملك سوى شهادته وقدر كبير من الحماس والمهارة وبعض الأموال. وجد ذلك كافيًا ليبدأ هذا الطريق. نجح فيه بل توسع شيئا فشيئا وأسّس أول "سلسلة صيدليات" في مصر.

الآن، يصطف إلى جانبه عدد من الصيدليات الأخرى، كلها حلقة في سلسلة تضم عشرات الفروع بالمخالفة لقانون المهنة.. بات له خصوم شرسة منذ سنوات. انهار بعضهم وانتهى أمره، فيما استمر هو. لكنه، وجد نفسه مؤخرا في عين عاصفة جديدة، كشفت عن قضايا ومديونيات بمئات الملايين.. باب فتح الحديث مجددًا عن أزمات "سلاسل الصيدليات"، والتي سارت جنبا إلى جنب مع رحلة "العزبي".

صورة 1

وراء اسم "العزبي" المتصدر واجهات الصيدليات بلونها الأزرق الزاهي، قصة لرجل بسيط أتى من قرية صغيرة بمحافظة الدقهلية ليصبح فيما بعد "إمبراطورًا" في سوق الصيدليات.

ينتمي "أحمد" لأسرة متوسطة الحال، والده كان مدرسًا وباع ما لديه ليعلمه. بدأ من القرية ثم حصل على شهادته الثانوية في بورسعيد، حتى انتقل إلى القاهرة مع مرحلة الجامعة.

وفي وقت تترقب مصر حربًا مع إسرائيل عام 1967، كان "أحمد" يحلم بأن يكون طيارًا بالجيش المصري. تحرك نحو ذلك، وتقدم بأوراقه، لكن ضعف نظره حال دون نجاح الأمر. فاتجه صوب كلية الصيدلة.

ولما تخرج "أحمد"، وجد فرصته في صيدلية بالفيوم. لم يكن الأمر لديه مجرد عمل فحسب، إنما سعى ليجعل من هذه الصيدلية الصغيرة نسخة أكثر نجاحا وشهرة. لكنه تركها بعد 7 أشهر نحو فرصة أفضل في ليبيا.

تَجاوز "أحمد" الصحراء الغربية ومعها كل الصعوبات التي واجهته. قرر ألا يتزوج إلا بعد أن يصل لما يريد. يقول إنه "نجح في أن يجعل الصيدلية التي عمل بها في ليبيا من أكبر صيدليات طرابلس، لتتحول علاقته مع صاحبها إلى شريك في الأرباح".

كان ذلك أولى ملامح سياسة "العزبي" التي ستظهر بقوة فيما بعد.

صورة -  7

تجربة ليبيا التي استمرت قرابة الأربع سنوات؛ جعلت "أحمد" يعود لمصر أكثر ثقة وصلابة ويفتح أولى صيدلياته.

في تلك الأثناء، لم تكن مصر عرفت فكرة "سلاسل الصيدليات" بعد. بدأها "العزبي" بواحدة تلو الأخرى. فتحها أمام الناس 24 ساعة رغم أن الخدمة الليلية كانت تخسره – كما يحكي – لأن نسب البيع ضعيفة مقابل تكلفة التشغيل والرواتب.

لم يكتف بذلك. فوصل بمنتجاته إلى المنازل في خدمة أخرى كانت جديدة بالنسبة للدواء.. ويقول في مقابلة تليفزيونية له، "أخذت المهنة كخدمة.. حين يأتي أي شخص يجب أن يجد صيدلية مفتوحة، دواء متوفرا، وصيدليًا يدرك جيدًا ما يحتاجه".

ولخدمة مشروعه الكبير، أسس "العزبي" شركة "مالتي فارما" للصناعات الدوائية عام 1990، والتي تعمل وكيلاً لعدة شركات أجنبية لتسويق الدواء في مصر.

صورة 3

سنوات تالية، انتشرت فيها تدريجيا سلاسل الصيدليات على نهج "العزبي"، الذي وصل عدد صيدلياته– حسب موقعها الرسمي – إلى نحو 90 فرعًا.

خَالف ذلك قانون مهنتهم العائد لسنة 1955، والذي ينص على "أنه لا يجوز لصيدلي أن يكون مالكًا أو شريكًا لأكثر من صيدليتين"؛ لذا، كثرت مطالبات وأحاديث مسؤولي نقابة الصيادلة والصيادلة الصغار حول التصدي لهذه الظاهرة الجديدة.

ربما صار الأمر ملفتًا في ديسمبر عام 2005.. عندما تحدث محمود عبد المقصود، أمين عام نقابة الصيادلة حينها، بأن هناك تغيرات ستطرأ على قانون مزاولة المهنة للحد من تلك المسألة، وإتاحة الفرصة أمام الصيادلة الجدد لتملك صيدليات.

وبعد أقل من عام من حديثه، قررت النقابة عدم السماح بوجود هذه السلاسل.. ثم مر عامان أخران، وأعاد سيف الله إمام، الأمين العام المساعد لنقابة الصيادلة آنذاك، الإعلان عن إبلاغ النقابة كلا من وزارة الصحة ولجنة الصحة بمجلس الشعب بقرارها بحظر ترخيصها للقضاء على مظاهر الاحتكار ومخالفتها كمنح تخفيضات بنسب غير قانونية أو الاتجار بالأدوية المهربة.

شادي ماهر، هو واحد من 250 ألف صيدلي في مصر (وفقا لتقديرات المسؤولين)، يقول إن "أصحاب الصيدليات الصغيرة مثله باتوا غير قادرين على مجاراة هؤلاء". فكما يوضح، يشتري أصحاب السلاسل أضعاف الكميات من شركات التوزيع، فيحصلون على عروض كبيرة، ثم يتبعون ما يسمى "سياسة الحرق"، بالشراء بالتقسيط ثم البيع بخصومات مغرية في أسرع وقت.

5614457971_eda9919097_k

رغم كل ذلك، مضى "العزبي" في طريقه ولم يوقفه أحد، بل صار رئيسًا لغرفة صناعة الدواء باتحاد الصناعات. لكن اهتز عرشه لأول مرة تقريبًا مع نهاية عام 2016.

فخلال شهر واحد؛ حررت مصر سعر صرف الجنيه (التعويم) ليتراجع بنسبة 50% أمام الدولار، زادت الأسعار، عانت الصيدليات من اختفاء بعض الأدوية، واستدعت نقابة الصيادلة مديري فروع صيدلية العزبي بعد ضبط جهاز حماية المستهلك لـ216 صنف دواء مهرب.

وفي قضية حملت رقم 1898 لسنة 2016 وعرفت باسم "قضية احتكار الدواء الكبرى"، أحال جهاز حماية المنافسة أربع شركات للنيابة، بينهم شركة "العزبي" (مالتي فارما) لثبوت مخالفتها لقانون حماية المنافسة، حيث عقدت ما اسموه "إتفاقية رابطة موزعي الدواء" (الرابطة هي جمعية أهلية تعود لسنة 1983) لتوحيد السياسة البيعية بطرق أضرت بالصيدليات الصغيرة.

وقضت المحكمة وقتها بحل هذه الرابطة وتوقيع غرامات ضد الشركات قدرها 5 مليارات و580 مليون جنيه.

صورة 7

فجأة، تصدر منافسون آخرون السوق في وجه "العزبي"؛ إذ ظهرت سلسلة صيدليات مصر، ثم صيدليات 19011، في أكتوبر 2017.

قد تتشابه بدايات مؤسسي "19011" مع "العزبي" نفسه. فهم ثلاث صيادلة تشاركوا، معتمدين على خبرتهم السابقة في سلاسل الصيدليات– وفقا لحديثهم بأحد البرامج التلفزيونية – وسرعان، ما استحوذوا على 100 فرع خلال سنتين فقط.

وبينما يحدث ذلك ويربك سوق الدواء، الذي وصل حجم مبيعاته بين 60 إلى 65 مليار جنيه، اخطرت وزارة الصحة نقابة الصيادلة بشطب اسم "العزبي" وحاتم رشدي، مالك سلسلة صيدليات رشدي، من سجلات الصيادلة بناء على الحكم القضائي الصادر في هذا الشأن.

وكانت محكمة استئناف القاهرة قضت حينها بتأييد قرار هيئة تأديب نقابة الصيادلة، بإسقاط عضوية "العزبي"، و"رشدي" وتخفيف عقوبة إسقاط العضوية بحق 25 صيدليا آخرين، إلى وقفهم عن مزاولة المهنة لمدة سنة.

طريقة التحايل على القانون التي كشفت عنها الدعوى، يمكن لأي شخص رؤيتها على واجهات الصيدليات نفسها، حيث لافتة باسم أحد سلاسل الصيدليات الشهيرة وأسفلها اسم الدكتور الذي يملكها على الورق.

هذه الحيلة ذكرتها الدعوى بأنها "بيع هؤلاء الصيادلة اسمهم التجاري لأحمد العزبي، وحاتم رشدي، ثم قام الاثنان باستعارة أسمائهما ليتمكنا من فتح وإدارة أكثر من صيدلية".

ووفقًا لقانون 127 لسنة 1955، "يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنتين وبغرامة لا تزيد على 200 جنيه أو كليهما كل من زاول مهنة الصيدلة دون ترخيص أو حصل على ترخيص بفتح مؤسسة صيدلية بطرق التحايل باستعارة اسم صيدلي آخر".

صورة 6

لكن "العزبي" لم ير في ذلك خطأً. لا مشكلة في رأيه أن يملك الصيدلي صيدليتين باسمه، ويتعاقد مع صيادلة آخرين لتشغيل وإدارة صيدلياتهم مقابل عائد.

ظهر "العزبي" تليفزيونيا وقد بدا لا يعبأ بالأمر كثيراً.. قائلا: "لن تٌغلق أي صيدلية".

مع أن رئيس لجنة الصيدليات بنقابة الصيادلة، ثروت حجاج، وقتها أوضح أن "قرار الشطب يؤدي إلى إغلاق الصيدليتين المملوكتين باسم العزبي ورشدي، وإلغاء الرخصة الخاصة بهما، أما باقي الصيدليات على الورق تحت إدارة شخص آخر غيرهما، والصحة لن تتخذ أي إجراء حيال هذه الصيدليات".

صمد "العزبي" مجددًا في وجه الأزمة. نمت مبيعات شركته بنسبة 5% (لتصل إلى حوالي 5 مليارات جنيه). لكنه في نهاية العام الماضي قام بالتنازل عن انتخابات غرفة صناعة الدواء بإتحاد الصناعات إثر وجود طعن يطالب باستبعاده لتورطه في قضية احتكار الأدوية.

كما ظلت سلاسل الصيدليات باقية. تعثر بعضها تباعًا كصيدليات (شادي، دوائي، النواوي)، واستمر آخرون– حتى اللحظة – (كير، عز الدين، ذكري، صيدليات مصر، وسيف بواقع 80 فرعًا).

فيما كانت الضربة القاصمة للسوق بأكمله في يونيو الماضي. عندما أصدرت المحكمة الاقتصادية حكمها بإفلاس شركة "ألفا" المسؤولة عن إدارة سلسلة صيدليات 19011، بعد أن تجاوزت قيمة مديونياتها 3 مليارات جنيه لعدد من البنوك والشركات والأفراد.

صورة 5

أغلقت 19011 ومعها صيدليات رشدي لاستحواذها عليها. سببت ديونها "كارثة" لشركات التوزيع – حسب وصف الدكتور حاتم البدوي، سكرتير شعبة الصيدليات باتحاد الغرف التجارية، حيث أنها لن تحصل إلا على جزء بسيط من تلك المديونية.

لذلك، اعتبرها "العزبي" الخاسر الأبرز في هذه الأزمة، مشيرًا إلى أن مجموعته لن تتأثر لاتباعها سياسات رشيدة في الإدارة والإنفاق.

لاحقا، سيظهر أن ذلك ليس صحيحا تماما.

وحينها، توقع علي عوف، رئيس شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية، أن إفلاس هذه الصيدليات قد يؤثر على باقي السلاسل في تعاملها مع البنوك للحصول على القروض، وأن بعضها سيهدد بالإفلاس.

أحمد العزبي، الذي يبدو دومًا هادئا ثابتًا حتى في مواجهة أكبر الأزمات وأثقلها، اطل مؤخرا لينفي خبر القبض عليه على خلفية أحكام قضائية.

وجد نفسه مضطرًا ليشرح الكثير من التفاصيل. فاعترف بوجود قضايا بالفعل، لكنها ما زالت في مرحلة الطعن، وأحكامها ليست نهائية.. ثم كشف عن مديونيته لشركات بـ300 مليون جنيه سيتم سدادها قريبا.

سبب العجز الذي ذكره "العزبي" ربما يتناقض مع الصورة التي أظهرها قبل أشهر مع إفلاس "19011". فقد أوضح أن هذه المجموعة التي ظهرت فجأة ثم اختفت فجأة، سحبت أموال من شركات التوزيع ولم يتم سدادها، وكان نصيب شركته منها 450 مليون جنيه.

2022_2_12_12_8_27_933

تلك الأرقام الذي ذكرها "العزبي" في حديثه ببساطة شديدة، اثارت أزمة سلاسل الصيدليات، التي بلغ عددها 90 - وفقًا لمحيي حافظ، عضو غرفة صناعة الأدوية باتحاد الصناعات – من أصل 80 ألف صيدلية في مصر.

فيقول محمد الشيخ، نقيب صيادلة القاهرة وعضو مجلس الشيوخ، إنهم يعملون بشكل غير قانوني، إذ لا يذهبون إلى وزارة الصحة أو نقابة الصيادلة ويلجأون إلى4 وزارة الاستثمار لفتح سجل تجاري دون إتمام كافة الإجراءات الإدارية للحصول على القروض.

لكن 4 مصرفيين في قطاعات تمويل الشركات في البنوك قالوا لـ"مصراوي"، "إن تعثر سلاسل الصيدليات سيدفع البنوك إلى زيادة التحوط قبل الموافقة على ضخ تمويلات لهؤلاء".

لذلك، يرى "الشيخ" أنه يجب إجراء تصحيح للسوق وتقوية الصيدليات الفردية لتقف في وجه السلاسل، متوقعا أن جميعها لن تستطيع الصمود طويلا.

احتمالات كثيرة.. قد يسقط معها أحدهما أو جميعهم وقد يصعد نجم سلاسل جديدة. ووسط صراع دائر منذ سنوات، استمر "العزبي" رغم كل شئ، واحتفل هذا العام ببقائه في السوق لـ47 سنة متواصلة.

لازال يقاوم ويعد بالحل والتسوية والمضي قدما. وعلى الناحية الأخرى، تقيم شركته، مصنعاً للأدوية في السعودية بتكلفة ملياري جنيه. يبدو إن الرجل متمسكًا بحلمه القديم، الذي بدأ مع أول لافتة علقها على صيدلية يملكها. فيقول خلال أحد لقاءاته: "سعادتي ترتبط دائما بالنجاح.. لذا هناك ضريبة وهناك أعداء".

اقرأ أيضا:

نقيب صيادلة القاهرة: "السلاسل" إلى زوال.. وعملها غير قانوني لهذه الأسباب (حوار)

مديونيات بالملايين.. هل تتوقف البنوك عن تمويل سلاسل الصيدليات وقطاع الأدوية؟

عضو غرفة صناعة الأدوية: لدينا 90 سلسلة صيدليات.. وبعضها ينتهج "سياسات خاطئة" (حوار)

أزمة سلاسل الصيدليات| أصحاب الصيدليات الصغيرة: نحن خارج المنافسة

فيديو قد يعجبك: