من خير الجبل.. مروى تغزل السلال بمحبة أهل الشام
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
كتبت-إشراق أحمد:
غادرت مروى أبو خليل بيروت وسكنت منطقة الجبل، لم ترى ما يحمله القادم بعدما تركت مهنتها وحياتها المعتادة. تسير في الغابة المحيطة بها، تطيل النظر للقش المنثور بطريقها، تشعر أن شيئًا يجذبها نحوه، تتذكر منزل جدتها، تلك السلال اليدوية المعلقة على الحوائط والحاوية لكل ما يرغبون فيه، تدنو من الأرض وتجمع بعضًا من القش وتبدأ تجربة يتسع مداها إلى الآن؛ احترفت مروى صناعة السلات وأصبحت تنشر تعليمها للكبار والصغار في لبنان.
"قش لفة" الاسم الذي اختارته مروى لمشروعها المنطلق في أكتوبر 2020، تروج به لأعمالها المصنوعة بمحبة كما تحرص أن تدون على كل سلة تنتهي منها. لم يكتشف قلب الشابة من قبل تلك المحبة لصنع المشغولات اليدوية، لكنها تحفظ جيدًا المشهد غير الغائب عن مدينتها السورية "بالسويداء جزء من التقليد في البيوت كان سلال القش. قش القمح بالتحديد"، طالما أذهلتها الألوان والأشكال فكانت الملهم لها حينما تخبطت بها الأحوال.
أيام لم تعرف فيها مروى ميناء ترسو فيه سفينة أحلامها؛ من أرض الحرب في سوريا، غادرت عام 2012 إلى لبنان، درست في كلية الفنون الجميلة، ظنت أن تعلمها ما تحب يغنيها بعد التخرج، لكن ما إن انهت الجامعة حتى واجهت الواقع "جربت كتير مجالات فنية منها المسرح والسينما والتصوير والمونتاج". اشتغلت بالمجال الأخير "كان عالمي هو اللابتوب والكاميرا". ليالِ استنزفت طاقتها ومجهودها ولم تجد داخلها شيئًا يدفعها للاحتمال.
انتقلت الشابة السورية من بيروت "بديت أحس أن المدينة صارت سريعة بالنسبة لي"، فرت إلى الطبيعة، انتقلت للسكن في منطقة جبل لبنان، عزمت أن تصنع بداية جديدة؛ اختبرت حرف عديدة منها الغزل بالصوف وتعلمت الخط العربي، وجدت في حرية التجريب متعة كادت أن تفقدها، وفي جولات تمشيتها بالساحات الخضراء المحيطة، استعادت ذكرياتها مع سلال القش، فبحثت عن فيديوهات تعليمية ومعلم ينقل لها الخبرة بشكل مباشر "روحت على المحلات اسألهم عن الصناع"، لكن كان المصير الدهشة من طلبها مقابل غياب أي مرجع مباشر أو أرشيفي تعود إليه.
لم تستسلم مروى، تحدت نفسها أن تتعلم بالتجربة "حسيت أن منطقتنا بحاجة لنوع من الأرشيف. حدا يرجع يعيد إحياء هاي الحرفة بكل تفاصيلها". يومًا بعد الآخر ينكشف أمام الشابة عالم غزل السلال، تذهب إلى المحال، تلمس يداها خصلات قش القمح والقصب، فيما تمتد رحاها في الغابة تلتقط أنواع مختلفة من القش والأوراق: الصنوبر وألياف الموز، عرانيس الذرة وأغصان الزيون "ثروات موجودة بأرضنا. أغلب الأوقات الطبيعة لحالها بتكب لنا إياها من غير قطف". عرفت مروى الطريق فلم تبرح الساحة الخضراء.
بعد ثلاثة شهور من التجربة نجحت مروى في عمل سلة كما أرادت أن تكون، ومعها غزلت خيوط ما تحب "أن الواحد يصنع شيء عنده قيمة مش بس مادية لكن معنوية وتراثية وفنية بحاجة ليحط فيها المجهود والصبر والوقت الكافي". ما كان لدى الشابة السورية مخطط لما تفعل، فقط تسير صوب ما يستقر القلب عنده، يخبرها الأصدقاء والأقارب أنها تصنع شيئًا مميزًا واقترحوا عليها عمل صفحة على شبكات التواصل تعرض فيها ما تنتج.
اختارت مروى اسم "قشة لفة" المعروفة بين كلمات أهل الشام بمعنى "كل شيء"، وجدت فيه انعكاسًا لمكانة السلال لديها "سلة عندها القدرة تحمل كل شيء"، وتصلح لاستخدامات عدة للتخزين والزينة. ما اعتبرت ابنة سوريا ما تقوم به مشروعًا، لم تخطط لشيء، تدفقت الخطوات تباعًا "أنا مشيت بالموضوع وهو أخدني" كما تصف الشابة لمصراوي.
داخل منزلها بمنطقة بشامون –قرية لبنانية من قرى قضاء عاليه في محافظة الجبل- أقامت مروى مشغلاً، فيما تفترش مواد غزل السلال على مد بصرها في الغابة المجاورة، تخرج في رحلة محببة تلتقط فيها ما يسرها من أشكال وألوان "جزء كبير من متع صناعة السلل البحث عن المواد. ما فيكي تتوقعي شو ممكن يطلع"، أحيانًا تتشوق لجمع قش الصنوبر فتجد منه الأصفر وأخرى الأخضر والبني، ولا يخلو الوقت من الذوبان في الطبيعة، تتنسم الهواء وتُمعن السمع لكل الأصوات، كأنما هو وقتًا للاسترخاء وليس لجمع مواد حرفة تشغلها.
تسعد مروى كلما تذكرت أنها لا تحتاج لكل طقوس الشراء ولا توقع الأذى بالبيئة "أغلب الشيء اللي بستعمله يابس اللي هو بترميه الطبيعة أصلاً". نبتة وحيدة خضراء تسمى الوزال تستخدمها الشابة بين مجموعة موادها التي تعتمد عليها في غزل السلال، ورغم ذلك تتأكد ألا تقطف الزهرات من نبتة واحدة، بل وتنتظر موسم الحصاد لجمع البذور وتبدأ تجربة جديدة مع الزراعة وليس التلقيط فقط.
في عالم سلال مروى، تلمع عيناها دومًا بالمفاجآت؛ تتذكر يوم أن زارت جدتها لتأخذ نصيحتها خاصة وهي تتقن حياكة السجاد، فكشفت لها أن والدتها أتقنت الغزل، ثم أعطتها أداة تساعدها، حينها استعادت صفات الجدة "قدرة الصبر اللي عندها والقدرة إنها تدخل أي شيء بيصير معها بحياتها في الشيء اللي عم تصنعه"، تمنت أن تكون مثلها ويحقق غزل السلال لها ذلك.
تغيرت علاقة مروى بالسلال؛ الآن لا تخلو حقيبتها من القش أينما ذهبت "صرت بعتبرها شيء بيرتبط فيا"، تلتمس أي وقت لا تنشغل فيها يديها بشيء وتهم تغزل سلة جديدة، كأنما يتشكل مولود بين أصابعها، ترى التكوين شيئًا فشيئًا، وهذه مفاجأة أخرى باتت تنتظرها، وتتشوق لما تتركه من أثر في نفسها "هذا الشيء بيبطء لي حياتي بالوقت اللي هيك حياتنا ماشية بسرعة". في لحظة يتوقف كل شيء إلا لضم الأوراق، تصبح وحدها وسلتها "بيصير حالة بعتبرها متل التأمل".
ليس هناك وقتًا محددًا لإنهاء سلال مروى، تنجز إحداها في ساعة من نهار وأخرى تمضي شهرًا لإكتمالها، لا تجد الشابة سببًا سوى أنها تترك نفسها للغزل، ولهذا يصعب عليها إلى الآن تشكيل فريق لتغطية طلبات السلال، تبحث الشابة عمن يشاركها الشغف وليس أفراد تبحث عن عمل ينقضي مع عقارب الساعة.
لا تخلو لبنان من صناع السلال لكنهم شديدي الندرة، ورغم هذا تجد مروى في مشروعها اختلافًا عن كونها تصنع منتجًا يدويًا، تقول "الهدف الأساسي أنه نرجع للحرف تبع أجدادنا وفي نفس الوقت نعطيها الطابع تبع هذا العصر"، ولهذا يغمر الشابة سعادة خاصة حينما تتلقى تعليقات أن منتجها يخلق "حنين لشيء قديم.. يجدد العلاقة بروايح الأرض"، فيما تنشط أفكارها مع الاستخدامات غير المتوقعة لسلالها "في حدا خدها حط فيها صابون وناس أخدوها يعرضوا فيها منتج تبعهم".
تتأكد خطوات مروى نحو ما تحب يومًا تلو الآخر، تتجاوز حدود الغزل في ورشتها إلى تعليم آخرين. تقيم الشابة ورش في منطقة الجبل وبيروت وصيدا، تلتقى الكبار والصغار، تنقل لهم شغفها وترسخ ما أرادته "بعطي نبذه عن تاريخ سلالنا وعن اتصالها بمناطق الأولوان وكيف كانت وسيلة التعبير الفني للسيدات زمان". لا تعتبر الشابة ما تفعله حرفة لإخراج منتج بل "توظيف الفن للاستعمال"، ومؤخرًا اكتشفت فيه جانبًا تربويًا مع الأطفال "كانوا يتعلموا دروس ما كان قصدي أعلمهم إياها. كيف يكونوا صبورين. ما يقارنوا شغلهم ببعض. كيف نشجع بعض ونستمتع بالعملية".
تزيد رغبة مروى في توثيق صناعة السلال، فيما لا تنقضي أحلامها بأن يزيد عدد صناع السلال، وتساهم في تقوية علاقة الناس بالأرض، وتنفتح أبواب مشغلها لأصحاب الشغف والراغبين في التعرف على الحرفة بكل ما يحتاجونه، وأن يحمل لها العام القادم التوقف عن تقسيم الوقت ما بين العمل كمعلمة والغزل، فتتفرغ لخلق مزيد من السلال.
فيديو قد يعجبك: