جولة أخيرة مع الوحش.. مقاومة "رحمة" لاكتئاب الولادة وشبح الانتحار
كتبت-ندى سامي:
رسم-سحر عيسى:
لم تستطع رحمة كبح الدموع، فقدت السيطرة على مشاعرها، تحكم الغضب فيها وقادها نحو المطبخ، وضعت يدها على الموقد ضغطت على زر الإشعال، تركت الغاز يتغلغل في ذرات الهواء وينتشر في المطبخ والصالة وغرفة الأطفال. دقائق قليلة كانت كافية ليتملك الرعب منها، ازدادت في الإرتعاد وفاقت على صوت رضيعها يستجديها فأغلقت الغاز مسرعة واتصلت تطلب المساعدة.
شُخصت رحمة جمال صاحبة الـ 28 عام بعد ذلك الحادث بـ اكتئاب ما بعد الولادة، وزاد الطبيب التصنيف بكلمة حاد، لم تكن تلك المرة الأولى التي تذهب فيها رحمة للطبيب النفسي؛ بعد زواجها كانت تحلم بالعُش السعيد الذي يزينه صغير تدوي صرخاته في أرجاء المكان، لكن الإجهاض كان حليفها لأربعة مرات، إلا أن بعد كل محاولة كان يزداد إصرارها وحماسها للمرة التالية.
بعد عامان من الدماء والفقد حملت في صغيرتها، بشكل مفاجئ تحول حماس الأم حديثة العهد لخوف وقلق ثم بكاء ورغبة عارمة في الفرار "مش عارفة حصل إيه أنا كنت هموت علشان يبقى عندي طفل.. فجأة كل حاجة اتغيرت".
لم تكن مسيرة الحمل بيسيرة على رحمة أصابها سكري الحمل وارتفع ضغطها وساءت حالتها، فزادها الوهن حزنًا، وبالرغم من ذلك إلا أنه اكتمل ورزقت بطفلتها الأولى، خرجت من المشفى على منزل أمها ثم قررت ألا تثقل عليها وعادت إلى منزلها لتواجه حياتها الجديدة هي وصغيرة لا تعرف من العالم سوى رائحة أمها.
صراخ الصغيرة كان يعصف بقلبها، تهدهدها وتبدل ثيابها وتسقيها من حليبها لكنها لا تكف، تنام أوقات قصيرة ومتقطعة وفترة يقظتها تبكي فتبكي رحمة لعجزها وقلة حيلتها، تطوف جنبات الشقة ذهابًا وإيابًا دون جدوى. انزوت رحمة عن العالم، انقطعت صلتها بصديقات الجامعة وساءت علاقتها بأهلها، ابتعدت عن فنها ورسوماتها جفت ألوانها ونفدت صفحات دفترها بعدما كان الرسم والألوان عكازها، لا ترغب في فعل شئ وتتمنى فقط لو تنتهي المعاناة.
تمت الصغيرة عامها الأول وكأنه دهر من الزمان "مش عارفة عدى عليا ازاي كنت بتمنى كل صبح إنه يكون الأخير"حمل جديد يدب في رحم رحمة دون درايتها، تنكر الأعراض وتنسب التوعك للحزن وقلة النوم، إلى أن جاء الطبيب بالخبر اليقين "مكنتش مستوعبة إني عندي طفل ولا كان ينفع أكون مسؤولة عن اتنين".
جاءها الأمل على استحياء أن يصالحها الصغير على الحياة، لكن دائرة التعب أغرقتها في اليأس سريعًا، وزادها الهم أضعاف، تزورها الكوابيس وتخطف ساعات النوم القليلة منها، أصبحت لا تقوى على رعاية طفلتها ولا زوجها ولا حتى نفسها، اقترح الزوج أن تسكن شقة في البناية التي تعيش فيها أمه لتعينها على الصغيرة.
"مكنتش في حالة تسمح لي أتعامل مع أي حد.. ومكنش حد مستوعبني" زادت حدة المشاكل بينها وبين الجميع، فأغلقت على نفسها جميع نوافذ الحياة، وأصبح باب الشقة الحصن المنيع الذي تختبئ خلفه، إذا دق ارتعدت أوصالها، وإذا رن الهاتف تداعت بالنوم، إلى أن وضعت طفلها الثاني.
اقترحت على زوجها أن تذهب لطبيب نفسي علها تقاوم، ولكنه لم يشجع ذلك الأمر، لم تعيد طلبها ولكن غرقت في أحزانها وغضبها من العالم "واحدة ميتة ومعاها طفلين" تمكن منها اليأس إلى أن داهمها فكرة التخلص من حياتها هي وطفليها خوفًا من المصير المجهول لهم بعد وفاتها، كانت تتراجع في الوقت الأخير، تختبئ من عتاب من حولها ولومهم على حزنها غير المبرر بالنسبة لها.
"في مرة من غير تفكير رحت فتحت الغاز.. نموت كلنا أحسن.. عايزة أخلص من الألم ومش عارفة ازاي.. قفلت الغاز وكلمت جوزي وأنا منهارة قلت له وديني عند دكتور نفسي"دقائق قصيرة أشعلت فتيل الحرب على رحمة التي لاقت استهجان ولوم جميع من حولها، كان يذبحها سوط الكلام والشعور بالذنب يقتلها.
ذهبت رحمة للطبيب النفسي الذي أخبرها أنها كانت تعاني من اكتئاب حمل امتد لاكتئاب ما بعد الولادة منذ الحمل الأول لها، ولم تتلقى علاج مناسب ما جعل الاكتئاب رفيقًا لها، "مكنتش بلتزم مع الدكتور ولا باخد الدواء" كانت تشعر بعدم جدوى الأمر.
تكررت محاولات انتحار رحمة وتناولت شريط كامل من دواء باسط العضلات، ذهبت للمستشفى دون رغبة منها، أعانها الأطبة وأوصوا بضرورة تدخل طبيب نفسي ووضعها تحت المراقبة مع الرفق بحالها إذ أصبحت بلا حول ولا قوة.
استكملت رحمة جلسات العلاج. يهزمها اليأس تارة وتقاوم أخرى، تغضب على حالها وتشرع في إيذاء جسدها بآلة حادة إل أن توقفها الدماء، مرات ومرات على ذلك الحال تغرق وتفيق على صوت صغارها، الأمل الوحيد لها لتبقى على قيد الحياة.
قررت أن تعمل لعل الانخراط مجددًا يساعدها على المضي قدمًا، عثرت على وظيفة في إحدى الشركات السياحية واستعانت بوالدة زوجها لرعاية صغارها، فيما يغمر الهواء رئتيها في الصبيحة ويخبرها أن هناك مزيد من الأيام لتحياها رفقة طفليها.
تحسنت حالة رحمة وبدأت الأدوية تجدي نفعًا معها، صارت تقرأ عن الاكتئاب وتبحث عن طرق تعينها على التشافي وتحمل ثقل الحياة، إلا أن الشعور بالذنب يقبض على صدرها بين حين وآخر، ولكنها عزمت على أن تتشبث بيد صغيريها ليعيناها على شبح الاكتئاب الذي مازال يصاحبها طيلة الأربع سنوات الماضية إلا أنه أصبح أقل وطأة.
قصص الملف:
"دائرة حياة للأمهات".. مها حولت معاناتها بعد الولادة لـ "نقطة نور"
فرحة لم تكتمل.. حينما زار الاكتئاب "آية" بعد الولادة الثانية
بعد الإجهاض.. كيف أنقذ "حسن" زوجته من عتمة الاكتئاب؟
لماذا تقع بعض الأمهات فريسة لاكتئاب ما بعد الولادة؟ (تقرير)
البعض يقابل الاكتئاب مرتين.. "معافرة" أم لوداع التفاصيل الحزينة
لا تقل.. 10 عبارات مكروهة لأم تعاني اكتئاب ما بعد الولادة
فيديو قد يعجبك: