"أبو مينا الأثرية".. مدينة "المعجزات" والتراث المُعرض للخطر
كتبت - مارينا ميلاد
انفوجرافيك- مايكل عادل
مفهوم "البَركة" يقود الكثيرين في مصر نحو أماكن دينية؛ أملًا في تحقيق أصحابها المعجزات.. يقصدونها حاملين طلبات وأمنيات لا تعرفها سوى أوراقهم المتناثرة.. كانت مدينة "أبو مينا" الواقعة غرب الإسكندرية؛ واحدة من أهم هذه المقاصد، التي يتجه إليها مسيحيون قبل قرون، حتى أصبحت في أواخر القرن الخامس والنصف الأول من القرن السادس الميلادي أهم مراكز الحَج المسيحي في مصر.
اختفت المدينة ثم اكتُشفت ثم سُجلت أثراً ثم تراثاً عالمياً ضمن 7 مواقع مصرية ثم أُهلمت وملأتها المياه الجوفية؛ فصارت "تراثًا معرضاً للخطر" بتصنيف اليونيسكو.. لكنها عادت إلى الحياة مجددًا بمشروع كبير لوزارة الآثار وبإشراف من دير القديس مارمينا.
على بعد ١٢ كم من مدينة برج العرب، تحولت أصوات الصلوات التي شهدتها المدينة قديمًا إلى أصوات عمال وآلات للعمل على إنهاء مشروع خفض المياه الجوفية وترميم المنطقة وتوفير خدمات بها.
الراهب تداؤس آفامينا الذي بدأ رهبنته بهذا الدير منذ عام 1992 وحصل على درجة الماجستير في مجال الآثار، حيث كانت دراسته عن هذه المنطقة؛ يتحدث لـ"مصراوي" عن المنطقة التي تستعد مصر لتقديم طلب رفعها من قائمة التراث المهدد بالخطر باليونسكو بعد ٢١ عاماً من وضعه.
من أين جاء اسم المدينة؟
يعود الاسم إلى القدس مارمينا أشهر شهيد في المسيحية منذ عام 309 ميلادية، الذي انضم إلى الجيش الروماني ثم فر من الخدمة عندما بدأ اضطهاد المسيحيين في عهد الإمبراطور "دقلديانوس" وأعلن مسيحيته، وبسبب ذلك صدر الأمر بقطع رأسه.
ثم دُفن في هذه المنطقة فيما بعد.
متى وكيف تم اكتشاف المدينة؟
القصة المعروفة لدينا أن هناك مجموعة من الناس كانوا يعيشون في هذا المكان ويهاجمهم البربر من شمال إفريقيا؛ فأرسل الإمبراطور الروماني جنوده لمحاربتهم وجاء مع القائد جَسد القديس مارمينا ليتبركوا به، وانتصروا.. ويقال إنهم وضعوا الصندوق الذي يحمل الجسد على جَمل لكنه رفض التحرك، ففهم القائد أن "مارمينا" يرغب البقاء في هذا المكان ودفنوه.
خلال السنوات التي تلت ذلك حدثت معجزات كثيرة في المكان دون معرفة السبب حتى ظَهر القديس لسيدة وطلب منها الحفر لإيجاد جسده.. جرى ذلك في القرن الرابع الميلادي وبُنيت أول كنيسة ثم تشكلت مدينة كبيرة.
(المعلومات السابقة هي الرواية المَسيحية المتداولة عن اكتشاف المدينة منذ هذا الوقت)
كيف كان شكلها؟
كانت مساحتها ألفي فدان لها ثلاثة أبواب ويحرسها 11 ألف جندي روماني.. مثلت نموذجاً يحكي حقبة بداية الفن القبطي والقباب، حيث تم بناء كنيستين بها، الأولى في بداية القرن الرابع والثانية في بداية القرن الخامس الميلادي، وشهدت الكثير من الأنشطة.
كما أنها ظلت لثلاثة قرون (من الخامس إلى السابع) مقصد الحج الثاني بعد القدس.
وكيف اختفت بعد ذلك؟
في عهد محمد علي كان لصوص يختبئون في بقاياها ويهاجمون القوافل فقام بردمها تمامًا.. ظلت مختفية حتى عام 1905 عندما اكتشف عالم الآثار، كارل كوفمان، مخطوطة بالخط القبطي الصعيدي تحكي قصة القديس مارمينا (موجودة الآن في مكتبة بالولايات المتحدة)؛ فاكتشف المدينة ومنذ هذا الوقت واستلمت الآثار الموقع للبدء في أعمال الحفائر.
إذن أصبحت المدينة تابعة للآثار وليس للدير؟
نعم؛ كموقع أثري تم تسجيله رسميا عام 1956، لكن الإشراف على جميع الأعمال بالمنطقة من اختصاص الدير.
عام ١٩٧٩ سُجلت بقائمة التراث العالمي لليونسكو كأول موقع مسيحي أرثوذوكسي.. فكيف صارت تراثًا مهددًا؟
عام 1983 وزعوا أراضي للشباب حول المدينة للزراعة واستخدام أسلوب الري بالتنقيط، لكنهم زرعوا محاصيل بأسلوب الغمر ونتيجتها أن قبر مارمينا امتلأ بالمياه.
لذا في 2001 وضعتها اليونيسكو على القائمة الحمراء (التراث المعرض للخطر)، وبعدها بأربع سنوات بدأت الحكومة المصرية مشروع خفض المياه الجوفية بتكلفة 50 مليون جنيه وانتهى في 2010.
لكن للأسف تعطلت الصيانة بعد الثورة وانقطعت الكهرباء لفترة؛ فامتلأ القبر والمنطقة بالمياه مجددًا حتى بدأ المشروع الجديد عام 2019 ولايزال جاريًا.
كيف ترى هذا المشروع؟
أراه مشروعًا ضخمًا يُنفذ من أموال الحكومة المصرية وليس اليونسكو، ويحافظ على الهوية القبطية والحضارة المصرية بمختلف أنواعها، لأنه تاريخ نسلمه لأجيال أخرى.
ما الخطة المستقبلية للمنطقة خاصة وأنها تمثل موردًا هامًا للدير؟
الخطة هي استكمال أعمال ترميم القبر وعودة جسد مارمينا به (جزء موجود في حوزة الآثار حاليًا وجزء آخر في الدير)، يليه توفير الخدمات وتمهيد الطريق وإعادة نمو المكان وإنشاء متحف.
وبالتأكيد يمثل أهمية للدير من كل النواحي، لكن لا يهمنا أن نجعل الزائر يأتي ويدفع تذكرة ولا يعود، لكننا حريصون على ما سيشاهده وأن تكون تجربته جيدة ومفيدة.
في 14 مايو الماضي؛ زار خالد العناني، وزير السياحة والآثار، موقع أبو مينا الأثري، ووجه بضرورة الانتهاء من كافة أعمال تطوير المنطقة ككل.. وأشار بيان للوزارة بعدها إلى أن تلك الجهود تمت بالتعاون مع وزارة الري ممثلة في معهدي بحوث المياه الجوفية وبحوث مياة الصرف، حيث قاموا بأعمال تطهير المصارف داخل المنطقة، كذلك وزارة الزراعة التي ساهمت بتحويل نظام الري للأراضي الزراعية حول المنطقة ليصبح بالتنقيط بدلا الغمر.
ورغم أن المشروع يجري على قدم وساق للانتهاء منه قبل زيارة مسؤولي اليونيسكو له.. لم ينتظر الراهب تداؤس انتهاءه تمامًا، فهو يصطحب دومًا زوار الدير للمنطقة الآثرية؛ فالكثير منهم لا يعرف شيئاً عنها: "يأتي الناس إلينا للزيارة، التبرك، الترفيه.. إذن هي فرصة أيضًا لنعرفهم شيئاً عن تاريخهم."
فيديو قد يعجبك: