البرونز والخطر والسر.. رحلة الكشف الأخير في سقارة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
تقرير: مارينا ميلاد
إنفوجرافيك: مايكل عادل
كان موقع في منطقة سقارة يمتلئ بعمال ومشرفين أثريين، رغم أن الحرارة تواصل ارتفاعها والشمس تشتد عليهم.. هذا الموقع يُعرف بينهم باسم "البوباسطيون" (جبانة الحيوانات المقدسة). تعلو الأتربة أكثر وأكثر فوق رؤوس الموجودين ويستمر العمال في الحفر دون توقف لعلهم يجدون شيئًا قبل نهاية اليوم.
يلمس فأس أحد العمال شيئًا صلبًا.. هنا عليه أن يكون حذرًا لأقصى درجة، لأنه من الممكن أن يكون تمثالًا أثريًا أو تابوتًا أو أواني فخارية.. ينادي على "الريس مرعي"؛ فهو رئيسهم المباشر.. يقف الريس مرعي (41 عامًا) بجوار أخصائي الترميم، أسامة صابر، ليخرجا هذا الشيء برفق شديد وكأنه "جنين يولد"– حسب وصف "أسامة".
باستخدام الفرشاة يزيل "أسامة" طبقات الأتربة بِحرص، وهو ما يسميه بـ"الكشف الآمن"؛ فالتمثال الذي ظل مدفونًا لآلاف السنين سيخرج الآن بشكل مفاجئ في مناخ آخر.. يدرك الريس مرعي كل تلك الخطوات؛ فالرجل المولود بمنطقة أبو صير القريبة لسقارة؛ بدأ عمله في هذا المجال منذ عام 1998 وتدرج من عامل إلى فني إلى رئيس عمال يفهم كل صغيرة وكبيرة فيما يجري حوله.. ومع إزالتهم الأتربة؛ كانت المفاجأة بانتظارهم.
لقد وجدوا أنفسهم أمام تمثال برونزي بدون رأس لـ"إيمحتب"، المهندس المصري الذي بنى هرم الملك زوسر (أول ملوك الأسرة الثالثة)، وهو عبقري هذا الزمن؛ حيث إنه الأول في التاريخ الذي بنى بالحجر بدلاً من الطوب اللبن.. لذا لم يصدق المُرمّم "أسامة" والريس مرعي ومن معهما أن البعثة المصرية وجدت شيئاً كهذا.
جاء مصطفى الوزيري، الأمين العام المجلس الأعلى للآثار، ليتفقد الموقع وقد أذهله هذا التمثال.. واليوم، وهو يقف أمام كاميرات القنوات الفضائية المحلية والعالمية، ليعلن عن اكتشاف "أول وأضخم خبيئة تماثيل برونزية" تضم 150 تمثالاً؛ يقول: "فخور جدًا أن هذا الكشف تم بأيادٍ مصرية خالصة.. استطعنا إبهار العالم باكتشافات غير مسبوقة.. لكن ركزوا على هذا التمثال بالتحديد.. إنه في غاية الأهمية.. فهو تمثال إيمحتب."
يبدو أنه كان موسمًا ناجحًا للبعثة المصرية في سقارة، وهو الموسم الرابع على التوالي منذ بدأت أعمالها في إبريل 2018.. فقد كشفت عن تماثيل يعود عمرها إلى 2500 سنة للمعبودات المصرية القديمة (أنوبيس، آمون مين، أوزير، إيزيس، نفرتوم، باستت، وحتحور).
ليس ذلك فحسب، بل أضافت إلى كشفها ٢٥٠ تابوتاً خشبياً ملوناً (حوالى 500 ق.م) وبداخلها مومياوات بحالة جيدة. كما أن الجديد هذه المرة هو كم أدوات زينة المرأة التي عثروا عليها مثل مرآة من البرونز، أساور، عقود، أقراط، ومكاحل.
وأخيرًا؛ تمثالان خشبيان ملونان للإلهتين إيزيس ونفتيس في وضع النائحات (اللاتي يبكين على الميت)، وهما أول ما اكتشفوه عندما بدأوا هذا الموسم في سبتمبر الماضي، وفقًا للريس مرعي.
في الطريق الصاعد لهرم أوسركاف، كان عمل الريس مرعي ونحو 45 عاملًا معه بناء على الموقع الذي حدده المجلس الأعلى للآثار؛ حيث مقابر الكهنة وكبار رجال الدولة القديمة وقتها. يقول إن "كل شيء في عملهم يمكن أن يحمل خطرًا لهم"، لكنه يقوم بما يتوجب عليه فعله.
يعاين الريس مرعي المكان ويرى ما إذا كان جزء من الجبل يحتاج إلى تثبيت أو ترميم حتى لا يسقط شيء عليه وعلى عماله: "لا أخاطر أبدًا بحياة رجالي".. ثم يبدأ بعدها.
يتذكر الرجل البداية كونها أصعب مرحلة بالنسبة لهم. فيحكي عن كميات كبيرة من "الردم" يقومون بإزالته من نقاط مختلفة ليتمكنوا من الحفر.
للريس مرعي طريقته وتخصصه الذي يجيده. فعلى الرغم من أن دراسته كانت نهايتها "دبلوم فني"؛ إلا أنه تعلم الكثير في مهنته عمليًا وتراكمت خبراته سنة بعد أخرى حتى عُين في وزارة الآثار عام 2013.. فيقول: "لا يمكن أوجه عامل وأطلب منه شيء لا أتقنه!".
تلك الخبرة علمته تصديق "الشواهد" المحيطة بمكان الحفر؛ فكما يشرح: يمكن أن يجد الأواني والأحجار مكسورة عند الحفر، وهو ما يشير بنسبة كبيرة إلى أن هذا المكان تم الحفر فيه مسبقًا أو تمت سرقته وعلى الأغلب لن يجدوا شيئاً.. أما إذا كانت سليمة؛ فهنا يدب الأمل فيهم.
لكنه مع ذلك؛ يوضح أن "هذا ليس معناه أن هناك أماكن يقال لن نحفر فيها لأننا لن نعثر على شيء بل يحفرون في كل النقاط المحددة"؛ فيكمل: "أنا لست لصًا، كل ما يهمني الخروج بقطعة أثرية، بل نحن نعاين وندرس المواقع."
على هذا النهج؛ عَمل الريس مرعي مع العديد من البعثات الأجنبية، ورغم أن عائد العمل معهم يعد مُجزيًا أكثر للعمال مقارنة بالبعثة المصرية، لكن عمله مع الأخيرة وما حققته جعله يشعر بالفخر – حسب وصفه – فقد كرمه وزير الآثار في يناير 2020 بعد مشاركته في اكتشاف خبيئة الحيوانات المقدسة عام 2019، والتي يعتبرها: "أجمل ما رآه في حياته ولن يُخرج مثلها."
يأتي دور أخصائي الترميم بمنطقة سقارة، أسامة صابر، بعد الريس مرعي. فهو وعشرة أفراد في فريق الترميم؛ يقومون بمهمة صعبة ودقيقة فور خروج القطعة للحياة مجددًا، تبدأ بتنظيف ميكانيكي وكيميائي (إن استدعى الأمر)، ثم تقوية الأجزاء وتثبيتها.
هكذا فَعل في كل القطع التي تم الإعلان عنها اليوم، لدرجة جعلته يجلس ساعات أطول في عمله طوال الفترة الماضية: "كنا نشعر بضغط شديد، لكن بمجرد خروج القطع بهذا الشكل إلى العالم هان كل ذلك."
وكان الوقت الأصعب لـ"أسامة" والريس مرعي وباقي الفريق هو شهر رمضان – بحسب ما يقول الريس مرعي، فيومهم الذي يبدأ من 7:30 صباحًا يُنهكهم فيه الحرارة والصيام معًا، إضافة إلى مشقة العمل الذي يتطلب النزول إلى آبار تتراوح طولها بين 10 و15 متراً.
يرى "أسامة" أن كل الاكتشافات التي اشترك بها لها قيمتها، فلا يريد أن يصنف أحدها أنه الأهم، لكن المثير بالنسبة له في هذا الكشف هو أحد التوابيت الذي وجد فيه بردية طولها نحو 9 أمتار، وربما تحمل الكثير.
لم يكن معتادًا في الاكتشافات السابقة أن تقع بردية في أيدي البعثة؛ فيقول مصطفى وزيري، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار: "هذا إعجاز.. لم أسمع الكشف عن بردية منذ أكثر من 100 سنة." ويوضح أن الكثير منها سافر إلى الخارج عندما اكتشفها الأجانب.
وبمجرد أن فحص متخصص البرديات هذه البردية المُكتشفة؛ قال للموجودين "إن مدى رقتها تدل على جودة صنعها وجودة الكتابة التي ستكون عليها."
ذلك المكان بكل ما يحمله من خبايا وأسرار وكنوز؛ يُصقل من خبرة "أسامة" ويزيد شغفه؛ فيقول: "لا تكف هذه الجبانة عن إبهارنا منذ اكتشاف خبيئة الحيوانات المقدسة وحتى اكتشاف التماثيل البرونز اليوم لأول مرة.. نحن محظوظون جدًا بالعمل في سقارة".
و"سقارة" (أحد مواقع التراث العالمي التابع لليونسكو) هي الجزء الأهم من جبانة منف (مدينة مصرية قديمة)، التي تبعد عن القاهرة بحوالي 40 كم. وقد أصبحت بما تضمه من مقابر فريدة من نوعها بمثابة متحف مفتوح.
وفي ذلك الحدث الذي شهدته سقارة، اليوم الإثنين، للإعلان عن "الكشف الكبير"؛ وقف الريس مرعي، والمرمم أسامة صابر والفريق بأكمله بجانب مصطفى وزيري، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، لتكتمل الصورة التي طالما تمناها كل من "أسامة" والريس مرعي. فيقول الأخير: "في السابق كان الكشف والظهور مقتصراً على القيادات والمسؤولين، لكن الآن نحن نشعر بالتقدير وأننا نكمل بعضنا."
سيتسلم المتحف المصري الكبير القطع المُكتشفة- بحسب "أسامة"- ليكملون الحفاظ عليها في حرارة ورطوبة معينة وإجراء تحليل واستكمال الترميم والتثبيت.. وقد أُرسلت البردية إلى المتحف المصري بالتحرير لدراستها.. يعتقد "أسامة" أنها ستقود إلى اكتشافات أخرى.
فيما يظن مصطفى وزيري أنها فصل من فصول كتاب الموتى، كما يشغل "وزيري" المهندس "إيمحوتب" الذي أبهره تمثاله؛ فيتمنى أن يجد مقبرته التي لم يتم الكشف عنها بعد: "لايزال لدينا موسم خامس في الاكتشافات.. وهناك مؤشرات أننا سنجد أشياء أخرى.. مقبرة إيمحتب لابد أنها قريبة من هنا."
أقرأ أيضا:
حراس الأثر وكاشفوه| كبير "آل سليك": "أصحاب العهد لا يخونوا"
تراث مَحذوف.. مَبان تراثية خارج "قوائم الحماية"
فيديو قد يعجبك: