العيد في "المسافة صفر" بالسودان.. سكان الخرطوم بين الموت والجوع
– مارينا ميلاد:
وضعت "سارة" أوراق التحاليل في حقيبتها وحملت رضيعها بيدها الأخرى. صارت مستعدة لمغادرة بيتها والتحرك باتجاه المستشفى، حيث الموعد الضروري المقرر لطفلها. وقبل خروجها بدقائق، دوّت أصوات القصف، والتي بدت قريبة جدًا منها!
لم تستوعب سارة موسى ما يجري وأن المعارك اندلعت بين قوات الدعم السريع شبه العسكرية، وقوات الجيش النظامية، نتيجة صراع على السلطة. وحين عرفت، اكتشفت أن الخطر على بعد نحو 300 متر منها، حيث معسكر قوات الدعم السريع بمدينتها بحري، شمال الخرطوم.
امتد واقترب هذا الخطر وتكاتفت معه عوامل أخرى. وشيئًا فشيئًا، أصبحت "سارة" وغيرها من السودانيين الساكنين بالقرب من مناطق الصراع في "المسافة صفر" (أي الأكثر خطورة).
في ظلام يمتد لساعات طويلة، تلتفت أسرة "سارة" المكونة من والديها المسنين وزوجها وإخوتها وطفلتها حول الطاولة لتناول الإفطار. يكشف ضوء الشموع وكشافات الهواتف عن وجوه حزينة متجهمة، يتناول أصحابها الطعام دون أن ينبس أحدهم بكلمة واحدة، حيث تبدلت أجواء رمضان حولهم في غمضة عين.
فأزاحت أصوات الطائرات والقصف أصوات الإعلانات والمسلسلات.. تقول "سارة" (ربة منزل): "الوضع مرعب جدًا، الطائرات تأتي عند المغرب والفجر، وهناك بيوت حولنا تضررت".
تدور الاشتباكات حول "سارة" بمواقع استراتيجية في أنحاء العاصمة. لا تهتم السيدة الثلاثينية بمتابعة السياسة دومًا، لكنها على الأقل تدرك سبب القتال الحالي.
فبعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير من سدة الحكم عام 2019، تشكلت حكومة مشتركة من المدنيين والعسكريين، ثم سقطت لاحقاً بعد انقلاب عسكري آخر في أكتوبر 2021. ومنذ هذا الوقت، يدير مجلس السيادة الحكم في السودان، ويتصدر مشهده قائدان عسكريان: الأول عبد الفتاح البرهان (قائد القوات المسلحة والرئيس الفعلي)، والثاني، محمد حمدان دقلو المعروف باسم "حميدتي" (نائبه وقائد قوات الدعم السريع). وهما الرجلان اللذان يتقاتلان الآن بعدما اختلفا على مقترح الانتقال إلى حكم مدني وخطة ضمّ قوات الدعم السريع.
حلت تلك الصورة المخيفة في الأيام الأخيرة لشهر رمضان. فتنافرت مع الأجواء المعتادة للأسبوع الذي يسبق العيد. إذ كانت "سارة" تنتظر راتب زوجها الذي يعمل محاسبًا، لتشتري منه ملابس جديدة لها ولأطفالها، خاصة أن حفل زفاف ابنة خالتها سيقام خامس أيام العيد.
لكن الراتب لم يصل، واختفت كل الخطط الآن، كما تقول "سارة" بصوت يائس.
يقطع القصف الشبكة ومعها صوت "سارة".. تركض لتحتضن أطفالها، ثم يستلقون على الأرض في منتصف البيت، مبتعدين عن كل النوافذ. تلتف إلى ابنتها البالغة خمس سنوات لتنصحها بالاختباء تحت السرير حال زادت هذه الأصوات.
مرت فترة من الصمت الممزوج بالذعر قبل أن يدق هاتف "سارة" لينبهها برسائل تأتيها. ما يعني أن شبكة الإنترنت التي تنقطع أغلب الأحيان قد عادت لوقت. كانت الرسائل من أصدقائها بالخرطوم وأم درمان، حيث الوضع الأكثر فزعًا.
فمدينة أم درمان تضم أغلب المناطق العسكرية، كقاعدة كرري، معسكر لقوات الدعم السريع بمنطقة صالحة، ومنطقة عسكرية شرق حي المهندسين، الحي الذي يسكنه بشار آدم (دبلوماسي) مع أسرته المكونة من أربع أفراد. يقول "بشار" في رسائله: "الوضع صعب جدا حولي، فقدنا الاحساس برمضان، ولا نتوقع أن يكون هناك عيد، قد تكون أول مرة نشعر بهذا الإحساس السيئ".
ما يزيد "بشار" إحباطًا وحزنًا، كما يحكي، هو غياب إخوته عنهم، بل وأنهم عرضه للخطر في كل لحظة. فأشقاؤه الثلاثة ضباط بالجيش السوداني: أحدهم بقاعدة مروي الجوية، والثاني في قاعدة جبل أولياء، والأخير بالقيادة العامة.
أما الرسالة التالية، فكانت من أسامة أبوزيد (باحث)، الذي بوسعه القول إنه يعيش في قلب ما يجرى كله. إذ يسكن في أحد الشوارع المجاورة لمقر القيادة العامة ومطار الخرطوم بالعاصمة التي يقطنها أكثر من ستة ملايين شخص.
صار الدخان الكثيف الأسود المشهد الرئيسي والدائم لنافذة "أسامة"، حسب ما يقول: "أصوات الرصاص قوية جدًا، الكهرباء تنقطع لنحو 30 ساعة، الأسواق مغلقة والصيدليات القليلة المفتوحة نعرفها عبر السوشيال ميديا".
لا يخرج "أسامة" من بيته منذ بداية الأحداث خوفًا من الرصاص الطائش. فعلى الرغم من أن الاشتباكات تبدو في محيط المُنشآت الحيوية، يدور الكثير منها في الأحياء السكنية، لعدم وضوح أماكن قوات الدعم السريع وتوزيع مقاتليها بمناطق مكتظة بالسكان.
في اليوم الخامس للقتال، ازدادت الأمور تعقيدًا. قارب الغذاء والمياه التي تملكها "سارة" على النفاد.
فمع انقطاع المياه طوال هذه الأيام، اضطرت الأسر إلى شراء مياه الشرب من البقالات، والتي تقول "سارة" إن "أغلبها أغلق أبوابه وسافر أصحابها بعيدًا عن العاصمة". لذا وجه ستيفان دوجاريك (المتحدث باسم الأمم المتحدة) تحذيرا للعاملين في المجال الإنساني من نفاد الغذاء والماء والوقود.
هذا بجانب تعطل خدمة الدفع الإلكتروني في وقت قلت فيه النقود، ما زاد المشكلة سوءًا.
اجبر ذلك زوج "سارة" على شراء المياه من أماكن بعيدة، كما تقول. وقبل ما فعلته الحرب، كان نحو 26% من السكان بالسودان يستغرقون أكثر من 50 دقيقة لجلب المياه، بحسب نشرة للأمم المتحدة.
تخشى "سارة" على زوجها وأخواتها من الخروج، فتقول: "لا نعلم إن كانوا سيعودون أم لا". كما أنها سمعت عن عمليات نهب جرت هذه الأيام.
نفس الشيء ذكره جان إيغلاند (الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين)، وهو من المنظمات التي تقدم المساعدة للسودان، في تصريحات له، فأشار إلى نهب العديد من منشآت المجلس النرويجي. بينما تنفي قوات الدعم السريع السودانية ادعاءات النهب وتلقي باللوم على ميليشيات تعود إلى عهد الرئيس السابق عمر البشير.
وفي وقت يتبادل الطرفان المتناحران الاتهامات. يقول "إيغلاند" إن "الوضع الإنساني مريع ومساعدة الناس أصبحت مستحيلة. لا يمكنك العمل عندما ترى زملائك يقتلون، وعندما تكون القيادة على الطرق غير آمنة، وعندما يكون المطار مغلقا".
يعني ذلك، أن أكثر من ثلث السكان في السودان سيكونون في كارثة أخرى غير كارثة الحرب، لأنهم بحاجة إلى مساعدات إنسانية بسبب زيادة النزوح والجوع، وفقا لما ذكرته الأمم المتحدة بداية هذا العام.
هدنة أولى ثم ثانية. تمنت "سارة" خلالهما أن تستقر الأمور ولو يومًا واحدًا لتذهب إلى المستشفى الخيري المصري بطفلها المولود قبل شهر ونصف.
تحتاج "سارة" إلى نصف ساعة آمنة على الأقل لتذهب إلى تلك المستشفى بالسيارة. فيما يضطر نحو 30% من السكان بالسودان إلى السير لأكثر من ساعة للوصول إلى أقرب منشأة طبية، وفقا للأمم المتحدة.
لكن لم تعرف الهدنتان نجاحًا على الأرض، ولم تهدأ سماء الخرطوم. وبمرور أسبوع على ذلك الكابوس، باتت "سارة" في مأزق كبير بسبب ابنها، الذي خرج من الحضانة منذ 17 يومًا، ولابد من إجرائه متابعة طبية وتلقي التطعيمات اللازمة.
تقول "سارة" بحزن شديد: "هناك نقص من الأساس في التطعيمات بسبب ضعف الإمدادات الطبية، ثم جاءت هذه الحرب لتنهي أي أمل قريب.. لا أعرف ماذا أفعل؟".
وتسبب القتال في توقف 16 مستشفى (منها تسعة مستشفيات في الخرطوم) عن العمل، كما أن 16 مستشفى آخر بالخرطوم وولايات أخرى، على وشك اللحاق بهم بسبب إنهاك الطواقم والعاملين ونقص الإمدادات، بحسب منظمة الصحة العالمية.
ومع فجر أول أيام عيد الفطر، استيقظت "سارة" وغيرها على وقع قنابل الطائرات والمدافع الثقيلة في هجوم للجيش بحسب بيان لقوات الدعم السريع، تلته عملية تمشيط بري في كامل ولاية الخرطوم.
لم تتمكن "سارة" من الذهاب إلى صلاة العيد كعادتها كل عام. إنما جلست تقلب في هاتفها لتتابع الأخبار التي افادتها بمقتل أكثر من 400 شخصا وإصابة أكثر من 3000 آخرين، وفقا لما ذكرته منظمة الصحة العالمية.
تنقلت "سارة" بين صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، تنشر نصائح الأطباء حال الإصابة بأعيرة نارية، وأخرى عن ما يجب وضعه في الحقيبة عند الهرب وكيفية التعامل مع نوبات الهلع.
يومًا بعد الآخر، تزداد ثقوب الرصاص في الخرطوم لتشهد على حرب غريبة تدور رحاها بين سودانيين وسودانيين، ومعها يزيد تفكير سارة موسى في النزوح باتجاه مدينة أخرى داخل البلد، كآلاف المدنيّين الذين فرّوا من الخرطوم. تقول: "أصبحت المحال خاوية، ضاعت فرحتنا برمضان ثم العيد، وصار الموت على بُعد أمتار منا.. إن بقينا واستمر الوضع هكذا سنموت قتلًا أو جوعًا".
اقرأ أيضًا:
ما بعد فيضان النهر.. الهروب والبقاء في السودان
فيديو قد يعجبك: