صيدنايا ليست مجرد "سجن".. مدينة "العذراء" التي شغلت العالم
-مارينا ميلاد:
على تلة مرتفعة بمنطقة جبلية تعلو سطح البحر بنحو 1500 متر، استراح الإمبراطور البيزنطي جوستنيان (أو يوستينيانس) خلال رحلته إلى القدس، وبحسب الحكايات التي توارثتها الناس، تجلت للرجل امرأة تحاوطها هالة من النور، يُفترض أنها السيدة مريم العذراء، وأمرته أن يبني ديرًا في المكان نفسه، وقد فعل، على الأغلب بالقرن السادس الميلادي. ثم صار "دير سيدة صيدنايا"، أحد أهم المعالم المسيحية بالعالم، ورمزًا لهوية مدينة صيدنايا السورية.
لكن بعد قرون، تحديدًا بعد عام 1987، تحولت سيرة صيدنايا من الدير وأسطورته إلى تلك الأسوار العالية التي أطلت عليها المدينة والأسلاك الشائكة التي أحاطت بها وأصوات الآنين والألم وحكايات الفقد التي خرجت كلها عن سجن صيدنايا سيء الصيت.
ترسم قصة سجن صيدنايا المفزعة الصورة الأبرز لسنوات حكم الأسد (أب وابن) لقرابة 50 عامًا، وقد تفجرت حكاياته الرهيبة بعد سقوط نظام بشار الأسد، ديسمبر الماضي، ليجعل اسم مدينة صيدنايا يتردد كثيرًا ملحقًا به، ويخفي وراءه جانبها الآخر.
على بعد 30 كم من دمشق - في طرق شديدة الانحدار بجبل القلمون، كان الحجاج المسيحيون يسلكون طريقهم إلى الأراضي المقدسة عبر صيدنايا، يتوقفون بمكان الدير أمام أيقونة العذراء العجائبيّة، التي رسمها القديس لوقا، للصلاة وطلب بركتها، متعشمين في معجزات كثيرة نُسبت إليها. كان ذلك في العصور الوسطى. وعلى ما يبدو، فالمشهد استمر حتى اليوم في اصطفاف زائري الدير القادمين من مختلف أنحاء الشرق: مصر، لبنان، والأردن، في وجه الأيقونة نفسها.. يطوفون المدينة في عيد السيدة العذراء وهم يحملون صورتها.
يدير الجميع ظهره للجانب الآخر من الطريق، حيث أسوار سجن صيدنايا المرعب، الذي يبعد نحو 7 كم عن وسط المدينة، يحاولون حتى ألا ينظروا إليه.
واحد من هؤلاء المُحتفلين وأحد ساكني المدينة ذات الأغلبية المسيحية هو "جورج"، الذي يرى أن "مدينته صارت مرتبطة باسم هذا السجن البشع ظُلما وزورًا، فهو خارج تقسيمتها الإدارية، لكن كل ما في الأمر أن المواصلات القادمة من دمشق إلى صيدنايا تمر به، وكل زائر له يستقل مواصلات صيدنايا"، ومن هنا أخذ اسمها.
ولاسم صيدنايا معاني كثيرة، بحسب موقع بطريركية أنطاكية للروم الأرثوذوكس، "قد يعني مكان استراحة الغزال أو مكان الصيد أو السيّدة الجديدة بما أنّ كلمة "نايا" باليونانيّة هي "جديد" والجزء الآخر من الكلمة هو "سيّدة" بالعربيّة.. ولكن بفعل التأثيرين المسيحيّ والعربيّ اللاحقين، شاع أنه يعني مكان السيّدة".
كانت درجات الحرارة تنخفض بشدة في صيدنايا عشية عيد الميلاد، عندما تجول "جورج" صعودًا وهبوطًا بأزقة المدينة، ليتحدث عنها وكأنه يعطي لها ملامح مُغايرة عما سمعه العالم: "حياتها هادئة وبسيطة، المسلمون والمسيحيون متعايشون معًا، معظم سكانها من زمن طويل يعملون بالزراعة، فنزرع أفضل عنب وتين، كذلك البقوليات والحبوب، وحاليًا يعتمدون أكثر على التجارة وشركات النقل، لكن تغيرت حياتنا بعد الحرب".
فقبل 10 أعوام، كان دير الشاروبيم الشهير بالمدينة خاليًا، ولم يعهد أن يكون خاليًا من قبل، بل وأحاط به مسلحون يدافعون عن المنطقة، فالتفت أحدهم وقال لأحد المراسلين: "اعتدى مسلحون متطرفون على كنائسنا وكسروا تماثيل مريم العذراء وهددونا بالرحيل".
مع بداية الصراع السوري عام 2011، وظهور الأطراف المتصارعة وأبرزها جماعة "داعش"، تعرضت المدينة للاعتداءات المتكررة وسقوط القذائف من المناطق القريبة منها كمدينة معلولا القريبة والتي تتحدث لغة المسيح الآرامية، حسبما يتذكر "جورج". اتكأ الرجل على صخرة وأشار إلى مشارف المدينة قائلا: "كنا نقف دوريات لنحمي حدودها، فقدنا 50 شهيدا، لكننا تصدينا وتمسكنا بأرضنا حتى هدأت الأمور في السنوات الماضية".
لم يفكر "جورج" الذي يعمل بأعمال حرة خلال سنوات عمره الخمسين أن يترك صيدنايا يومًا حتى في أحلك ظروفها.. فيقول: "من غادرها نحو أوروبا كان رغمًا عنه نتيجة الظروف الاقتصادية السيئة"، حيث تعتمد المدينة على السياحة التي بالطبع تأثرت نتيجة فيض الأحداث التي مرت بها سوريا، فكانت تستقبل نحو مليوني حاج سنويًا.
ومع الوقت، قل عدد سكان المدينة من 15 ألف نسمة إلى 10 آلاف نسمة تقريبًا.
يعاود "جورج" إلى بيته، وفي الطريق، يمر على الكثير من الأديرة والكنائس، فتضم صيدنايا نحو أربعين منها، أبرزها دير السيدة العذراء (دير سيدة صيدنايا)، ودير الشاروبيم، ودير القديس جورجيوس، الذي يبدو الدير الأنشط في أعماله بالزراعة وبيع المنتجات وتأليف الكتب.
ينظر إلى كل ذلك، ويكمل حديثه، "هذه صيدنايا التي نعرفها، لكن لا أحد منا يعمل في السجن أو يعرف ما يدور بداخله، حتى إذا عبرنا جوراه لا نراه بسبب الحواجز والسواتر الترابية".
على مقربة من بيت "جورج"، كانت أصوات صاخبة تخرج من بيت أديب الذي يشبه أغلب بيوت المدينة ذات الحجر الأبيض، المعبر عن النمط المعماري القديم. امتزجت الأصوات بين أواني تتخبط لإعداد الطعام وموسيقى عيد الميلاد الناعمة القادمة من الراديو، ونشرة الأخبار في التلفزيون التي تتحدث عن زيارة مسؤولين لتفقد سجن صيدنايا، فكان ضيفا ثقيلا على البيت، غير مدعو ولكنه حاضر دائمًا.
فعلى عكس "جورج"، كان "أديب"، الذي عَمل مديرًا لإحدى الشركات، يدرك الكثير عن هذا السجن وغيره، وشكلت فِكرة سجون النظام السابق جزءًا كبيرًا من قراءاته وذكرياته.
فأنزوى قليلا وراح يقلب كعادته بين حين وآخر بين صوره القديمة حتى وقعت عيناه على صورة ابن عمه "شحادة"، فعاد بذاكرته إلى منتصف السبعينات، عندما كانت المخابرات تزور مختار البلدة بصيدنايا وتصحبه ليدلها على الشخص المطلوب، وكان أحدهم "شحادة" الذي يقول "أديب" عنه: "عَمِل لمصلحة صيدنايا وتقديم الخدمات بها ما يفوق ما عَمَله لنفسه وأسرته بأضعاف".
فيتذكر ما جرى وكأنه حدث أمس.
طرق المختار (وديع) باب بيت العائلة، وقال "الشباب عم يسألوا عن شحادة هو ساكن هنا؟"،
فأجابه صاحب المنزل، "تفضلوا البيت واحد".
عندها سمع شحادة وخرج من الحديقة إلى بيت الجيران واختفى.
وغير "شحادة"، تذكر "أديب" ذلك الطبيب المدعو موفق هلالة الذي قبضت عليه السلطات الأمنية وهو ينتظر الحافلة ليذهب إلى عيادته دون تهمة واضحة، ثم سُجن لخمس سنوات. يستحضر صورة والدته وهي تقف على درجات الكنيسة، وقالت له (الحمد لله اليوم رئيس الفرع خبرني رح يحول موفق على سجن صيدنايا بدل سجن تدمر أو عذرا).
ولم تكن الأم تعلم بما يجري في هذا السجن من تعذيب لدرجة أنه سُمي لاحقا بـ"المسلخ البشري".
"الصور من صيدنايا لا تمثل سوى جزء بسيط من أهوال نظام السجون في سوريا. وهي شهادة عميقة على المعاناة والألم الذي لا يوصف الذي يتحمله المعتقلون وأسرهم وأحباؤهم"
مبعوث الأمم المتحدة لسوريا
يتنهد "أديب" ويطوي أوراقه وصوره، يفلت من يده بطاقة قديمة لرحلة من دمشق وصيدنايا إلى الساحل السوري تعود إلى عام 1973، فتُبدل مزاجه قليلا، ويقول: "كنت مولعًا بالرحلات ونظمت العديد منها على مستوى الضيعة"، وبالتأكيد إلى دير سيدة صيدنايا المميز لوجه المدينة.
وفي غرف هذا الدير ذات السقف المنخفض والمقبّب، تغص الجدران بالأيقونات العتيقة التي غلب على معظمها السواد الناتج من دخان الشمع، والمصابيح المكسوة بالذهب والفضّة تتدلّى من السقف، يجاورها الكثير من الصلبان. ومثلت هذه الكنيسة للرحّالة الروسيّ بارسكي، الذي زار صيدنايا في عام 1728، "أجمل كنيسة في الشرق".
يصلي "جورج" و"أديب" أمام أيقوناتها خلال أيام الاحتفال بعام جديد، يظهر خلفهما على حائطها الشمالي، أيقونة للميلاد تحمل تاريخ 1884، في وسطها المغارة وبها يوسف ومريم والطفل يسوع في المهد. وفي الجهة اليسرى ستّة مشاهد منها المجوس (الكهنة والحكماء وعلماء الفلك) في حضرة هيرودس (ملك اليهود)، يوسف ومريم يهربان من اضطهاده، وذبح الأطفال الأبرياء.
يأمل "جورج" أن تراعي السلطة الجديدة التي لازالت ملامحها تتبين شيئا فشيء، جميع مكونات الشعب السوري ومنهم المسيحيون. أما "أديب" فيتمنى أن يعود لزمن "الضيعة الوديعة الصغيرة"، أن يعرف الناس صيدنايا كما هي بعيدًا عن هذا السجن الذي في رأيه "سيصير متحفا ليكون دليلا على الإجرام".
اقرأ أيضا:
"لا بيتنا هو ولا مدينتنا".. رحلة العودة بعد 13 سنة إلى سوريا بعد سقوط "الأسد"
فيديو قد يعجبك: