أبطال قناة السويس الجديدة يروون لمصراوي ''حكاوي'' الحفر على مدار عام
تقرير - نورا ممدوح :
رمالُ على مدى البصر، لا تستطيع الاعين وضع نهاية لها، عزموا العزم على الحفر بها، تسابقوا مع الوقت، وتحدوا الصعوبات، عرق يتصبب من جبينهم هنا وهناك، حتى ظهرت بشريات الخير، مياهُ تفجرت من أسفل الرمال، حماس يسيطر عليهم ويحفزهم على مواصلة الحفر، مشهد تقشعر له أبدانهم، يُكلل مجهودهم وعناءهم على مدار عام كامل، لا يعرف النوم لهم طريق إلا بضع ساعات، تابعوا فيه عمليات حفر قناة السويس الجديدة، ليسطروا بقطرات عرقهم انجاز جديد يضاف إلى ذاكرة التاريخ الحديث، ليحكوا ويتحاكوا عنه لأحفادهم.
عمال قناة السويس، هؤلاء هم من تركوا منازلهم ايام متواصلة من أجل متابعة العمل في المشروع، للانتهاء منه في الموعد المحدد لهم، تخلوا عن رفاهيات الحياة لمدة عام كامل، تحملوا العيش في الصحراء، وصلوا النهار باليل، لا فارق عندهم في التوقيت صباحاً كان أم مساءً، يري كلا منهم نفسه أنه جندي في موقعة حرب، الوقت فيها هو خصمه، لا يستسلم لأي بادرة يأس تحاول أن تتسلل إليه.
تواصل مصراوي مع عدد من العمال الذين شاركوا في عمليات الحفر، حتى تمكنوا من حفر قناة جديدة متفرّعة عن قناة السويس، بطول 72 كليو متر لتكون محاذية للمجرى الملاحي الحالي، منها 35 كليومتر حفر جاف، و37 كليو متر توسعة وتعميق لأجزاء من المجرى القديم للقناة، ويبلغ طولها 72 كيلوا متر، وبلغت مدة تنفيذ مشروع القناة الجديدة 12 شهرا، شملت أعمال الحفر على الناشف والتكسية والتجريف وتوسيع وتعميق التفريعات الحالية لعمق 24 متر.
''قميص القناة'' ذكرى للأحفاد
جلال الجيزاوي، فني اول بشركة القناة للموانئ للمشروعات الكبري، يروي بداية أعمال الحفر واستمرارها على مدار السنة منذ تكليف الشركة بالمشروع، ويقول أنه تم تحديد بداية القناة من بعد كوبري السلام في محطة البلاح وحتى الدفرسوار، وأنهم تولوا مسئولية خلع ''الستائر'' من التفريعة الفاصلة بين القناة القديمة والجديدة، لتوسيع مجري القناة لتمكين الكراكات من الدخول وبدء عمليات الحفر.
ويتابع الجيزاوي، '' بعد ذلك توجهنا إلى منطقة البلاح وكانت المياه بدأت في الظهور، وهو ما جعلنا نشعر بالزهول جميعا من روعة المنظر والفرحة التي شاهدتها في عيون العمال، وكنت أحرص على تصوير كل مراحل الحفر، واحتفظ بـ'' قميص'' اطلقت عليه '' قميص القناة'' وهو الذي كنت ارتديه عند تواجدي بها، واعتبره ذكرى صنعتها لنفسي لأحكي لها لأحفادي''.
'' كنا نعمل أربع أيام بدون نوم بشكل متواصل، رغم صعوبة الجو، وارتفاع درجة الحرارة بالنهار، والرطوبة العالية، إلا أن الجو يختلف ليلا، وكنا نحاول خلق ذكرياتنا بإيدينا، ويكفينا فخرا أن نكون قد ساهمنا في حفر القناة مثل القناة القديمة التي حفرها اجدادنا''.
يضيف الجيزاوي، '' المُعدة التي كنا نعمل بها كانت تضم اماكن للمبيت، وتحتوي على أكل ومياه وحمام ومطبخ، واحيانا كنا نأتي بالأكل معنا أو اللجؤ للوجبات في أوقات الضغط''.
'' الايد الواحدة'' هي الشعار الذي اتبعه العمال في تنفيذ المشروع، فلم يكن كل فرد ملزم بتخصصه فقط ولكن كان يعاون زملائه إذا تطلب الأمر حتى يحققوا ''الحلم'' ، رغم ما كانوا يتعرضون له من اصابات في بعض الاحيان والتي كانوا يقومون بمعالجتها على الفور بالاسعافات الأولية التي كانت تمكنهم من تخطي الاصابة وسرعه معالجتها.
يكتفي الجيزاوي بما شاهده من مراحل بناء القناة، على مدار العام، وما بذله من جهد وعناء بها، ليكون سببا في استمتاعه بمنظر الشروق أو الغروب مع أول أذان بالمسجد الذي تم بناءه بجوار القناة، فهو لن يتمكن من حضور حفل افتتاح القناة وذلك لان كل شركة من الشركات التي شاركت في الحفر تم تخصيص 10 دعوات فقط لها.
كأحد أبناء الاسماعيلية، يرى الجيزاوى أن المشروع سيتسبب في خلق منطقة لوجستية لخدمات المراكب، بجواره، بالإضافة إلى انشاء المشروعات الكبرى والشركات، لفتح سوق عمل جديدة لهم، وبناء مناطق سكنية ومدارس ومستشفيات, كما أنه سيتم عمل شركتين للثروة السمكية من خلال احواض الترسيب التي قاموا ببنائها، وهو ما سيساهم في خفض الاسعار بشكل كبير، وأن المشروع بشكل عام سيعود بالخير على مصر.
غرف نوم تحت المياه .. و''العيش'' مشكلة
'' كنا بنشتغل 24 ساعة بدون راحة'' بدأ حديثه بها محمود الكومي، فني كهرباء، والذي يقول أنه كان يعمل على ونش بحري وكان عمله في وسط البحر، وأنه كان يعمل أيضا في الصيانة والاعمال البحرية، ''لان روح العمل الجماعي كانت سائدة في العمل''.
كان العمل الأول لهم الذي تم تكليفهم به، هو إزالة الستائر القديمة، ودق ستائر جديدة، بالإضافة إلى عمليات التدبيش التي كانت تتم على ضفاف القناة.
ويحكي الكومي عن المشهد الاول الذي تمكنوا فيه من رؤية المياه بالقناة '' قلبنا نبض اول ماشوفناها'' ، لم يصدق هو وزملائه أنها اصبحت حقيقي بعد أن كانت عبارة عن رمال فقط .
لم يكن هناك مواقف صعبة تعرض لها العمال اثناء العمل، وخاصة أثناء العمل في البحر، '' مصادفناش امواج في البحر تعيق العمل'' كما يقول الكومي، وكانت المُعدة تضم 12 فرد في كل وردية، يتناوبون فيها العمل دون توقف.
وعن مبيتهم في البحر، أوضح أن الونش الذي كان يعمل به كان يضم غرف نوم كاملة تحت المياه، وتحتوي على كل ما يريد هو وزملائه، وبها مطبخ وحمامات، ومياه للشرب، إلا أن شراء ''العيش'' كان هو المشكلة التي تقابلهم، وكانوا يتم نقل الطعام لهم من خلال ''فلوكة'' تتجه نحو البر لتحمل الطعام من السيارات التي تصطف هناك وتنقلها إليهم مرة أخرى إلى الونش.
بضحكة ساخرة ، تذكر الكومي أنه فقد تليفونه '' المحمول'' اثناء عمله، وسقط منه في البحر، إلا أنه لم يعبئ لفقدانه وتابع عمله حتى النهاية.
ويتابع الكومي،'' أنه عندما كان يتعرض أحدهم للإصابة كان يتم عمل محضر ''اصابة عمل'' لإجراء اللازم له، أو عدم الاهتمام بالمحضر في سبيل استكمال العمل بالقناة حتى لا يضيع وقت ''.
''الغطس'' في الرمال
هومن أول الغطاسين الذين حضروا بدايات عمليات الحفر، أحمد غنايم، بدأ العمل في القناة منذ البداية، وحتى شقت المياه الرمال، يقول '' اول المراحل التي بدأ العمل بها في القناة هى التكسية بالدبش، ثم ازالة الستائر القديمة على امتداد 400 متر، والتي تم وضعها حتى لا يحدث انهيارات للرمال قديما حتى لا يحدث انهيارات للرمال، ويتم ازالتها الان لتوسعة القناة 60 متر، وذلك للسماح للكراكات بالعمل''.
''بدء العمل بالبلدوزرات حتى ظهرت المياه، ومن ثم جاء دور الكراكات لعمليات التكريك التي كانت تتم، وفي نفس الوقت كنا نقوم بتعليم المقاولين كيفية دق الستائر على الناشف قبل دخول المياه، ثم بدء العمل لتجهيز المعديات''.
ويوضح غنايم، طبيعة عمله كغطاس، ويقول،'' انا شغلتي أن أقوم بقطع الستائر الزائدة تحت المياه ثم اقوم بلحم '' زوي'' حديد في الستائر وأربط عليها بمسامير لوضع الخرسان المسلح عليها لدق ستائر جديدة''، كما أنه شارك في المرسي المخصص ليخت المحروسة والذي كان يعمل فيه بشكل اساسي.
لم يسلم غنايم من مواجهة المخاطر، ''انا اول واحد غطست في الرمال، لانها كانت متحركة ولازم واحد لابس بدلة غطس هو من يعمل بها لان تحتها ماية و لو عامل عادى هيغرق''، مضيفا '' '' كنت اقوم بغطس على الناشف، واربط الستاير بالويرات ثم اقوم بتركيب ''البنسة'' الخاصة بـ '' الهزاز'' وهى عبارة عن مقبض يعمل بالضغط الهديروكهربي ، ويتم التحكم فيها بالكمبيوتر، ويقوم بعمل هزة ارضية لخلع الستائر .
'' كان العمل يستمر ليلا في البحر، ولو خوفت مش هشتغل ولازم اكون جرئ جدا ومخفش من حاجة''، ويشير إلى أنه كان يواجههم مواقف تتطلب تحرك سريع مثلما كانت تسقط الستائر في المياه وتتطلب اخراجها، بالإضافة إلى سقوط حفار في البحر بعد أن حدث انهيار في أحد المرات.
يصف غنايم شعوره عندما تحولت الرمال إلى مياه، '' احساس كان عظيم وكنت شغال في الماية وأول 3 مراكب كانت تمر في القناة، وكنت أجهز للمرسي التي سيقف بها يخت المحروسة احتفالا بافتتاح القناة بحضور الرئيس عب الفتاح السيسي''.
عم يحي .. صاحب الـ56 عام ''يعمل أكثر من الشباب''
'' بشتغل احسن من الشباب''، يحي محمد علي ، فني اعمال بحرية ولحام، وصل إلى السادس والخمسين من عمره، إلا أنه لم يجد في عمله مشقة او تعب، وكان يعمل بشغف وحب قد لا نجده عند الشباب.
يروي أنه كان بعمل في أعمال الحديد، وساهم في انشاء المعديات بالإضافة إلى المرسي الذي يخص يخت المحروسة، وانشاء قواعد للاعلام على مدى 10 كيلو من بداية النزول وحتى الكيلو86 .
'' مفيش مواعيد محددة للشغل، ولم نطلب مقابل الوقت الإضافي للعمل، وإذا لم تأتي الوجبة لم نكن نهتم ونكمل العمل بتركيز كبير، وكانت روح العمل الجماعي وحب وتعاون مسيطرة على المكان، وكنا نوزع المياه على بعض في حرارة الشمس، القناة دي اتعملت بالحب ولما تشوفيها لن تصدقي انها كانت رمال عالية جدا واتحفرت واتعمقت والمراكب تسير في المياه الان'' يقولها عم يحي .
وبنبرة تملؤها الفخر، يقول عم يحي،'' احنا كسرنا المنظومة التي تقول أن الشعب المصري بعمل ساعة واحدة في اليوم، احنا لما بنتزنق بنسد بس يكون العمل يستاهل، رغم حرارة الجو التي جعلتنا نشعر اننا في الصومال، فتحول لوننا الى الاسود إلا أننا لم نتهاون في العمل في اي وقت''.
يتابع عم يحي،'' انا عندي 56 سنة وكنت اعمل احسن من الشباب ولم اشعر بشقاء او تعب واحيانا كنت استمر في العمل حتى ساعات متاخرة من الليل في المياه، وعندما كان يتعب احد الشباب ويغلبه النوم كنت اجعله يستريح واواصل العمل مكانه، ولم نواجه مشاكل او عقبات كبيرة، وكانت اعطال بسيطة مثل عطل في بلدوزر او حفار وكنا نتغلب عليها بشكل سريع''
'' مشروع القناة مشروع ضخم والإجراءات الأمنية التي يقوم بها الجيش شديدة جدا والتأمينات كبيرة ويتم تفتيشنا بشكل ذاتي، لحين بدء الحفل يوم الخميس الذي يتوج المشروع ويجعله ذكرى ارويها لأحفادي''
''صحرا ودبت فيها الماية''
عادل صدقي، ريس بحري، كان مسئولا عن معدة كاملة، يعمل تحت ايديه طاقم العمل يتكون من 25 فرد في الوردية الواحدة، لم يكن هناك مجال للراحة بالنسبة لهم، فكانوا يواصلون العمل حتى الانتهاء منه.
''صحرا ودبت فيها الماية'' يقولها الريس عادل بنبرة يملؤها الفخر والحماس، ويتابع،'' كنا نعمل طوال اليوم، وعندما بدأت المياه في الظهور كان شعورنا لا يوصف، وتابعت الكراكات عملها حتى وصلت القناة إلى ماهي عليه الان، وأن من يسخر منها ويقول أنها عبارة عن '' طشت'' فهو لا يعرف شئ ابدا''.
'' لولا أنه كان هناك ضغط كبير من قبل الجيش لم تكن هذه القناة انتهت في 10 سنين، وأن مدة السنة قليلة جدا على الانتهاء منها، لذلك فهي معجزة حقيقة، وقدرنا نحفر 35 كيلو، ولم يكن المقابل المادي مهم بالنسبة لنا أانه في النهاية سيعود هذا المشروع بالخير علينا وعلى مصر كلها وسوف تساهم في زيادة الدخل وتوفير فرص العمل للشباب''
أخر ما قام الريس عادل بالعمل به هو المرسى الخاص بالمحروسة، والذي استمروا في العمل به لمدة اربع ايام متواصلة، حتى تم الانتهاء منه استعدادا لحفل الافتتاح يوم الخميس المقبل.
فيديو قد يعجبك: