بعد تصريح رئيس الأورمان.. الفقر في مصر بعيون موظفة شئون اجتماعية
تقرير – مها صلاح الدين:
تصوير - جلال المسري وعلاء أحمد ونادر نبيل:
تتكئ وفاء، موظفة في الشؤون الاجتماعية، على أريكة الصالون كعادتها كل ليلة، تفتح التلفاز، وتتجول بين القنوات بتململ، تستوقفها عبارة في أحد البرامج، لم يعنها اسمه أو على أي قناة.. كل ما لفت انتباهها صوت المذيع، وهو يقول: "إزاي رئيس جمعية خيرية يقول إنه مفيش فقراء في مصر.. أمال إنت بتشتغل إيه؟!".
تعتدل السيدة الخمسينية في جلستها بانفعال، وتحتج قائلة: "أمال الناس الغلابة اللي بشوفهم كل يوم بقالي عشرين سنة في الشغل دول إيه؟!".
وفاء، أمامها بضع سنوات لتنهي خدمتها، وتصير على المعاش، لكنها على مدار ما يقرب من 20 عامًا داخل وزارة الشؤون الاجتماعية، تتعامل بشكل يومي مع الجمهور، بحسب ما تصنفهم الوزارة: فقراء، وأيتام، وطلاب علم، وأرامل، ومطلقات.. وغيرهم. تستمع يوميا لعشرات من حكايات الفقر والحاجة، تعد الأبحاث الاجتماعية فيما تسميه "خطوط السير"، كي تحدد ما إذا كانت تلك الأسر تستحق المساعدة أم لا؟
لم تعلم وفاء، أن رئيس جمعية الأورمان عدل تصريحه في اليوم التالي، وقال "لا يوجد فقراء في مصر لأن الجميع يساعدهم"، ولكن كل ما تعرفه هي حكايات ومشاهد جسدت الفقر أمام عينيها، على مدار سنوات.
فقر أكد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2015 تمدده، عندما كشف في آخر بحث أعده حول الفقر والإنفاق، تزايد نسبة الفقراء من الشعب المصري لـ27.8%.
وبين الأرقام، وحكايات مدام وفاء، يأخذكم مصراوي في هذا التقرير، لنقف على حقيقة الفقر في مصر.
يعرف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، الفقر بأنه الوضع الذي لا يستطيع فيه الفرد أو الأسرة توفير الاحتياجات الأساسية، في حين أن البنك الدولي يعرف الفقر حول العالم، بالوضعية التي يقل فيها دخل الفرد عن مبلغ معين من الدولارات الأمريكية – يتغير سنويا، وصل في آخر تقرير أصدره البنك الدولي عام 2015 إلى 1.9 دولار في اليوم.
بدأت مصر قياس نسبة الفقر منذ عام 1958، وقتها أجري أول بحث ميداني لتحديد حجم الدخل والإنفاق في جميع محافظات الجمهورية، ثم تلاه العديد من الأبحاث بصورة دورية منتظمة كل 5 سنوات. ولكن منذ عام 2008، أصبح هذا البحث يصدر كل عامين، بهدف رصد التغيرات السريعة في مستوى معيشة الأسرة المصرية، ليكون البحث الذي سيصدر خلال العام الجاري، رقم 13 في سلسلة الأبحاث الإحصائية التي تحدد مقياس الفقر في مصر، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
للفقر توزيع جغرافي أيضا، يرسم خارطته الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في آخر بحث ميداني عن الفقر، صدر عام 2015.
وتصدرت محافظات الصعيد قائمة الأكثر فقرا:
"للفقر مرارة لا تتغير بتبدل الأماكن.. الفقر هو الفقر في كل مكان وفي كل وقت"، هكذا تقول الموظفة الخمسينية، وهي تتذكر قصة "أم هاشم"، تلك العاملة التي تتساوى معها في العمر، لكن ما شهدته من قسوة الحياة، جعلها تبدو أكبر منها بكثير.
تزوجت مبكرا، وتوفى زوجها الأرزقي مبكرا، تركها وحدها وثلاثة أبناء تواجه حروبها مع الحياة، لم تعلمهم، لم تستطع، فقط استطاعت أن تقف تحت الشمس الحارقة، والبرد القارس على مدار سنوات، تعد أكواب الشاي للعمال والمارة، بمنطقة "كفر الجبل"، المجاورة لنزلة السمان، بحي الهرم، حتى توفر لأبنائها قوت يومهم.
نسبة دعم السلع الأساسية من إجمالي استهلاك الأسر وفقًا لمحل الإقامة:
بحسب البحث الميداني سالف الذكر، 17.7% من أرباب الأسر في مصر، من النساء، و27.9% من أرباب الأسر لا يعملون.
بالنسبة لأم هاشم كان الدعم التمويني أكثر من "النواة اللي تسند الزير"، مثلما يقول المثل الدارج، كان قوت أبنائها اليومي، لا يخرج عن قائمة السلع التموينية، وبعض البقوليات والخبر.
نسبة تغطية بطاقات التموين للأسر وفقًا لأقاليم الجمهورية
لم يكن لدى أم هاشم سوى معاش الشؤون الاجتماعية، الذي لم يتعد مع مرور الزمن الـ450 جنيهًا، زوجت منه بناتها، واتخذ ابنها من النجارة صنعة، يستطيع أن يفتح من اليومية بيتًا، بدلا من أن يزيد من حجم البطالة الذي يتفاقم كل عام.
معدل البطالة
(التقديرات ربع السنوية منذ عام 2014: 2017)
تترقرق الدموع في عيني وفاء، تغالبها حتى لا تنهمر وهي تتذكر أقسى المشاهد التي عايشتها مع أم هاشم، حينما طُلب من باحثة، إعداد بحث لإعادة النظر في مستحقي معاشات "الضمان الاجتماعي"، وذهبت لغرفة أم هاشم، التي تقع في سرادق ضيق في منطقة نزلة السمان، التي تبدو سياحية، ووجدتها تمتلك غسالة يدوية صغيرة، وثلاجة 8 قدم، اشترتها بالاشتراك في الجمعيات والاستدانة، فقررت الباحثة أنها لا تستحق المعاش، وقتها لجأت السيدة لوفاء وزميلاتها، اللاتي استطعن بعد مرور شهرين من الواقعة، إعداد بحث جديد، يقضي بأحقية الأرملة لهذه الجنيهات القليلة.
كان صباحًا عاديًا في الشؤون الاجتماعية، حتى طرقت "صابرين" أبواب غرفة لا تتعدى مساحتها 3 أمتار مربعة، ينحشر داخلها ما يقرب من 7 مكاتب خشبية ومعدنية، يتقاسمها 20 موظفا، في ثلاثيات على كل مكتب، اثنان على رأسه، وأقدم الثلاثة دائما ما يتوسطهم.
كانت تتوسط "مدام وفاء" أحد المكاتب، لم تمر عليها صابرين، الفتاة التي لا يتعدى عمرها 22 عامًا، مرور الكرام. حملقت وفاء في وجه الفتاة المصرية الأسمر، ذي الملامح الدقيقة التي اكتست بالحياء، وقالت الضيفة إنها فتاة يتيمة على وشك الزواج، والدتها سيدة مسنة لا تعمل، ولديها أخ واحد عامل باليومية، متزوج ويعول.
كان واضحًا أن صابرين طرقت البوابة الخطأ، فالشؤون الاجتماعية لا تساعد الفتيات على الزواج، لكن "مدام وفاء" قررت أن تفعل شيئًا، تحدثت مع ثلاثة رؤساء جمعيات أهلية ترعى زواج اليتيمات بشيء واحد فقط من مستلزمات الزواج، وأقنعتهم بمنح الفتاة ثلاجة، وغسالة، وبوتجاز.
لم تترك وفاء موضوع "صابرين"، ربما لأنها رأت فيها صورة ابنتها التي فقدت والدها في سن الثالثة عشرة، حكت عنها لزملائها وأصدقائها، واستطاعت أن تجمع لها ما يلبي احتياجاتها الأساسية كعروس. في زمن أصبحت تكاليف البيوت والزواج منهكة، حتى على الطبقات ميسورة الحال.
التوزيع النسبي للإنفاق السنوي للأسرة على المسكن ومستلزماته
نسبة الإنفاق السنوي للأسرة على الأقسام الرئيسية
لا تعلم وفاء لماذا عادة ما تهرب زميلاتها من مهمة "خط السير"، ربما لأنه عمل ميداني لم تعتد عليه موظفات الحكومة، أو لأنه ربما يكون خطرًا، خاصة وأنهن يذهبن إلى مناطق لم يسمعن عنها من قبل، وإلى بيوت أناس لا يعرفونهم، ما جعل بعضهن حينما يُجبرن على هذا العمل، يذهبن برفقة أزواجهن، لكن وفاء ترجح أنهن يخفن الذهاب إلى "خطوط السير"، لما تحمله المهمة من مشقة نفسية، فكيف لهن أن ينقلن معاناة الناس من بين الجدران إلى الأوراق، ويحددن إذا ما كانوا يستحقون بضعة جنيهات، تدعى معاش الضمان الاجتماعي أم لا؟
لم تهرب وفاء من المهمة، لكنها كلما انتهت منها، وعادت إلى منزلها، تشعر أنها أصبحت أكثر عصبية، لأنها تدرك أن الحياة أكثر قسوة مما كانت تتخيل، خاصة بعد أن زارت سيد، ذلك الشاب الثلاثيني الحاصل على دبلوم التجارة، والذي كان يعمل بأحد المطاعم السياحية، وكانت حياته تسير على ما يرام، حتى أنه تزوج وأنجب ثلاثة أبناء، وحرص أن يلحقهم جميعًا بالمدارس.
التوزيع النسبي للإنفاق السنوي للأسرة على التعليم
لكن الحياة عادة ما تسير عكس ما تشتهي السفن، ففي أحد الليالي الصيفية الساهرة، كان سيد عائدًا من عمله، أطاحت سيارة بجسده الضئيل، أصيب بالشلل، وخسر كل شيء، ذهبت زوجته إلى الشؤون الاجتماعية، وتقدمت بطلب معاش الضمان الاجتماعي، لعجز زوجها، بعد أن ضاقت بها الدنيا، وأصبحت لا تستطيع أن تواجه المتطلبات التي انهالت عليها، من قوت وتعليم الأبناء، وعلاج أبيهم.
التوزيع النسبي للإنفاق السنوي للأسرة على الخدمات والرعاية الصحية
تركت أسرة سيد شقتها، واضطرت لاستئجار غرفة في منزل من الطين، بدورة مياه "شرك"، يستعملها 9 أسر يعيشون في 9 غرف لا تتعدى مساحة الواحدة منها المترين، بلا أي شبابيك أو منافذ هواء.
وفقا لبحث ميداني أجراه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2015، أكبر معدل تزاحم في مصر هو 9 أفراد يسكنون في غرفة واحدة، متوسط إنفاق الفرد في هذه الأسرة 4008 جنيهات سنويا، بنحو 334 جنيهًا شهريا.
كانت مصر اقترضت مبلغ الـ400 مليون دولار أمريكي من البنك الدولي في الثلث الأول من عام 2015، ضمن مشروع لدعم شبكات الأمان الاجتماعي، مدته 4 سنوات.
وبحسب بيان للجهاز المركزي للإحصاء فقد يرتفع مؤشر الفقر في مصر ليصل إلى 800 جنيه شهريا، بعد إجراءات الإصلاح الاقتصادي الأخيرة، ليصل إلى ضعف معدله قبلها.
مشروع دعم شبكات الأمان الاجتماعي، ينبثق منه مشروع تكافل وكرامة، الذي وصل إلى 2.242 مليون مستفيد حتى الآن. وبحسب تصريحات غادة والي، وزيرة التضامن الاجتماعي، كانت قيمة معاش التكافل الاجتماعي 325 جنيهًا في الشهر، إضافة إلى 60 جنيهًا لكل طفل في المرحلة الابتدائية، و80 جنيهًا، لكل طالب في المرحلة الإعدادية، و100 جنيه لطلاب المرحلة الثانوية. وكان يصرف تراكميا كل ثلاثة أشهر، ولكن بعد قرار تحرير سعر صرف الجنيه في نوفمبر 2011، أصبح يصرف شهريًا.
يمنح برنامج كرامة مساعدات نقدية شهرية تقدر بـ350 جنيهًا لكبار السن، ولمن لديهم عجز كلي أو إعاقة، ومن ليس لديهم دخل ثابت، وبعد قرار تحرير سعر الصرف، تم رفع معاش الكرامة لـ450 جنيهًا، ورفع قيمة معاش التكافل بواقع 20 جنيهًا لكل طفل.
ما سردته "وفاء" ليس إلا قشورًا مما تيسر من ذاكرة العمل في بلاط الشؤون الاجتماعية، مر عليها الأكثر قسوة، ومر عليها الأقل، مر عليها من يدعون الاحتياج، ومر عليها المحتاجون إلى المساعدة بشدة، ومر عليها من تأبى أن تتذكره من شده قسوة ظروفه، حيث جعلها تشعر بالعجز أمام مساعدته.
27 عاما كان ملخصها، كلمة "الحمد لله"، التي هونت على السيدة، وفاة الزوج في ريعان شبابه، وإعالتها لطفلين، بمعاشه وراتبها، ربما تناوب الشقاء والسعادة على أيامها، لكن العشرات الذين كانوا يتناوبون عليها بحكاياتهم يوميًا مع الفقر، كانوا بالطبع أشقى.
فيديو قد يعجبك: