"نفحات رمضانية" يقدمها الشيخ محمود الهواري: العشر الأواخر من رمضان (21)
كتب - محمد قادوس:
في حلقات خاصة لـ"مصراوي"، وعلى مدار الشهر الفضيل، يقدم الدكتور محمود الهواري، عضو المكتب الفنى لوكيل الأزهر، وأحد خطباء الجامع الأزهر، إطلالة رمضانية روحانية تتجدد مع أيام هذا الشَّهر الطَّيِّب، متعرضا لنفحات إيمانية قيمة ونصائح نبوية غالية، ومنها العشر الأواخر من رمضان
يقول الهواري، عبر فيديو خاص نشره مصراوى عبر صفحته الرسمية على فيسبوك:
شهر رمضان موسم الخيرات، والتنافس في الطاعات، وأعظم مواطنه ثلثه الأخير، العشر الأواخر منه، فهي ميدان التنافس الأعظم في العام كله، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه العشر حال عجيب؛ إذ تقول عائشة –رضي الله عنها-: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَى لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ»[متفق عليه].
وكان يزداد من الطاعات، ويجتهد ويفعل فيها ما لا يفعله في غيرها من الأيام، والذي يشهد بهذا زوجته رضي الله عنها، وهي التي رأت منه ما لم يطلع عليه غيرها، تقول عَائِشَةُ رضي الله عنها: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ[مسلم].
وهذا الاجتهاد الكبير في العبادة في هذا الزمان المبارك الذي خصه الله عز وجل بمزيد فضله، وجعل فيه ليلة هي أجل وأفضل وخير من ألف شهر، وهي ليلة واحدة، لكن من قامها حسبة لله، وتصديقا بموعوده، كان له من الأجر ما لا يحصله إلا في عمر طويل وبعمل كثير، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» أي: إيمانًا بما أَعَدَّ الله من الثواب للقائمين فيها، واحتسابًا للأجر، وطلب الثواب.
وقيام ليلة القدر إنما يكون بإحيائها بالتهجد فيها، والصلاة والدعاء؛ وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أَرَأَيْتَ إِنْ وافقتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: «قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي»[ابن ماجه].
فهذه العشر لها مكانتها ومنزلتها عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم وعند أصحابه رضوان الله عليهم، وكانوا يحرصون على العمل فيها، وكان لهم فيها هدي خاص.
ومن أهم أعمال العشر الأواخر من رمضان:
قيام الليل: وفي الحديث المتقدم الذي ساقته عائشة لتخبر عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام تقول إنه صلى الله عليه وسلم كان إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَى لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وما معنى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيا ليله؟ أو لم يكن يحيي ليالي رمضان منذ أول ليلة فيه؟
فالمعنى إذا أنه يقول أغلب الليل، أو الليل كله إلا قليلا، أو يقومه قياما خاصا على هيئة مختلفة.
وقيام الليل فضيلة في غير هذا الزمان، فإذا جمع معها زمان رمضان المخصوص بالخيرات، وإذا جمع معه العشر الأواخر المخصوصة بالأجور، أدرك الإنسان حينها أهمية قيام الليل في هذه العشر.
ومن الأعمال الجليلة في هذه العشر أن يوقظ الرجل أهله للصلاة، لا أن يدعهم لعاداتهم، ومألوفاتهم، وكأني بهذا العمل يعلي من مسئولية الرجل عن أهل بيته، وأنه الراعي الذي يتخير لهم ما يمونهم أجرا وثوابا، دون أن يكتفي بنجاة نفسه، أو ثوابها، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته، ودعوة الأهل للخير من الرعاية المطلوبة، ومن الأمانات المضيعة عند كثير من أبناء زماننا.
ومن أعمال العشر الأواخر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر شد المئزر كما في الحديث السابق، والمعنى أنه يعتزل نساءه في هذه العشر، وينشغل بالعبادة والطاعة؛ وذلك لتصفو نفسه لربه، فينشغل بملذات روحه، ليكون أقرب لسمو القلب إلى معارج القبول، وأزكى للنفس لمعانقة الأجواء الملائكية، واستقبال النفحات الربانية.
ومما ينبغي الحرص الشديد عليه في هذه العشر إن تيسر أن يقوم المسلم بالاعتكاف في المسجد، فقد كان هدى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعتكف في العشر الأواخر حتى توفاه الله، فيتفرغ لمناجاة ربه، وذكره، ودعائه، وروى البخاري أنه عليه الصلاة والسلام اعتكف في العام الذي قبض فيه عشرين يومًا.
وإذا كان الصيام وقاية للقلب من آثار فضول الطعام والشراب والنكاح، فإن الاعتكاف ينطوي على سر عظيم وهو حماية العبد من آثار فضول الصحبة والمخالطة وفضول الكلام وفضول النوم، وغير ذلك من الصوارف والموانع التي تفرق أمر القلب وتفسدُ اجتماعه على طاعة الله.
ومما يجدر التنبه عليه هنا أن كثيرًا من الناس يعتقد أنه لا يصح له الاعتكاف إلا إذا اعتكف كل أيام العشر ولياليها، وبعضهم يعتقد أنه لا بد من لزوم المسجد طيلة النهار والليل وإلا لم يصح اعتكافه، وهذا ليس صوابًا؛ إذ إن الاعتكاف وإن كانت السُّنَّة فيه اعتكاف جميع العشر إلا أنه يصح اعتكاف بعض العشر، سواء كان ذلك نهارًا أو ليلا؛ فالقاعدة الشرعية: «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها»
كما يصح أن يعتكف الإنسان جزءًا من الوقت، ليلاً أو نهارًا إن كان هناك ما يقطع اعتكافه من المشاغل، فإذا ما خرج لأمر مهم أو لوظيفة مثلاً، استأنف نية الاعتكاف عند عودته؛ لأن الاعتكاف في العشر مسنون أما إذا كان الاعتكاف واجبًا كأن نذر الاعتكاف مثلاً، فإنه يبطل بخروجه من المسجد لغير حاجة الإنسان من غائط وما كان في معناه، كما هو مقرر في موضعه من كتب الفقه.
وإذا كانت أعمال الطاعات كلها مشروعة في هذه العشر فإن مما يتأكد فيها قراءة القرآن بتدبر وتفهم، فهذا زمان نزوله، وأوان إكرام البشرية به، يقول الله تعالى: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ» [البقرة: 185]. فهذا شهر القرآن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدارس جبريل القرآن، وفي السنة التي توفِّي فيها قرأ القرآن على جبريل مرتين.
نسأل الله الكريم أن يوفقنا إلى طاعته ويستعملنا في مرضاته، ويسلك لنا مسلك الصالحين، ويحسن لنا الختام، ويتقبل منا صالح الأعمال، إنه جواد كريم.
فيديو قد يعجبك: