دهب بلا فوانيس.. المدينة الملونة تزداد صمتًا
معايشة وتصوير - مها صلاح الدين:
لا شيء يعلو عن الجبال المحاوطة للمدينة الملونة، الشوارع فارغة، الهدوء يغلف المكان، النخيل يشكل حزاما طويلا، البحر أمامه، والجبال بألوانها المتدرجة خلفه. تخرج ماريان بصحبة شقيقيها الأصغر والأكبر إلى الشارع، تلف شالها الأخضر حول زي البحر، تشق الهدوء بصوت أنثوي يملؤه المرح، "البلد دلوقتي بتاعتنا.. إحنا ملوك البلد"، تختم عبارتها بضحكات عالية، يقطعها مرور أحدهم.
تدرك ماريان أنها ليست وحدها في البلد خلال شهر رمضان، لكنها كانت على صواب إلى حد كبير.
دهب، تلك المدينة الصغيرة في جنوب سيناء، لا تشعل الفوانيس في شهر رمضان الكريم، ولا تتناثر في شوارعها أفران الكنافة والقطائف. على عكس القاهرة التي تبتعد قرابة 12 ساعة في حافلة السفر، تخلو شوارع المدينة السياحية من المارة في الصباح، وتمتلئ ليلا بسكانها الأصليين والمغتربين الذين يتعلقون بما تيسر من حبال الرفقة واللمة.
في الظهيرة، على الممشى السياحي الصغير، فردت الشمس أشعتها، وخفف نسيم البحر وهج حرارتها، على جانبيه، كانت جميع المطاعم والكافيهات التي يقع نصفها داخل البحر مغلقة، على أبوابها أقفال، حتى وإن كتب عليها "بيتك هنا.. أهلك هنا".
على الرغم من أن أصحابها لم يهاجروا، إلا أنهم قرروا أن يغلقونها على طيلة أيام الشهر الكريم، يقول محمد - عامل بأحد المطاعم: "دهب بتختلف في رمضان خالص عن تحت (هكذا يصف أهل المدينة القاهرة) بيقل الشغل، حتى إحنا بنقفل، وفيه ناس بتاخد أجازات".
جاء محمد دهب منذ 15 عاما لقضاء عطلة، ومن وقتها لم يقو على المغادرة. يقول الرجل: يأتي إلى هنا فقط من يرغب في الهدوء، من أُنهك من ضجيج الحياة وأراد أن يهدئ من روع روحه، ولأن دهب كالإدمان، من يقطع كل تلك المسافة ويأتي إليها لا يكف عن تلك العادة، حتى ولو في إجازة فقط ليومين، لكن محمد قرر أن تكون حياته كلها هنا، في دهب، يأكل من شهور صيفها، وينعم بهدوء شتائها.
يقول محمد أن أكثر الذين يتواجدون في دهب في رمضان هم المصريون، ولا تتحول المدينة إلى بلدة أجانب، فأحيانا يفضل الأقباط أن يأتون إليها في رمضان، لكنهم لا يستمتعون بالشكل المرجو من وجهة نظره، فأغلب الأماكن والأنشطة تغلق في رمضان، حتى أن دهب ليس بها حياة ليلية، المفتوح من الكافيهات يغلق في الثانية عشر ليلا، يصف محمد المدينة في رمضان قائلا: "دهب بلد أرياف بس سياحة، الناس بتنام بدري، دهب مافيهاش لا سهرات ولا دسكوهات".
يتمسك محمد ورفاقه بحبال رمضان في دهب، التي يتعدى تعداد سكانها الـ 5000 نسمة، ولا تتعدى نسبة الإشغالات في فنادقها في رمضان الـ 20%، يقيمون الموائد على الممشى السياحي، ولا يلزمون البيوت، يشتري كل مستلزمات رمضان التي يحتاجها أهل بيته، من السوبر ماركت، وسوق العسلة، ويشتري الفوانيس لأبنائه.
في سوق دهب المتفرع من الممشى، اتكئ سعيد، الذي بالكاد أتم عقده الثاني، على مسند أريكة عربية الطراز، داخل محل الأعشاب والعطور، يعمل به منذ عشر سنوات. جاء إلى دهب منذ زمن بعيد مع رفقته للعمل، اشتغل في فندق لمدة قصيرة، ومن ثم عرض عليه صاحب محل العطور العمل معه، ومن وقتها لم يخرج منه.
يحتمي "سعيد" من حرارة الشمس نهارا، بجدران محله الفارغ، لا يقيمون أي طقوس في رمضان لجذب الزبائن، فالبلد فارغة. وفي العصر، بعد أن تنكسر أشعة الشمس، يبدأ سعيد ورفاقه التحضير للإفطار، يطوفون الممشى وهم يوزعون أكواب العصير، وما إن يضرب مدفع الإفطار، حتى يتجمع الرفاق، في كل مرة في مكان مختلف، يتناولون الإفطار، ويلعبون مباريات كرة القدم.
تدب في البلد الحياة ليلا، لكنها سرعان ما تعود إلى الصمت ما إن تدق الساعة الثانية عشر صباحا، ينام سكان المدينة على صوت البحر، وحفيف النخيل، ويسهر منهم من يختار أن يأنس في أمان.
"تحت بيبقى في جو أسرة وعيلة.. لكن هنا الناس حلوة".. يجد سعيد في هدوء المدينة وصفاء أهلها عوضا عن اغترابه، وبعده عن الأجواء الرمضانية وسط العائلة. لا يأتي إلى هنا سوى من يريد لنفسه الراحة، وها هو قد وجد راحته هنا.
وسط جبل الطويلات، كانت "جهاد" تساعد زوجها في الإعداد لحفل المساء، تقوم بمهام بسيطة في إعداد المقاعد البدوية للوافدين ليلا، وترعى رضيعتها أيضا.
في نفس المكان، وقبل رمضان الماضي بـ 10 أيام، التقت زوجها هنا، وقررا أن يتزوجا، بدت حكايتهما كالروايات والأفلام، قررا الزواج في غضون 5 أيام، فقط أخبرا الأهل، وتزوجا في شقة كان يستأجرها ويعيش فيها "محمود" منذ سنوات، بعد أن أصبح عضوا في فريق العروض الترفيهية في المكان نفسه.
في داخل المنزل لا يختلف رمضان عن القاهرة في شيء، تعد هي الإفطار والسحور، وتجتمع مع الزوج يتناولان الإفطار معا، أحيانا يقيمان بعض العزائم لأصدقائهما.
بينما في خارج المنزل الأمر يختلف، بالنهار يعدون لاستقبال الوافدين، يتدرب هو على العرض الذي سيؤديه، وتقوم هي بترتيب المقاعد، وفي التاسعة مساءا، تبدأ العروض.
لا تمل جهاد من رفقة زوجها، ومشاهدته على المسرح الصغير كل ليلة، لكنها ربما تستأنس بالمشاهدين الذين يأتون لمشاهدته هو وزملاءه، يشربون أكوابا صغيرة من الشاي البدوي، وينصرفون في الحادية عشر.
داخل محل النجم الساطع، توسط "محمود" تحفه عربية الطراز، الغريب، أنه لم يكن من بينها فانوس رمضان، وحينما سألنا الرجل الذي يبلغ من العمر 37 عاما، بينها 17 عاما قضاها في دهب، رد علينا: "هنا مافيش أجواء رمضان، محدش بيطلب فانوس، الجو مش زي القاهرة".
المحل خال، بينما يحرص محمود على فتحه في الصباح، لا يغلق مثل غير، يتخذه محرابا يصلي ويقرأ القرآن فيه، لا يحاول استقطاب الزبائن إذا شاهد أحدهم يمشي في السوق حتى لا يشعرون بالقلق.
وقت الإفطار يحرص على تناوله مع "الاستاف" (طاقم العمل)، وأن يلبي العزائم التي تختلف أجوائها أيضا عن القاهرة. يفترش أصحابها الموائد على الشاطئ، الذي استمدت دهب من لون رماله اسمها، هكذا يمضي عليهم شهر رمضان، في انتظار الموسم السياحي الجديد، بعد العيد.
فيديو قد يعجبك: