مقعد خالٍ تملؤه السيرة.. مصراوي يتناول الإفطار على مائدة أسرتي شهيدين
كتبت- نانيس البيلي:
خلى مقعدهم على مائدة الإفطار.. حل الشهر الكريم دونهم، غابت أجسادهم بيد الإرهاب، ارتقوا شهداء عند ربهم، ترك فقدهم بصماته على نفوس ذويهم، أضحى ألم الفراق يُعشش بينهم، بينما حضرت أرواحهم في حكايات وسيرة لا تكُف الألسن عن ذكرها.
"خالد المغربي" و"مصطفى عبدالعزيز" نقيب وعريف بالقوات المسلحة، جادا بروحهما دفاعًا عن الوطن، كلاهما في أوائل العشرينيات من العُمر، أحدهما الابن البكري والثاني آخر عنقود الأسرة. تناول "مصراوي" الإفطار مع أسرة أحدهما، ونقل أجواء مائدة إفطار الآخر.
4 سنوات مرت بثقل على نفس أسرة الشهيد مصطفى عبدالعزيز، الذي استشهد في جمعة المصاحف، بـ18 طلقة اخترقت جسده، بعدما فتح متظاهرو الإخوان النار على سيارة جيش كان يقودها متوجهًا إلى كتيبته بأبو زعبل.
على مائدة الإفطار، انتقلت والدته بين صوره المعلقة على الحائط وهي تناجيه "كان وردة زرعتها وهي بذرة وفضلت أزرعها وأرويها، بس فجأة اختفت، هو حياتي ونور عيني وزهرة عمري كله.. كان حلم بكرة قبل العدو ما يغدر بيه".
قبل دقائق من أذان المغرب، توجهنا إلى زيارة الشهيد في المقابر القريبة من المنزل كما اختار الأب، ما إن دخلنا حتى سار الرجل الخمسيني رفقة ابنه الأصغر وصديق الشهيد، وهم يرددون الدعاء والذكر.
كان المشهد مهيبا، أمام مقبرة الابن الراحل، بعدما فرغ الجميع من قراءة الفاتحة، وقف "عبدالعزيز" يتحدث مع فلذة كبده الشهيد "حتى لو فات كام رمضان مبتتنسيش لحظة، كل مدى وجرحك بيوسع.. أنا بييجي عليا وقت ببقى في أشد الاحتياج ليك"، تتوقف الكلمات في حلقه "عاوز أقوله حاجات كتير"، تلمع عيناه بالدموع، يخفض رأسه في أسى، قبل أن يطالبنا بالانصراف.
أمام المنزل الواقع بمنطقة مساكن السوق في شبين القناطر بمحافظة القليوبية، وقف "عبد العزيز" يتحسس سيارة ميكروباص، اشترتها الأسرة من المبلغ المالي الذي صرف لهم من الجيش بعد استشهاد نجلهم "قولنا نفتح بيها البيت من بعده"، بينما يتناوب هو وابنه "محمد" على العمل عليها.
على أعتاب البيت، في شقة متواضعة بالطابق السابع، يستقبلك الشهيد مصطفى، يطل من لافتات كبيرة معلقة في واجهة باب الدخول، تحمل آية عن الشهادة والشهداء.
حول "طبلية" خشبية جلست الأسرة "الأب، والأم، والشقيقة الصغرى لبنى، والشقيق الأصغر محمد، بينما غادرت الشقية نورا إلى منزل زوجها قبل عامين.
مع رفع أذان المغرب في التلفاز وفي ميكروفونات المساجد القريبة، كانت الأم تتأمل صورة فلذة كبدها المعلقة على الحائط "هو معايا في رمضان، مش ضروري يكون معايا بجسده هو معايا بروحه، الناس كلها مش شايفاه أنا شايفاه".
على الماء، كسرت الأسرة صيامها، وبينما توزع "لبنى"، ابنة الـ21 عام، عصير فواكه على الصائمين، تتذكر "سناء" عادة أحبها نجلها الشهيد، في أعوام خلت كان مشروب السوبيا ضيفا دائما على مائدة إفطارهم، يحضره لهم الابن الراحل "كان بيحبها، وهو اللي بيجيب السوبيا للبيت كله".
في أول رمضان يهل على الأسرة بعد استشهاده، أحضرت الأم مكونات السوبيا، أعدتها في المنزل، اختارت أن تتصدق لفلذة كبدها بشيء أحبه "بقيت أفرقها على روحه في الشارع"، بعدها ربما حُرمَت على البيت "ولا دخلت عندنا ولا بتتعمل ولا حتى إخواته بيجيبوها من بره".
كان "مصطفى" فاكهة الأسرة، يحوز رضا الكل، كثير الضحك، لذا حين فقدته العائلة غادرت بهجتهم. "عالفطار الدنيا مكنتش تبقى ساكتة وهو قاعد، الأكل مكنش يبقاله طعم" يقولها الأب.
وتذكر "لبنى" أنه كان يشاكسهم وقت تناول الطعام "ساعة الفطار لو في إيدك حتة فرخة يهزر ويقول أنا مش عايز أكل، ويضحك ويقوم ناتشها مني".
كانت "طبلية" الإفطار تمتلئ بأصناف من المحشي "كوسة، فلفل، باذنجان"، تشير "سناء" إليها وتتذكر أن "مصطفى" طلب منها في آخر إجازة له أن تصنع له محشي، وقبل يومين من استشهاده هاتفها وأخبرها أنه سيظل في كتيبته "قالي عشان عندنا شدة طوارئ"، بينما طلب أن ترسل له الطعام مع والده صباح الجمعة "بس يومها مات، ملحقش ياكله".
تتأمل الأم خاتم ترتديه في يدها اليسرى، تخلعه من إصبعها، تقبله وتقول إنها يخص "مصطفى"، تتوقف قليلا قبل أن تضيف: "كان دايمًا بيقول لي إنه يتمنى يتزوج وينجب طفلة يسميها "حبيبة"، وبعد استشهاده لقيته "الدبلة" دي بين أغراضه، مكتوب عليها حبيبة مصطفى "مقلعتهاش من يومها".
بثقل، نهضت الأم من مكانها، تحركت إلى صورة ابنها الشهيد المعلقة على الحائط، أخذت تحدثه "يا ابني يا نور عيني، بييجي عليا أوقات بقول انت خسارتك في الموت، بس انت سايب سيرة جميلة". تلمع الدموع في عيناها، تمسح بكفها على وجهها وتقول "ألف رحمة ونور تروحلك، إنت زينة شباب الجنة، ربنا يجعلك في جنة النعيم والفردوس الأعلى، عاوزة أقولك حاجات كتير أوي، بقولها بقلبي مش بلساني".
في بيت خالد المغربي.. "دبابة"
لم يكمل خالد المغربي عامه الـ24 وقتما ارتقى شهيداً في معركة البرث يوليو الماضي، كان الشاب الذي استشهد بعد 3 أشهر من زفافه "بيدخل البهجة والسرور على أهله" حسبما تقول شقيقته "دينا المغربي". بينما يمر أول رمضان عليهم بدونه، "رمضان صعب من غير خالد أوي، ربنا اللي عالم دخل علينا إزاي وخالد مش موجود".
على مائدة الإفطار، في منزلهم بمدينة طوخ بمحافظة القليوبية، تمُر اللحظات بثقل على أسرة "خالد"، الأم المكلومة زهدت الطعام بعد استشهاد فلذة كبدها، ازداد المرض عليها "فمبقتش أفطر غير عيش وجبنة قريش".
إلى جانب الأم يجلس شقيقه "أحمد" وشقيقته "دينا" يوزعون نظرات الأسى والحزن، "إحنا بنعمل فطار بنفضل نبص عليه ونعيط" تذكر دينا بصوت غلبه البكاء.
في 7 يوليو الماضي، استشهد "خالد المغربي" مع 10 من أبطال الكتيبة "103" صاعقة من بينهم الشهيد "أحمد منسي" في معركة بطولية تصدوا خلالها لهجوم إرهابي من 40 تكفيريًا على كمين البرث برفح في شمال سيناء.
لم يزل "أحمد" 29 عاما غير مصدق رحيل "خالد"، منذ استشهاده انتابته حالة نفسية سيئة جراء فقدانه أخيه، تروي "دينا" أنه كان شديد التعلق به، وفي أول أيام الإفطار تمتم بكلمات حزينة مع والدته "كان بيقولها إنه بيتمنى خالد يرجع يفطر معانا حتى أول يوم رمضان"، وتشير إلى مواظبته على زيارة قبر شقيقه وحيداً في ساعات الليل المتأخرة، "كل يوم يروح الترب بالليل، حتى في عز التلج بيفضل قاعد فترة طويلة هناك".
أحّب "خالد" البطولة والشهادة، دخل عالمها صغيرًا، كما رحيله، فتروي والدته وشقيقته اهتمامه بلياقته البدنية منذ صغره وحلمه في الالتحاق بالكلية الحربية "كان مهتم أوي بصحته الجسمانية، والجيم عنده أساسي"، وتضيف "دينا" 33 عاما أنه كان يذهب إلى صالات الألعاب الرياضية في رمضان إما قبل أو بعد الإفطار "وكان بياخد مكملات غذائية بتاعة الرياضيين".
"كان دايما يقولي يا أم الشهيد" تقول والدته، وتضيف أنها كانت تعيش في قلق دائم وقت خدمته في شمال سيناء، تنهار كلما استمعت لحديث أم أو زوجة شهيد عبر التلفاز، وأنها كانت تتعجب من حديثه الدائم عن الشهادة "يقولي أنا يا ماما ما بخافش، صحابي كل يوم بيستشهدوا قدام عيني وبلمهم".
بعد استشهاده، تكشفت للأسرة حكايات عن "جدعنة" ولدهم، حكمته رغم سنه الصغيرة، وكيف ترك أثرًا حسنًا في نفس من حوله، أخذوا يتابعون فيض المحبة المُخبّأة داخل قلوب من تعاملوا مع صغيرهم "عرفنا الخير الكتير اللي كان بيعمله، غارمات بيسد عنهم دينهم، ناس بيساعدهم في دفع إيجار الشقة.. كان بيعمل كل ده بينه وبين ربنا"
لا تنسى "دينا" الرجل المسن الذي أخبرهم بعلاقته بابنهم الراحل، عندما شاهده يجلس حزينا بأحد الشوارع، بادر بسؤاله عن سبب ضيقه، فأخبره برغبته في الذهاب مع ابنه ليخطب له بينما لا يملك ثمن شراء حذاء جديد بدلاً من المهترئ الذي ينتعله "خده واشتراله واحد وقاله متروحش تخطب لابنك إلا بجزمة جديدة"، وتضيف أن الرجل أخذ يبكي وهو يروي لهم "وقال أنا نفسي الجزمة تفضل سليمة ومتبوظش، لأنه هو اللي جابهالي".
ظهر يوم الحادث، اجتمعت الأسرة كعادتها، الابنة ووالدتها يستمعون لخطبة الجمعة. حينها حضرت الخالة، بوجه حزين أخبرتهم الفاجعة، لم تصدق "دينا"، هرولت صوب الهاتف، التقطته بهستيريا البكاء، بتوجس سألت زوجته "رضوى"، اطمأنت قليلاً حينما نفت الخبر المشؤوم "مكنتش لسه عرفت، الكل خبى عليها لأنها كانت حامل". بينما خارت قواها حينما سمعت والدها يؤكد المصاب "لقيت بابا طالع عالسلم بيكلم صاحبه وبيقول إنا لله وإنا إليه راجعون هتجيبوه امتى".
أول 13 يوما من رمضان قضاها "خالد" بخدمته في شمال سيناء، وفق ما تذكر "دينا"، بعدها عاد إلى منزل زوجته في مدينة طوخ "وفطروا معانا يومين"، تتذكر أكلته المفضلة التي كانت تجهزها له "كان بيحب ورق العنب والبط أكتر حاجة، على طول كنت أحب أعملهومله".
كأنها البارحة، تتذكر "دينا" حقائب لوازم رمضان التي اشتراها "خالد" من أحد المولات بالقاهرة، وطلب منها أن تفرقها على الفقراء والمحتاجين، بينما سافر إلى خدمته بشمال سيناء "جاب كمية كبيرة من شنط رمضان، ووزعتها أنا ومراته".
وتتحدث شقيقته عما شاهدوه بعد أيام قليلة من استشهاده "الطير اللي كان بيطعمه بإيده حزنت عليه وماتت بعده بيومين.. العرايس اللي كان جايبها لأطفال العيلة اتكسرت، بعد ما مات بقوا يبكوا ويقولوا العرايس اللي كان خالو خالد جايبهالنا اتكسرت".
تفتخر الأم كثيراً بسيرة نجلها الشهيد، بزهو تذكر مكالمة أحد قاداته لها بعد فترة قصيرة من التحاقه بالصاعقة "قالي ابنك بطل ومخلص في شغله"، رغم ألم الفراق تواسي الأم نفسها "خالد مبيتنسيش وفاكرينه العمر كله".
فيديو قد يعجبك: