هكذا كان اعتكاف النبي في العشر الأواخر من رمضان
كتب – هاني ضوه :
كل واحد منا يشعر من حين لآخر أنه في حاجة إلى عزلة عن هموم الدنيا ومشاغلها ليختلي بربه ويتقرب إليه فيستعيد طاقته الروحية والإيمانية من جديد، وليس هناك وقت أفضل من شهر رمضان المبارك حيث النفحات والبركات، وليس هناك أفضل من الأيام العشر الأواخر من هذا الشهر الكريم التي حثنا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم على اغتنامها وتكثيف العبادة فيها.
ومن العبادات المهمة التي يغفل عنها كثير من الناس وكان النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله حريصًا عليها خاصة في العشر الأواخر من رمضان هو وأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن عبادة الاعتكاف التي لازمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
والحكمة من الاعتكاف أنه عُزلة مؤقتة عن أمور الحياة، وشواغل الدنيا، وإقبال بالكلية على الله تعالى، وانقطاع عن الاشتغال بالخلق، خصوصاً في ختام شهر رمضان، فهو متمم لفوائده ومقاصده، متدارك لما فات الصائم من جمعية القلب، وهدوء النفس والانقطاع إلى الله تعالى ، ولهذا قال العلماء: الاعتكاف هو: قطع العلائق عن كل الخلائق للاتصال بخدمة الخالق .
وعن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: "إنَّ مثل المعتكف مثل المُحْرم ألقى نفسه بين يدَي الرحمن فقال: والله لا أبرح حتى ترحمني".
ولذا فإن الاعتكاف يكون فيه التفرغ للعبادة من صلاة وذكر وتلاوة وغير ذلك، وهذا لا يتم إلا بالعزلة عن الناس، وهذه العزلة لا تتحقق إلا بمكان خاص يخلو فيه المعتكف الذي يستحب له أن يكثر من نوافل العبادات، ويشغل نفسة بالصلاة وتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدعاء وغيرها من العبادات التي تقرب العبد من ربه عز وجل.
والاعتكاف هو سنة مؤكدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن ذلك تقول أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: "أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتَّى توفَّاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده".
أما عن كيفية اعتكاف النبي صلى الله عليه وآله وسله فكان بأبي هو وأمي إذا نوى الاعتكاف يَجعَل له قُبَّـة يعتكف فيها، والقُبَّـة هي عبارة عن خيمة من صوف أو وَبر، يُوجد بِداخلها سريره وفِراشه وحاجياته التي يحتاجها.
وفي الليلة التي يُريد الاعتكاف فيها صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله يُصَلي الفجر ويدخل قبته وحده، لِيَتَسنّى له الاختلاء لعبادة الله تعالى والصلاة والذكر، ولا يَخرج من اعتكافه إلا لحاجة الإنسان.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُخرِج رأسه من المسجد إلى بيت أم المؤمنين السيدة عائشة رَضِيَ الله عنها، فتقوم بِغسله وهُوَ في المسجد وَهِيَ حائض، ولم يَأتي زوجاته ولم يُباشرهن وهو معتكف ولا حتى بِقُبلة.
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان معتكفاً ألا يعود مريضًا ولا يشهد جنازة، ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة ضرورية جدًا، وعن ذلك تقول أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: "السنة على المعتكف أن لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه".
وعن الأيام التي كان الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله يعتكف فيه يروي لنا الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري رضيَ الله عنه أن النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله يحث صحابته الكرام على الاعتكاف في رمضان فيقول: "إنَّ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم - كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عامًا حتَّى إذا كان ليلة إحدى وعشرين - وهي اللَّيلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه - قال: "من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، وقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها –يعني ليلة القدر-، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر" فمطرت السَّماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد فبصرت عيناي رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم - على جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين.
ولم يكن الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان أو غيرها حكرًا على الرجال فقط، بل كانت النساء كذلك يعتكفن في العشر الأواخر من رمضان، وروت أم المؤمنين عن عائشة رضيَ الله عنها فقالتْ: "كان النَّبيُّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنتُ أضرب له خباءً فيُصَلِّي الصبح ثم يدخله، فاستأذنت حفصة عائشةَ أن تضرب خباء فأذنتْ لها فضربت خباء، فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباء آخر فلمَّا أصبح النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى الأخبية فقال: ما هذا؟ فأُخبر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "آلبر تُردن بهن؟ فترك الاعتكاف ذلك الشهر ثم اعتكف عشرًا من شوال".
وليس لمدة الاعتكاف حد محدود في أصحِّ أقوال أهل العلم؛ فللإنسان أن يَعتكِف العشر الأخيرة من رمضان كلها، وهذا أفضل الاعتكاف، وهو اعتِكاف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وله أن يَعتكِف بعضها، وله أن يَعتكِف يومًا وليلة، وله أن يَعتكِف لليلة كاملة، وله أن يَعتكِف بعض يوم أو بعض ليلة كساعة أو ساعتين، أو بين العشاءين، أو من العصر إلى المَغرب، أو من القيام الأول إلى الثاني في العَشر الأواخِر، كل ذلك سائغ؛ لأن الشرع لم يُحدِّد وقتًا لأقلِّه ولا لأكثرِه، فما اعتبِر اعتِكافًا في اللغة صحَّ شرعًا، مع اعتبار النية في ذلك كغيرِه من العبادات.
فيديو قد يعجبك: