إعلان

بين التوقف و"التيك أواي".. كورونا يُخيم على موائد رمضان

01:01 م الجمعة 22 مايو 2020

إفطار جماعي لفرقة المسرح بكلية التجارة عين شمس الع

كتبت-رنا الجميعي:

مُباركةٌ في شهر الكرم، هي سرّ المودة،كُلّما امتدت طال أثرها القلوب، وفي أي مكان وُجدت تُدرك معنى الجود والسخاء، ووصل القلوب بالقلوب، تحتاج إلى ألف يد ويد، فلا تعرف للوحدة أو النبذ مكانًا، بل تُوسع للأُنس والمحبّة بدلًا عنهم، فكانت المائدة في شهر رمضان، أيًا كان مكانها، في الشارع أو البيت، لكنّ منع التجمعات على إثر انتشار فيروس كورونا المستجد جاء ليُوقف مشهد الموائد العامرة، فانفضّ الجمع، البعض من أصحاب تلك الموائد يفتقدها التي لطالما ازدحمت بأهلها، أو بعابري السبيل، وعلى جانب ثاني حاول آخرون من أهل الكرم إيجاد طرق بديلة للعطاء حتى نهاية الشهر.

على مدار عشرين سنة امتدّ الإفطار الجماعي لطلبة فريق المسرح بكلية التجارة بجامعة عين شمس، منهم ثماني أعوام قضاها أحمد حرز الله في كنف تلك اللمّة، كانت واحدة ضمن خطط الفريق، يضعها في حُسبانه قبل شهور من بداية رمضان، حيث يتجمّع فيها طلبة فريق المسرح والخريجين، الذي داوم كثيرين منهم على حُضور تلك "العزومة"، وغالبًا ما كانت تحدث داخل أروقة كلية التجارة.

لازال يتذكر حرز الله أيامه الأولى ضمن طلبة كلية تجارة "كنت محوّل من جامعة بنها مخصوص عشان أبقى في فريق المسرح"، وما إن صار واحدًا منهم تعرّف على طقوس الفريق "ومن بينها كانت العزومة دي، وعرفت ساعتها إن فريق مسرح تجارة أول فريق يعمل العزومة دي ولازم يلمّ الخريجين"، فيُعتبر خريجي مسرح تجارة بمثابة آباء

روحيين للفريق "الخريجين هما اللي علمونا إن احنا أسرة مش مجرد فريق"، فلا زال كثير منهم على تواصل معهم، على رأسهم المؤلف محمود جمال، الحاصل على جائزة ساويرس العام الماضي، لأفضل نص مسرحي.

1

يفتقد حرز الله تلك اللمّة كثيرًا، كان هو المُبادر في صنع العصائر، فيقول ضاحكًا "معروف أنا اللي بعمل العصاير، دا حتى لو حد طلب إنه يعملها يتقال لا دي مسئولية حرز الله"، الآن أبواب كلية تجارة مُغلقة، ضمن قرار بإغلاق الجامعات على مستوى مصر بسبب كوفيد -19، لا صوت فيها للضحكات ولا حسّ اللمّة.

يتمنى حرز الله أن تكون تلك مُجرد عثرة، وأن العام القادم سترجع العادة لمسارها، فعلى أهميتها لم تكن اللمّة مُجرد إفطار جماعي للطلبة والخريجين، بل كانت وسيلة لمدّ حبل الوصال، كما هي سبيل لإثبات الانتماء للمسرح، فلم يكُن الخريجين مُنقطعين عن حال الفريق، بل دومًا يُساعدون بكل الطرق، من بين ذلك ما أعلنه

محمود جمال على فريق المسرح العام الماضي، وهو التكفّل بنفقات دراسة طالب للالتحاق بمعهد فنون مسرحية "فيه معهد موازي للي سنه بيعدي الـ21 سنة، ودا بيحتاج فلوس، واحنا هنا في الفريق بنقعد سنين كتير حبًا في المسرح وبتضيع فرصتنا للدخول قبل السن ده".

أمام محلّه بخان الخليلي يقف الحاج عصام رشاد مُستغربًا، كيف كانت تتراص الموائد فيه جنبًا لجنب العام الماضي، فيقول لنفسه بحسرة "احنا بنتأدب"، يقصد قُدرة الله على تبديل الحال لحال.

كانت الموائد تتراص جوار بعضها، حوالي سبعة تُجار داخل خان الخليلي كانوا يعكفون على إقامة موائد الرحمن "متبقاش ولا واحد السنة دي"، المحال تُغلق من الخامسة مساء إلتزامًا بقرارات مجلس الوزراء، فيما يستوحش المشهد الحاج عصام، أحيانًا يخال إليه سماع صوت الصواني وهي توضع، وأصوات صُبيانه ينادون الناس "تعالى

افطر".

وأوقاتًا أخرى يتذكر كيف بدأ إقامة المائدة منذ 22 عام "وقتها كان عندي محل صغير ولقيت واحد عامل مائدة، سألته أشارك معاه بنصها، وكان متجوز ست طيبة بتعمل الأكل كله"، وافق التاجر على مُشاركة الحاج عصام، ومنذ ذلك اليوم ذاق طعم سعادة غريبة عليه "فيها سعادة إلهية، شوفي أهو الواحد بيتعب ويصرف ومع ذلك بيكون سعيد"، تعلّم حينها كيف يُشمر عن ساعديه ويُقوم بفرش المائدة، ورصّ الأطباق "حبيت الموضوع ولما مات بقيت أعمل المائدة لوحدي".

2

منذ ذلك الحين كبُر الحاج عصام، صار له ثلاثة

طوابق لبيع الأحجار الكريمة داخل خان الخليلي، وأصبح يصرف على المائدة بمفرده "ومنعت التبرعات، اللي عايز يتبرع يروح لمائدة تانية"، أحبّ السعادة التي تأتي له من فعل الخير، وهو يرى مشهد المائدة مليئة بأصناف الأكل، ويتجمّع عليها الناس من عابري السبيل والزوار الدائمين.

ورُغم أن مشهد الموائد في رمضان قد انتفت تمامًا، لكنّ البعض حاول استبدالها بأشكال أخرى؛ في الغردقة علّق الحاج سيد عيسى يافطة مكتوب عليها "خُد فطارك وافطر في البيت"، تحوّلت المائدة إلى "تيك أواي"، وصار الأكل يُعبّا داخل حقائب يأخذها أصحابها، في طابور يبدأ من الظهر وحتى العصر "لحد النهاردة بنفطر حوالي 600 شخص في اليوم".

لم يرغب الحاج سيد في انقطاع عادته التي بدأها منذ 30 عاما "هو الشهر اللي بنحب نخليه لله"، لازال عقله يتذكر الموقف الذي دفعه لإقامة المائدة "كنا عاملين أكل وقاعدين نفطر، بعد ما فطرنا فضلت بواقي أكل، جم ناس بعدنا ياكلوا منها"، وتكرر ذلك الموقف لليوم الثاني "ساعتها جبنا أطباق زيادة عشان الناس تاكل معانا ومن وقتها بدأت العادة"، كانت المائدة طقس أصيل في منطقة الحسين بالقاهرة، التي عاش فيها الحاج سيد قبل أن يسكن بالغردقة.

3

حاول الحاج سيد الاحتياط بسبب الكورونا، صنع ممرًا ينتظر فيه الناس على مسافات للحصول على الطعام، لكنّه لاحظ أن الأعداد تزيد عن السنوات الماضية "الناس سايبة بيوتها بتدور على لقمة"، كما أن كميات الطعام المطبوخ تنتهي بحلول الثالثة عصرًا "فيه ناس بتيجي تقف من 10 الصبح مستنيين الوجبة"، بينما يبدأ الطباخ في طهي الطعام من الثامنة صباحًا، فيما يتعاون أبناء الحاج سيد وجيرانه في بقية المهام "بنحط أكياس بلح وتمر ومخلل، ونخلص ده على 11 الصبح"،ثم تعبئة الأرز والخضروات في أكياس، يقول حسين الابن الأصغر، كل ذلك يتم مع الالتزام بالإجراءات الوقائية "بنكون لابسين الكمامات مع الجوانتي".

كان هناك حوالي عشرة موائد خلال الأعوام الماضية، هذه السنة لم يظلّ سوى ثلاثة رجال يقومون بتوزيع الوجبات، لازال الحاج سيد يُوزع الطعام حتى نهاية الشهر الكريم "كنا بنخلص يوم 27، دلوقت بسبب زيادة الأعداد مش هنخلص إلا آخر يوم"، على عتبة المحلّ يجلس الحاج سيد حتى الثالثة، ينتظر انتهاء توزيع الطعام، فيما يشتاق لمنظر المائدة العامرة كما كانت في السابق "كان الشارع كله يفرش، ناس تعمل خيم واللي يعمل صوان واللي يجيب أكل من البيوت، كان الخير كتير".

لم تنقطع عبلة عاطف عن تلك العادة أيضًا، قبل رمضان اجتمعت عائلتها للنقاش "وملقيناش وقت أهم من ده اللي نقدم فيه الأكل، ما بالك لما نفرّج كربة الناس في وقت زي ده"، تحمد عبلة ربها على أن عائلتها استمرت في عمل المائدة التي بدأوها منذ سبع سنوات في منطقة إمبابة، ولكن بشكل يُناسب أزمة انتشار فيروس .

فكّرت العائلة في تجهيز شُنط رمضان أسبوعيًا، وحين احتاروا في تقديمها مطبوخة أم غير مطبوخة "اتصلنا بالناس اللي بياكلوا عندنا، واللي عرفنا عن طريق مساجد إن حالتهم صعبة"، وكانت إجابة الغالبية أنهم يُحبون طهيها في بيوتهم، وبالفعل صارت العائلة تُعدّ تلك الحقائب أسبوعيًا لأفراد وصل عددهم حتى نهاية الشهر 240

فردا، بعد أن كان في السنوات الماضية ثمانين فردا.

4

تحرص العائلة على النظافة والتعقيم جيدًا "علطول بنمسح البيت بالكلور"، كما يُعدّون المواد الغذائية "واحنا لابسين جوانتيات في إيدينا"، كما يتعمّد الرجال شراء المواد المُعلبة بقدر المستطاع، أما عن تسليم الحقائب فتُنظّم عبلة الأمر جيدًا، تسأل الأفراد أولًا "يحبوا ييجوا ياخدوا الشنطة ولا توصلهم لحد عندهم"، فإذا قدموا للمنزل لا يأتون في نفس التوقيت منعًا للازدحام "بخلي كل حد ييجي في معاد غير التاني"، وإذا ذهبت عبلة لتوصيل الشنط بنفسها "بقوم أحط الحاجة على الباب وأتصل بيهم أقولها إنها وصلت".

التشارك سمت أساسي عند عائلة عبلة، فلا تقوم الأسرة بالتكفّل بشراء المواد الغذائية وحدها، بل تُجمّع التبرعات من الأقارب والأصدقاء، ثم يقوموا بحساب عدد أفراد كل أسرة مُحتاجة "وعلى حسب عدد كل أسرة بنعمل شنطة تكفيهم"، ثُم يقومون بتجهيز الشنط مرة أخرى للأسبوع التالي وهكذا "عشان مش عايزين الناس تيجي تاكل وجبة وخلاص، عايزين ميبقوش محتاجين طول شهر رمضان".

ليس ذلك فحسب، بل يقع على كاهل عبلة سؤال كل أسرة فيما أعجبهم من المواد الغذائية "بتصل بيهم أسأل كل حد فيهم عن الأكل لو فيه حاجة ضايقتهم عشان منكررهاش تاني"، تُحبّ عبلة فعل ذلك "أنا كنت بنزل جمعيات واتعلمت أتعامل مع الناس"، بالفعل يُجيبها البعض عن سؤالها "فيه ناس تقولي الولاد حبوا اللحمة أكتر، أو العصير كان كوكتيل وهما بيحبوا حاجة تانية"، أما البعض الآخر "فيه ناس تتكسف وتدعي وتشكر ويشوفوا أي حاجة بنقدمها حلوة".

تستعذب عبلة ما تقوم به، لا تكلّ منه ولا تملّ، تعلم جيدًا أن أزمة الكورونا زادت أحوال الفقراء سوءًا، لذا تُحاول التواصل مع جميع المحتاجين ممن يحصلون على الحقيبة الغذائية "عشان أعرف لو فيه حد ظروفه صعبة نُزقّ معاهم"، فهناك إحدى السيدات التي علمت منها أن لديها ثلاث بنات توقفن عن العمل بسبب الأزمة التي تسبب فيها انتشار الفيروس "وبقت الأم بس هي اللي بتصرف على البيت، ودخلها ميجيبش 700 جنيه في الشهر".

ضاقت النفوس بالأزمة، لكنّ عبلة وعائلتها تُثبت أن أوجه الخير كثيرة، ولم تنتهِ في ظل انتشار فيروس كورونا، ومنع الموائد حرصًا على صحة الناس في الشهر الكريم، يكفي أن تذكر سيدة أن فتاة اهتمت برأيها في الطعام المُقدّم لها، فتنفرج ملامح السيدة مُندهشة من السؤال في ظل تلك الأجواء الصعبة قائلة "احنا عمر ما حد قدّرنا بالمنظر ده".

اقرأ أيضا:

بالصور- إفطار جماعي لطلبة وخريجي كلية تجارة.. ٢٠ سنة في حب المسرح

جاوب واكسب مع فوازير مصراوي , للمشاركة أضغط هنا سارع بخروج زكاة الفطر _ زكاتك هتوصل للمستحقين مصراوي هيساعدك أضغط هنا

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان