إعلان

"عبد الناصر" ذهب لزيارة أصدقائه بـ"الروضة".. فمات وأصيب طفله

02:54 م الخميس 30 نوفمبر 2017

كتب- محمد زكريا:

الخميس الماضي، استقبل عبد الناصر سلامة مكالمات من أصدقاء، يدعونه لزيارة يتناول فيها الغداء صحبتهم ويصلي الجمعة في قريتهم الروضة.

في البداية أرجأ عبد الناصر عرض أصدقائه ليوم آخر، بدعوى انشغاله يوم الجمعة. لكن إلحاح من اعتاد قضاء يوم معهم منذ سنوات، دفعه إلى تبديل قراره.

صباح الجمعة، استيقظ عبد الناصر من نومه باكرا. أيقظ ابنه الأصغر، عبد الله ذو الـ14 عاما، ليصحبه في زيارة إلى القرية التي تبعد 20 كيلو مترا غرب العريش، مدينة الأسرة بمحافظة شمال سيناء. لكن "سَبني نايم، عكس كل زيارة كان بياخدني معاه" يقولها رائد، الابن الأكبر لعبد الناصر.

باتجاه قرية الروضة، التي تعد أحد معاقل الطريقة الصوفية الجريرية بشمال سيناء، توجه عبد الناصر وطفله بينما تملؤهم السعادة.

صورة-1

في نفس الوقت، كان رائد أفرغ من نومه، توضأ وانطلق إلى مسجد يقيم فيه الصلاة.

بالجامع، وصلته مكالمة من والده في حوالي الـ12 ظهرا، غرابة ارتسمت على وجه الأستاذ بجامعة العريش، قطع مجلسه بين المصلين ورد على الهاتف، قبل أن تصدمه كلمات أبيه: "يا ابني أنا في مسجد الروضة ومصاب بطلق ناري في رجلي، اتصل بالإسعاف وتعالى بسرعة".

قطع رائد المكالمة في اللحظة، تواصل مع هيئة الإسعاف، بينما استأجر سيارة تنقله إلى القرية التي تتبع مركز بئر العبد.

في الطريق من مسكنه بالعريش إلى الروضة، تواصل رائد مع والده تليفونيا، طمأنه عبد الناصر باستقرار حالته "كان مصبرني إنها إصابة في رجله مش خطيرة على حياته"، أعاد الابن الاتصال بأبيه "قالي: أنا طلعت برة الجامع ومستنيك"، وقبل حوالي نصف ساعة من وصول رائد للقرية "بتصل بوالدي لقيت تليفونه غير متاح".

رست عقارب الساعة عند الواحدة، اخترق رائد القرية التي يتصاعد منها الدخان، هرول باتجاه المسجد، هاله المنظر؛ أناس تتحرك في الأرجاء بهلع، عويل النسوة وصراخ الأطفال، جثث تختلط دمائها برمال صفراء، 7 سيارات محترقة أمام المسجد وقوات أمن تتواجد بكثافة.

لف رائد حول المسجد الملطخ بالدماء، تعالى صراخه وظل ينادي "أبويا فين؟.. يا حج عبد الناصر؟"، عطلت المصيبة عقله "بقيت أي حد أقابله أقوله: ساعدوني، أنا رائد ابنه الكبير"، قبل أن يدلف بوابات المسجد الذي حُوّل بفعل القتل إلى ساحة ذبح.

على أرض المسجد، لا قدم لحياة، جثث تتراكم شوهها رصاص، لم يفرق بين أجساد رجال وأطفال. جدران تخترقها الطلقات وجلابيب تشرب أبيضها لون الدماء.

تواصل مع عدد من المسعفين، قدم وصفا لوالده وشقيقه وشرح لهم ما وصله عبر الهاتف عن حالة الأب "واحد من المسعفين قالي: نقلنا واحد مصاب بطلق ناري في رجله على مستشفى بئر العبد". فكانت وجهته.

صورة-2

أمام مستشفى بئر العبد، تراص المئات ممن أتوا لتقديم المساعدة والتبرع بالدم للمصابين. صعد رائد أدوار المشفى مذعورا "لفيت أوض المستشفى 3 مرات، أدور على أبويا وأخويا"، لكن لا جديد. أخبرته إدارة المستشفى بانتقال عدد من المصابين إلى العريش والإسماعيلية، فتواصل مع أصدقاء لتكون الأولى وجهتهم، وانطلق هو إلى الثانية.

في الطريق إلى الاسماعيلية وصلت رائد مكالمة من شقيق يصغره، يدرس في المعهد الفني الصحي بالإسماعيلية ويتدرب بالمستشفى الجامعي هناك، لكن الشقيق أنهاها بغته واتبعها برسالة نصية: "البقاء لله بابا توفى".

نغزة في قلب رائد، كأنها طعنة، لكن عقله يأبى أن يصدق. أتصل بأخيه "قولت له لأ، أكيد أنت بتتكلم غلط، أنا أبوك كان قايلي أنه مصاب بطلقة في رجله، إزاي مات؟"، يسترجع الأستاذ الجامعي الحكاية بصوت خافت.

أكد له الأخ الباكي أن صديقا بالمستشفى الجامعي أبلغه أن "بابا توفى، واخونا عبد الله مصاب".

حاول رائد أن يتماسك، بينما يتشبث عقله بأمل أخير يمنحه الحياة "مسكت نفسي بالعافية، ما أنا الكبير بتاع إخواتي، ومش عايز أظهر ضعيف قدامهم عشان ميتكسروش، وعشان مش متأكد من الخبر".

وصل رائد إلى المستشفى الجامعي بالإسماعيلية، أبلغ لهم بياناته وبحث في الغرف عن والده، فاجأه عامل بالمستشفى وقال له: "أنا عارف والدك فين؟ عبد الناصر في التلاجة"، رد الابن المكلوم وكأنه ينتظر جواب آخر يخرجه من كابوسه "قولتله مش في التلاجة"، طبطب العامل على قلبه: "شد حيلك"، لكن رائد تمسك بعناده: "لازم أشوفوه بعيني".

سلمته إدارة المستشفى أشياء تخص والده، بطاقته الشخصية ومفتاح سيارته "انهرت وقتها، مش قادر أصدق أنه توفى"، فيما صمم أن ترى عيناه ما يرفض عقله التسليم به.

أخيرا نجح رائد في الدخول إلى المشرحة، تمنى ألا يكون ما تُقر المشفى وفاته هو والده، ألقى نظره على الجثمان في ترقب، قلبه يدق سريعا وعقله ينتظر النجاة بضوء عيناه، تأكد من الفاجعة "واخد 3 طلقات في رجليه اليمين والشمال، وطلقة في بطنه طالعة من الناحية التانية، لكن وشه منور ومبتسم".

انهار الأستاذ الجامعي، فيما حاول من رافقه تهدئته.

وصلت رائد مكالمة من أصدقائه، تخبره بالعثور على أخيه عبد الله، إذ انتقل ضمن المصابين إلى المستشفى العام بالإسماعيلية "الطلقة اللي أضّربت فيه كسرتلوا عضمة الترقوة"، بينما ظل موجودا خارج المستشفى لعدم كفاية الأماكن المتاحة بها.

احضروا الأصدقاء الطفل إلى مكان أخيه الأكبر، انجزوا إجراءات استقبال المستشفى الجامعي له، وربتوا على كتف رائد الذي ضربته المصيبة.

صورة-3

هدأ الأخ الأكبر قليلا، واستقرت حالة أخيه ذو الـ14 عاما، والذي حكى له عما تعرض له داخل مسجد الروضة.

بمجرد أن انتهى الشيخ من ترديد الآذان، صعد الخطيب على المنبر، نطق الشهادة وافتتح كلماته بـ"بسم الله الرحمن الرحيم"، بادر المسلحون بإلقاء قنابل الغاز داخل ساحة المسجد، فيما استقبلوا الفارين من نوافذه والخارجين من بوابته بوابل من الرصاص.

أشار بيان النائب العام، الذي صدر السبت الماضي، إلى أن أعداد المسلحين تراوحت بين 25 إلى 30 فرد. 

وأوضح البيان الرسمي، أن المسلحون استخدموا 5 سيارات دفع رباعي، واتخذوا مواقع من أبواب ونوافذ المسجد، وعددها 12 نافذة.

بعد الهجوم حاول الأخ الأصغر الهروب عن أعين المسلحين، انفجرت قنبلة غاز ورائه، أفقدته شيء من وعيه "بقى منبطح على الأرض وحاسس أن في حاجة بتسيل على ضهره" ينقل رائد عن عبد الله.

طالبه مسلح بالخروج من المسجد، توجه الطفل إلى البوابة في فزع، فأسقطه آخر "برصاصة جت في صدره"، فرّ الطفل بعد أن ضربته يد الغدر "جري جسمه كله فاير ومتغرق دم، عشان يستخبى"، نُقل إلى مستشفى بئر العبد ومنها إلى الإسماعيلية لإنقاذ حياته.

حصر بيان النائب العام، أعداد ضحايا الحادث الدموي، في وفاة 305 شخص بينهم 27 طفلا وإصابة 128 آخرين.

يرضى رائد بما قسم لأسرته، لكن عقله لا يُبرر كل ما جرى، فوالده الذي عمل مديرا لمكتب السلامة والصحة المهنية بمديرية القوى العاملة بمحافظة شمال سيناء، "راجل طيب، محبوب، بيضحك في وش الناس، ولو حد مزعله بيقابله يسلم عليه".

وحتى اللحظة، لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الحادث الدموي، لكن أصابع الاتهام تُوجه إلى تنظيم ولاية سيناء، الموالي منذ العام 2014 لما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش". 

ثمة أدلة تُرجح ذلك. ففي العام الماضي، توعد أحد قيادات داعش، في حوار نشرته مجلة النبأ التابعة للتنظيم، صوفي سيناء، قائلا: "أعلموا أنكم عندنا مشركون كفار، ولن نسمح بوجود زوايا لكم في سيناء".

كما ذبح التنظيم، في وقت سابق، الشيخ سليمان أبو حراز، أحد كبار مشايخ الصوفية في شبه جزيرة سيناء، ونشروا فعلتهم على الفضاء الإلكتروني.

لكن يرى مراقبون، أن دافع داعش الأكبر لشن الهجوم، استراتيجي. فمن ناحية يحاول التأكيد على قوته، بعد أن فقد مساحات واسعة من أرض الخلافة المزعومة في سوريا والعراق. ومن ناحية أخرى هو جزء من الصراع بين تنظيمات متشددة لجذب المزيد من الشباب المتحمس إلى صفوفها.

مرّ الجمعة الرابع والعشرون من نوفمبر بقسوة على الأسرة. في الواحدة صباح السبت، انتهى رائد من استخراج تصريح الدفن لوالده، استأجر سيارة، حملها بصندوق خشبي يحتضن جثة عبد الناصر، وسافر إلى العريش، التي انتقل عبد الله لمشفاها.

أُقيم العزاء مساء نفس اليوم، حضر مئات المحبين ودعوا للراحل بالرحمة، تعرف رائد "على خير كتير أبويا كان بيعمله، ومكنتش أعرف حاجة عنه". فيما يتمنى الأستاذ الجامعي أن يتقبل "والدي من الشهداء"، وأن يحظى هو "بواحد في المية من الخير اللي ربنا أنعم بيه عليه".

 

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان