"الكورة بتنسينا الزعل".. حكايات السودانيين في مصر بين بطولة أفريقيا والثورة
كتب- دعاء الفولي ومحمود عبد الرحمن:
الجمعة الماضية، تمنّى بدر الدين وأيمن محمد الذهاب إلى استاد القاهرة لحضور افتتاح بطولة الأمم الافريقية، لكن ضيق الوضع المادي منع الشابين السودانيين من الانضمام للجمهور، تابعا المباراة في مقهى صغير بحارة الصوفي، بالقرب من ميدان العتبة، التي يقطنها كثير من الأفارقة الوافدين لمصر. يجد الشابان في مشاهدة المباريات تسلية مؤقتة، لا تفصلهما تماما عما يحدث في الوطن، لكنها تُخدر القلق الذي لا يسكن داخلهما خوفا على الأهل والأصدقاء هناك "الماتش بيكون لمة وبنحس من خلالها إننا في بلدنا".
يوميا تتجدد أحاديث الثورة بين السودانيين في القاهرة، يرويها المقيمون صغارا وشيوخا، أتعبتهم الظروف وتزايد الضغوط؛ يعمل بعضهم ليعيل أسرته في السودان، فيما قدم آخرون بالكاد ليبدأوا حياة ربما أفضل حظا، غير أن لغة الكُرة توحد معظمهم، يجتمعون في المقاهي والمحال ليشاهدوا المباريات، لا يتفقون على فريق بعينه، حتى أن بعضهم لا يُحب رياضة كرة القدم، لكن تؤنس حالة التشجيع أيامهم، يهربون إليها من كلام الثورة الذي لا ينتهي.
في منطقة العتبة يقطن بدر الدين. لم يغادر مصر منذ أربعة أعوام "الوضع مبقاش زي الأول والعودة صعبة". اكتفى بالمكالمات الهاتفية أو التواصل معهم على مواقع التواصل الأجتماعي "كلمت أمي من أربع ايام على النت صوت وصورة.. دي أول مرة أكلمها من قبل عيد الفطر".
يتذكر أيمن –العامل بالمحل نفسه- الحالة الاقتصادية التي كانت عليها دولته قبل ثلاث سنوات "الدنيا كانت ماشية بس الخلافات بين القبائل والعنصرية هي السبب في الثورة".
في ديسمبر الماضي اندلعت التظاهرات في السودان، بعد ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، إذ طالب المحتجون بعدة أشياء، منها رحيل الرئيس السابق عمر البشير. في نفس الشهر قدم أيمن صاحب الـ26عامًا إلى مصر "أنا عايش هنا مع صحابي ودايما في الشغل" تحزنه المقاطع التى يراها لتعامل السلطة مع المحتجين، متمنيا لو استطاع العودة.
الكرة جزء من حياة الصديقين، اتفقا قبل البطولة على تشجيع منتخب السنغال "بيلعبوا حلو وفريق تقيل"، يشعران بالفخر بعد مباراة مشرفة خاضها السنغال مع تنزانيا أول من أمس، ورغم الفوز، لم تبتعد أخبار السودان عنهما كثيرا "فيه مننا يبقى ماسك تليفونه وبيتفرج على الماتش وييجي خبر حد مات"، يتذكر بدر الدين ابن عمه المُصاب، وصديقه الذي اُستشهد "وإحنا قاعدين هنا مش قادرين نعمل لهم حاجة".
على بُعد أمتار من الشارع الرئيسي داخل مقهى قديم، يُركز أيمن حسن انتباهه مع التلفاز الذي يذيع مقتطفات من مباريات البطولة، يتناقش مع صديقه عيسى آدم في أداء اللاعبين "المنتخب المصري ملعبش بأفضل شكل في الماتش اللي فات خاصة في الشوط التاني" قالها الثاني، فيما قاطعه حسن "بس الكأس مو مارق من مصر بإذن الله".
الحياة في مصر ليست رغدة بالنسبة لحسن وصديقه، جاءا من السودان قبل أشهر قليلة بعدما بات الواقع هناك أسوأ، عمل حسن في مطعم "بس المقابل زهيد جدا وبننام في غرفة مفيهاش تهوية"، ترك صاحب الخمسة وعشرين عاما العمل فيما لا يجد صاحبه وظيفة مستقرة إلى الآن، ربما لذلك شارك كلا منهما في التظاهرات "عايزين الأوضاع تتحسن ويبقى فيه استقرار وشغل كويس".
منذ اليوم الأول للبطولة، قرر حسن وصديقه توفير كل ما يلزم لمتابعتها، أحيانا يجتمعان مع آخرين في منزل أحدهم لمشاهدة اللعب، وفي أوقات أخرى يذهبون لأقرب مقهى "الكورة بتهون علينا شوية وبتنسينا اللي بيحصل"، لا يتوقف حُبهم عند المنتخب المصري فقط "بنشجع الجزائر وتونس" يقولها آدم.
داخل نفس المقهى، كانت الثورة هي فقط ما يشغل عقل محمد مكي واثنين من أصدقائه، أداروا ظهورهم للتلفاز "ملناش في الكورة". قبل يومين عاد محمد الطيب إلى مصر بعد فترة قضاها داخل السودان "الوضع كتير صعب.. كل بيت فيه شهيد"، عانى الثلاثة مرارة الفقد، بين من اُصيبوا من أهلهم أو معارفهم أو قُتلوا في التظاهرات "لكن هو طريق طويل ولازم يكون فيه ضحايا".
تظاهرات السودان لم تكن حكرا على الشباب فقط، فالأصدقاء الثلاثة تراوحت أعمارهم بين الأربعين والخمسين "كيف ما بننزل؟ الواحد طهق من الوضع وغلاء المعيشة.. الشقاء صايبنا كلنا.. ده حتى الستات عندنا نزلوا". رغم أن التشجيع ليس من أولوياتهم لكنهم أحيانا ما يجلسون على المقهى خلال المباريات "فيه خناقة حصلت امبارح وقت الماتش بين اتنين سودانيين"، وجد مكي نفسه يضحك "مبفهمش إزاي الناس بتتضايق عشان أي رياضة"، فيما يقول جليسهم الثالث ناصر "الواحد يخاف لو تابع يبقى متعصب ويتخانق.. كفاية الدم اللي في السودان".
بجوار إحدى العربات الصغيرة المخصصة في بيع العطارة السودانية بنفس الحارة، جلس عبدالوهاب عثمان لا تشغله المظاهرات والاحتجاجات "الثورة بقت حاجة عادية ومش عارفين الأوضاع دي هتوصل لفين واخرتها أيه" يقولها الرجل بنبرة من اليأس.
قبل 29 عامًا، قدم الرجل الخمسيني من منطقة مروي شمال السودان بغرض التجارة، إلا أن اندلاع الثورة منعه عن العودة لبلده "برجع كل فين وفين" وعلى الرغم من تجاهل الرجل بأخر تطورات الثورة إلا أنه يتاثر بها.
"الكورة بتنسيني الثورة وتفكيري بيكون كله في الماتش" يقولها بابتسامة، إذ يجد لذة جميلة في سماعه المباريات التى يكون فيها صلاح الذي يلقبه بفخر العرب.
قريبا من سيارة العطارة يأتي صوت إحدى المباريات، بينما لا يعبأ عيسى بن علي "محمد صلاح هو الوحيد اللي اتفرج عشانه". لا يعرف الرجل الخمسيني سبب اهتمامه بنجم منتخب مصر تحديدا "عنده كاريزما يمكن وكمان بيلعب حلو"، لكن الأهم بالنسبة له أن صلاح يجمع الثقافات المختلفة "مصريين وسودانيين وأجانب كلهم يحبوه.. هو يذيب الفوارق بيننا".
يوميا يتواصل ابن علي مع أسرته المقيمة في السودان، ينزعج مؤخرا من قطع الإنترنت، فيحاول تعويض ذلك بالمكالمات الهاتفية "بس سعرها غالي كتير"، لا يُحب أهله سرد تفاصيل ما يجري في الوطن "بيخافوا عشان متضايقش".
"فيلم أسود مستمر" هو تعريف الرجل لما يحدث في السودان، غادرها قبل تسعة أعوام لضيق الحال، يتمنى الآن لو شارك مع المتظاهرين، لكن معايشته لأحداث الثورة المصرية حققت له جزءً من أحلامه، بات المصريون أهله "حتى أنا متزوج مصرية من إمبابة وأهلي بيحبوها أكتر مني" يضحك وهو يشير إلى تلفاز المقهى القريب "عشان كدة بشجع مصر في البطولة.. ده لو مش عشان صلاح ولا إنهم أهلي هيبقى عشان مراتي".
قبل مجيء نعمات أحمد إلى مصر لم تكن والدة الخمسة أبناء تعمل "بس بسبب الظروف في السودان اضطريت أسيب جوزي واجي بيهم"، داخل مقهى في منطقة العتبة تمكث السيدة، تتابع بعض المباريات أحيانا خلال نوبة عملها "بس معرفش أسماء اللاعيبة".
لا تتعدى علاقة السيدة الأربعينية بالكرة أكثر من مشاهدتها بالصدفة، كذلك فعلاقتها بالثورة ليست وطيدة تماما "بتابع اللي بيعملوه من بعيد.. ربي معهم"، أثرت الأوضاع سلبا على حياتها، إلا أنها لم تُلقِ باللوم على المحتجين "الأوضاع صعبة عليهم وعلينا كتير.. أهم شيء إن كل الخربطة اللي حاصلة بالسودان تخلص".
ساعة فقط تبقت من الزمن، قبل انطلاق الحافلة المتجهة من وسط القاهرة إلى السودان. يسند إبراهيم أحمد ظهره لإحدى السيارات المستقرة في العتبة، منتظرا العودة إلى بلده، خَفُت خوفه مع الوقت فبات يذهب ويعود لينقل البضائع، تدور أفكار الثورة في ذهنه، ماذا سيحدث إذا اشتعلت الأوضاع، هل سيتم إغلاق الطريق؟، يطمئن نفسه بأنه يفعل ذلك منذ اندلاع التظاهرات ولم يمر بأزمة إلى الآن، يأتي لمصر ويتنزّه أحيانا جانب عمله ولا ينسى مشاهدة معشوقته كرة القدم.
بعين الخبير والمشجع يشاهد أحمد المباريات، يعرف أسماء اللاعبين جيدا، ويحزن لضياع فرصة المتابعة أحيانا "في ماتش مصر وزيمبابوي كنت مسافر على الطريق وعرفت النتيجة بس متفرجتش"، عوّض الأمر في مباراة المغرب وناميبيا بالأمس "اتفرجت بس معجبنيش أداء المنتخب المغربي.. هما بيلعبوا أحسن من كدة".
منذ تصاعد الأزمة في السودان، انخرط أحمد فيما حدث كغيره، سواء من خلال التظاهرات أو الحديث، لكنه مؤخرا قرر اعتزال الحديث السياسي "تعبنا من كتر الكلام.. نتكلم في أمورنا المعيشية والكورة أحسن".
فيديو قد يعجبك: