الحريف 2018
كتب - عبد القادر سعيد:
دلف العجوز في شوارع العاصمة الشاهدة على تاريخ لو أرادت أن تروي حكاياته لاحتاجت آلاف السنين، تحمله ساقين مقوستين تطأ الأرض بهدوء لخفة وزن صاحبها الذي ظن أنه نسى أحلامه القديمة، وأقنعته هيئته وأعبائه أن "زمن اللعب راح"، حتى رأى الكُرة تداعب أقدام الأطفال، فتصلب واقفاً يتابع عن كثب، وعن حُب.
لم يكن البطل هو عادل إمام في رائعة سينما الشارع "الحريف"، لكنه لامس أوجه تشابه كثيرة مع "فارس محمد خان" الذي أطل علينا في ثمانينيات القرن الفائت عبر الشاشات ليُعبر عن حالة شجن تسيطر عليها "كُرة شراب".
عُمره؟ ربما ما بين الخمسين والستين، عمله؟ قد تُشير الحقيبة السوداء التي يحملها كتفه الأيمن إلى أنه موظفاً حكومياً يُحصل فواتير الكهرباء أو الغاز، لكن لا يهم ماذا يعمل، تكفي إطلالته التي تؤكد أنه من "الشقيانين" الكادحين، عنوانه؟.. الشارع.
نظر بطلنا إلى الكُرة تتنقل بين أقدام الأطفال كفراشة تحُط على الأزهار، بلع ريقه وخفق قلبه في حماس، فك تصلب جسده وتقدم خطوة نحوهم في تردد، لحظات مرت عليه كساعات، فكر خلالها.. ممكن؟، لكنه أجاب نفسه بابتسامة ثقة يُغلفها رضا تعكسه نظراته وتكوينه واللغة التي يتحدثها جسده.
- يعني مش هتلعب كورة تاني؟
- هطلقها بالتلاتة.. بس بعد الماتش ده.
- أنهي ماتش؟
- ماتش الوداع
مرة أخرى أجد نفسي أقتبس من حوار بشير الديك ومحمد خان في سيمفونية الحريف 1984، تخيلت أن حواراً شبيهاً جال برأس حريف 2018، قبل أن يُهشم كل ما اعترض أفكاره الرومانسية في عقله، مُقرراً أن يختطف الكُرة بقدميه مُداعباً الأطفال، رفعها بلمسة ساحرة للهواء ثم روضها بهدوء على رأسه.
أطفال الشارع لم يحاولوا خطف الكُرة من العجوز الحريف، تيبسوا في أماكنهم للحظات كانت ضرورية لإدراك ما فعله الرجل الذي اقتحم عالمهم، عالم الصغار كما يظنون، فاللعب في الشارع مُقتصراً عليهم فقط، أو هكذا يعتقدون.
"في ناس بتلعب كورة في الشارع، وناس بتمشي تغني وتاخد صورة في الشارع"، مقدمة فيلم الحريف.
لم يأبه العجوز بما دار حوله بعد أن اختطف أميرته الغائبة، نظر إليها كحبيب التقى معشوقته بعد سنوات التيه فصمت الكلام، ذاب في جذوة عشقه، الكُرة أيضاً بدت وكأنها شعرت بارتياح فوق شعر استحوذ عليه الشيب في رأس اختار لها أن تعلوه تقديراً وعشقاً وشغفاً بها.
تدلت الفكوك واتسعت العيون المُتابِعة، وتسائلت الأدمغة.. ما الذي يفعله هذا العجوز الحريف؟، مرت دقيقة، اثنتين، ثلاثة، وعناقه للكرة لم ينقطع، ظل يداعبها برأسه فتأخذ رحلة قصيرة للفضاء ثم تهبط على رأسه كأنها تقبله وتعود في تكرار غير مُمِل، تكرار كان مُبهجاً للمارة والأطفال الذين وقفوا يرمقون ما يحدث في شده ودهشة اختلطت بإعجاب.
طال اللقاء بين العجوز وكُرته العائدة بعد غياب، وبينما احتضنت روحه الكُرة في خشوع، اتسعت فتحات أصابعه لتسمح للسيجارة أن تسقط أرضاً، سَخّر كل حواسه لتلك الجميلة التي ما زالت فوق رأسه، هذه أهم، ما زالت باقية، ما زالت مُطيعة.
ثم ماذا؟ حانت لحظة الوداع، أنزل جميلته من فوق رأسه وحنى عليها بكتفه ثم أعادها لأصحابها، أشار لهم في تحية خجولة ثم أدار لهم ظهره ورحل في خطوات رتيبة، رحل مُضطراً إلى ما دفعه لوداع معشوقته، البحث عن الرزق والانغماس في أعمال وواجبات وهموم حياته، لا مفر.
ربما كان يستحق هذا الحريف تحية مماثلة في استاد القاهرة وسط حضور 100 ألف مُحب وعاشق يوم اعتزاله، لكن القدر لم يسمح له بلحظة أسطورية كتلك، رحل في رضا تاركاً خلفه مقطعاً مرئياً خلّد به أحد الحاضرين عرضه المُبهر.
مقطعاً شاهده أكثر من مليون شخص، جميعهم تحركت قلوبهم إجلالاً لموهبة مرت كطيف في شارع كان ملعباً لأهم مبارياته، مباراة انتصر فيها على الزمن والظروف، تماماً مثلما انتصر "فارس" في المشهد الأخير من لوحة خان السينمائية للحريفة والغلابة والمنسيين والمُهمشين والذين كلفهم السعي وراء الرزق وداع حلم العُمر.
فيديو قد يعجبك: