إعلان

الخندق في الحرب للاختباء.. وفي السويس "قاعة سينما"

11:16 ص الإثنين 06 أكتوبر 2014

حامد حسب مدير قصر ثقافة السويس الاسبق

كتب- محمد مهدي وأماني بهجت:

شوارع هادئة، منازل خاوية، آثار عدوان القوات الإسرائيلية جاثمة في كل مكان، حياة بائسة مُقبضة عاشها من بقوا في مدينة السويس الباسلة- بعد تهجير أهلها تحت شعار "التهجير جزء من المعركة" في عام 1967- لم ينقذهم منها سوى روح المقاومة التي تدب في أوصالهم، وفِكرة بديعة اقترحها "حامد حسب" مدير قصر ثقافة السويس حينذاك، يحميهم بها من جنون الصمت والوحدة، بإحياء الفن من جديد داخل المدينة الحزينة، حتى في الخنادق.

الرجل الذي تعدى عمره سن السبعين، كان عضوا في شبابه بالاتحاد الإشتراكي ثم مسؤولا عن الوعي الثقافي بمدينة السويس "ودا كان سِر تعيني كمدير لقصر ثقافة السويس بعد النكسة بسنتين" يقولها "حسب" متذكرًا سعادته بالخبر وانطلاقه نحو القصر ليكتشف أن الأتربة تغطيه وتحولهإلى بيتا للعناكب والحشرات.

انهمك "حسب" في تنظيف القصر برفقة موظفين فقط هما قوة العمال لديه، وأعاده إلى صورته الأولى، أخذ يراجع "العُهدة"، مسرح جيد ينقصه العروض والجمهور، وقاعة سينما مناسبة تحتاج إلى فني قادر على تشغيلها "عرفت إن الفني هاجر من السويس وراح بنها وكدا حِلم السينما اتبخر لأن مفيش حد في البلد بيعرف يتعامل معاها".

تمر أيام الهزيمة ببطء، مُحملة بالمفاجأت القاسية "العدو كل فترة يدخل على المدينة يضربها، يدمر كام مصنع ويقتل كام واحد ويمشي"، فضلا عن العيشة الصعبة التي يعاني منها الباقون من أهل السويس- موظفين الحكومة وعمال المصانع وأطباء وممرضات المستشفى فقط- من عدم وجود أي وسائل ترفيه أو تواصل مع الآخريين "حسيت إن الفن في الظروف الصعبة دي انتصار لينا على العدو".

التماسا للوَنس، ومحاولا للوصول إلى حَل للعزلة، أعلن مدير قصر ثقافة السويس عن تأسيس فريق مسرح يُقدم عروضا مستمرة بداخل القصر "وفعلا لقيت عدد كويس قَدم وبدأنا نشتغل بس كان عندنا مشكلة إن مفيش بنات في الفرقة للأدوار النسائية"، هنا انضمت الممرضات إليهم لسد عجز تلك النوعية من الأدوار لكن وقعت أزمة.

يقول "حسب"- المتكأ على عصاه- عن هذه الأزمة: مدير المستشفى وقتها اتخانق معايا واتهمني إنني عايز أبوظ البنات.. مكنتش فاهم قيمة الفن، إنه أكبر رد على إسرائيل، إننا عايشين وقادرين نكمل.. محافظ السويس وقف جنبنا وحل الموضوع.

عاد قصر ثقافة السويس مرة جديدة إلى مجده في عرض أول مسرحية بعد النكسة "أبطال بلدنا" للمخرج "سمير سليمان"، الصالة كاملة العدد في حضور عدد كبير من المسؤولين والفنانين "حمدي غيث مدير إدارة المسرح بالوزارة حضر" وتوالت العروض المسرحة على "خشبة" القصر، لكن "حسب" كان يطمح في المزيد، وحِلم إعادة السينما مازال يطارده طوال الوقت.

"أما رجوع السينما بقى فدي حكاية كنت هأضيع فيها مستقبلي" يقولها "حسب" ثم يضحك ببطء، يظهر في عينيه بريق كأنه يستحضر لحظات هامة"كنت طالع مبنى وزارة الثقافة في القاهرة عشان حاجات إدارية ولقيت ميشيل شكري فني السينما بينادي عليا وبيقولي إنه عايز يرجع"، لم يصعد "حسب" إلى مبنى الوزارة، أمسك بفني السينما واستقلا سيارته وعاد إلى السويس، تملكته فرحة عارمة عندما نجح "شكري" في تشغيل آلة العرض.

الأزمة أن فني السينما يعمل في بنها ولا يمكنه المكوث في السويس، وإلا اعتبرته ممتنعا عن العمل وأوقفت راتبه، فضلا عن المسؤولية القانونية التي تقع على مدير القصر "وقتها كلمت أكتر إنسان متفهم في الوزارة.. سعد الدين وهبة وكان وكيل أول الوزارة وقتها وفهمته الدنيا" فانتهت الأزمة وعاد "شكري" إلى القصر بشكل رسمي.

آلة عرض السينما تعمل، الفني يقف ورائها، والقاعة جاهزة لاستقبال الجمهور، وأهالي السويس متعطشين للمشاهدة، لكن لا يوجد فيلما سينمائيا داخل القصر "سافرت القاهرة وطلعت الوزارة واخترت كام فيلم ورجعت بيهم وبدأنا العرض الأول"، فوجىء "حسب" بغضب عارم بين الجمهور-من بينهم قوات جيش-"كانوا هيموتوني لأن الفيلم جودته رديئة وقديم جدًا، كان نفسهم يستمتعوا ودا محصلش".

كيف تعامل مع الأمر؟ هل استسلم واكتفى بالمسرح؟ يهز الرجل عكازه نافيا "عرضت المشكلة في القاهرة وطلعنا بفِكرة جديدة وهي عرض أفلام أجنبية وفضلت ألف على السفارات واستعير أفلامهم المترجمة" وعرض الفيلم الصيني "حرب الأنفاق" وشهدت القاعة إقبالا كثيفا من أهالي السويس.

كلما تقدم "حسب" نحو أحلامه خطوة يجد ما يوقفه، فالمدينة لا يوجد لها غطاء دفاعي يردع قوات العدو الإسرائيلي من اقتحام مجالها الجوي ودكها "أول ما الغارة تحصل، نجري على الخنادق لحد ما الضرب يهدى وطبعا مفيش وقتها سينما ولا دياولوا".

لحظة وقوع الهجوم على المدينة ينطلق الناس إلى الخندق، ينتظرون لساعات حتى تنتهي الغارة، خلالها وجد "حسب" أن ردود فعل الناس مُخيفة أحدهم يضحك بشكل هستيري، آخر يبكي خائفا، فيما ينهمك البعض في المواساة وبث روح الطمأنينة في القلوب "قولت ليه منستغلش الفترة دي في حاجة مفيدة بدل تَعب الأعصاب".

"سينما الخندق" اقتراح مُبتكر من "حسب" قرر تطبيقه، فقام بتجهيز مقر الخندق بـ "ملاية بيضا" وآلة تشغيل السينما، واستخدم الـ 16 ملي بدلا من 32 لضيق المكان، وتحديد أماكن جلوس المواطنين حتى لا تعيق الصورة "لأن صوت الفيلم عالي الناس ركزت معاه ونسيت الضرب اللي شغال، ولما خِلص كانت الغارة انتهت ومحدش حس بيها" يذكرها الرجل السبعيني بفَخر شديد.

نجاح التجربة جعلته يكررها بشكل دائم، ويبحث عن مزيدا من الأفلام، طوال سنوات عمله منذ النكسة حتى بداية حرب السادس من أكتوبر "وقتها وقفنا العروض لانشغالنا بتحقيق أكبر حِلم عند الوطن.. وهو النصر".

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك ...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان