لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"طب ليش أنقذتوني!".. حكاية "الناجي الوحيد" بين عائلات غزة

04:39 م الخميس 05 ديسمبر 2024

صورة تعبيرية - بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعي

- مارينا ميلاد

ثمة همس وأصوات خافتة تخرج من أسفل أنقاض أحد البيوت التي سقطت نتيجة القصف قبل 24 ساعة، فتتسلل إلى مسامع الجيران الساكنين بمنطقة الاتصالات في حي الفالوجا (شمال غزة)، وهم يمرون بجانبها.. يفزعون، يتمتمون ذاكرين الله، ثم يتصلون بأحد أقارب الأسرة التي كانت تسكن هذا البيت "أسرة محمد المصري": "سمعنا صوت.. أسرعوا.. يمكننا الحفر، ربما لايزال أحد حيًا !".

التف الناس حول أكوام الأنقاض، حاملين أدوات بسيطة للحفر، لا ترتقي لهذا الحجم. لكن الدفاع المدني انسحب في اليوم السابق لعدم وجود معدات كافية! فليس بوسعهم فعل شيء سوى المحاولة.. وقد نجحت، وأخرجت أحد ساكني البيت على قيد الحياة، لتفاجئهم مجددًا، وتذكر أنها سمعت صوت آخر بالأسفل!

نظر الجميع باندهاش إلى بعضه، فتذكرت إحدى الأقارب أن الأم قالت في آخر مكالمة بينهما أنها ستفرش لأولادها بجانب الحمام ظنًا أنه مكان آمن حال تعرضوا للقصف، فقالت بصوتِ عالي وهي متلهفة: "احفروا بجانب الحمام!".. ولما فعلوا، رأوا "علي"، الابن الأوسط، كان في مسافة 30 سم فقط بين السقف والارض، تلك المسافة التي ربما أنقذته.

نزل شخص خفيف الوزن لحمل "علي"، وكان مغشيًا عليه ونفسه يكاد يكون مقطوعًا، لتصير عائلته ضمن نحو 3400 عائلة أبيدت كاملا ولم يبق منها إلا ناج واحد (وفقا لوزارة الصحة في غزة)، وكان هو الناجي – حتى الآن.

بعد مرور أشهر على لحظة خروجه من تحت الأنقاض، ينام "علي" داخل غرفة مهجورة بمنطقة دير البلح بوسط غزة مع 7 من أقاربه.. تتشابه أيامه كلها، وتمضي على نفس النحو الذي يعيشه كل سكان غزة كبارًا وصغارًا منذ أكثر من عام: فيمشي كيلو متر على الأقل ليشتري مياه ليست نظيفة تمامًا بأسعار غالية، ولا يجد طعامًا إلا نادرًا، يستحم كل عدة أسابيع بعد أن يتبقى مياه ليسخنوها على النار..

وبعد أن يفرغ من كل معاناته اليومية لأجل العيش، يفتح هاتفه على صور عائلته، ولا يصدق أنه فقدهم جميعًا: والداه وإخوته وأعمامه وخاله.. يفكر فيهم طوال الوقت، وتفزعه الكوابيس ليلا، فيسأل من حوله: "هو ايش صار؟"..

لم يخبروه بما حدث لأهله إلا مؤخرًا، لكن حنين ميمه، أحد أقاربه الموجودين معه الآن تقول: "علي متذكر كل شيء.. بس عنده إنكار.. يعني حتى لما يحكي عن أهله بنقوله قول الله يرحمهم.. ما بيقبل!".

يجلس "علي" منزويًا عن الجميع، يغرق في صمت لوقت طويل، صمت لا يناسب طفلا مثله، ربما يحمل خلفه الكثير من المشاهد التي تدور في رأسه الصغير، وتعود لما قبل أشهر، حين تبدلت حياته كلها.

كانت الساعة 2 بعد منتصف الليل.. حملته أمه، التي تعمل صحافية، وشدت معه أخاه الأكبر "هادي" وأخته الصغيرة "شام" إلى جوار الحمام، فاعتقدت أنها منطقة آمنة حال قصف البيت.. ولم يمر سوى دقائق إلا وحدث ما توقعته، وانقلب عليهم سقف البيت المصنوع من الباطون..

ما جرى لمنزل عائلة محمد المصري وفي حالات مشابهة أخرى وثقتها منظمة العفو الدولية "كانت هجمات عشوائية، فشلت في التمييز بين المدنيين والأهداف العسكرية إن وجدت، وفي أغلبها، لم تحذر إسرائيل المدنيين أو لم تصدر أوامر الإخلاء في الوقت المناسب"، حسب تقريرها.

وصل الخبر لأقارب عائلة "علي" قرابة الخامسة فجرًا، ظلوا يتصلون على أفراد البيت، لعلهم يجيبون، لكنهم لم يجدوا ردًا.

ركضوا رفقة الجيران نحو البيت تحت غارات لا تهدأ بالشمال، وجدوا والد "علي"، الذي يعمل مدرسًا للغة العربية، مُلقى على الأرض بالشارع من قوة الانفجار الذي حدث.. وعَجز الدفاع المدني الذي استعانوا به عن الحفر لقلة إمكانياتهم، فانسحب واستمر الجيران والأقارب يحفرون بما لديهم حتى مر اليوم الأول دون نتيجة.

ثم جاء اليوم الثاني ليحمل صوتًا يدب في نفس من سمعه الأمل بأن هناك أحياء. وكان الصوت لزوجة عم "علي"، ثم دلت عليه بعد خروجها، وكأن المكان الذي حسبته أمه أنه آمنا بعض الشيء لهم، كان هكذا لـ"علي"، والسبب في العثور عليه وإنقاذه.

بدا جلد وجهه مشوه تماما وجسده يمتلأ بالحروق والإصابات، فأخذوه لأقرب مستشفى عاملة، ودخل غرفة العناية المركزة، ليبقى بها أسبوعًا. وبينما يجري عملية تلو الأخرى، كان الحفر بأنقاض بيتهم مستمرًا حتى وجدوا جثث أمه وبجانبها أبنائها.

لم يودع أحد عائلة "علي" ودُفنوا في غير مكانهم، حين أخذهم أقاربهم إلى محافظة الوسطى.

وبعد شهر، خرج من المستشفى وسأل عنهم، فتقول "حنين": "ما حكينا.. خفنا تسوء حالته".

وبمرور الأيام، تلاشت كل مبررات غيابهم واضطروا لإبلاغه.

يعود "علي" من التفكير في ماضيه المؤلم لواقع أشد وأكثر ألما، فيقطع صمته ويقول لـ "حنين" فجأة: "طب ليش انقذتوني.. ليش ما خلتوني أموت زيهم!".

لم يكن "علي" وحده في هذا الواقع المرعب.

في نفس الفترة، فقدت روان كريزم (18 عاما) كل عائلتها خلال قصف طال مدرسة كانوا نازحين داخلها، وتقيم مع أحد أقاربها الآن، ولازالت في حالة صدمة تمنعها حتى من الحديث.. وعلى مقربة منها، قتل ثلاث أجيال من عائلة "الدوس" من الجد لأصغر حفيد (عمره 18 شهرًا) بعد قصف بيتهم بحي الزيتون بوسط غزة، غير عائلة حجازي التي تبقى منها كمال حجازي فقط، ليقول: "انقصف بيت عيلتنا. بدون أي إنذار مسبق ولهيك الكل كانوا في البيت.. والكل راح".

وآخرون وثقهم جوناثان كريكس (مدير قسم التواصل في اليونيسف)، عندما تجول برفح، والتقى "رزان" (11 عامًا) التي فقدت جميع أفراد عائلتها تقريبًا، كما أصيبت ساقها ووجب بترها. فصارت تتلقى الرعاية من أقاربها النازحين بإمكاناتهم الشحيحة. وفي كل مرة تتذكر ما جرى لها، تذرف الدموع. وفي مركز يستضيف الأطفال غير المصحوبين بذويهم، قابل "جوناثان" طفلين آخرين يبلغان من العمر 6 و4 أعوام. وهما أبناء عمومة، قُتلت أسرتيهما بالكامل.

وحين غادرهم وأنهى جولته، قال بصوت حزين وعاجز: "التقيت بهؤلاء الأطفال في رفح. فماذا لو تخيلنا وضع الأطفال الذين فقدوا والديهم في شمال ووسط غزة؟، بالتأكيد سيكون أسوأ بكثير!"..

وبين هؤلاء الذي لم يتوقع "جوناثان" وضعهم، كان "علي".

محو عائلات لتنضم لسابقيها، هي فكرة ليست جديدة بالنسبة للفلسطينيين.. هكذا ترى دينا مطر (الأستاذة في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية التابعة لجامعة لندن)، خلال حديث سابق لها، فتشير إلى السجلات التاريخية للنكبة التي وقعت عام 1948 وأبحاث المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي، والتي تستند إلى وثائق إسرائيلية رسمية تُظهر التهجير المخطط للفلسطينيين.

فتقول: "إن إبادة عائلات بأكملها تشكل جرائم حرب محظورة بموجب القانون الإنساني الدولي، لذا فالأجيال الحالية والمستقبلية من الفلسطينيين يجب أن تعمل معًا للحفاظ على الذاكرة الفلسطينية حية".

ربما يكون الجيل الجديد الذي تشير إليه "مطر" من الناجين أمثال "علي" أو من يولدون الآن بغزة مثل "شام".

فبينما كان "علي" يرتجف وأسنانه تصطك مع تدني درجات الحرارة وهطول الأمطار الغزيرة على غزة، صرخت "حنين" صرخة الولادة، فنهض مرتبكًا ليذهب معها بالإسعاف، ولم يهمه القصف المتواصل، كما تحكي "حنين"، ليكون أول من حمل ابنتها وأسماها على اسم أخته التي فقدها "شام".

تحاول "حنين" أن تُلهي "علي" عن حزنه وتفكيره في عائلته باللعب مع "شام" وتعلم بعض الأشياء. فجلبت له كتب ودفاتر، حيث لم يصل له برامج التعلم المحدودة التي توفرها مبادرات أو مؤسسات مثل اليونيسف أو الأونروا للنازحين.

فحولهم، بدأت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بتنفيذ المرحلة الأولى من برامج "العودة إلى التعلم" في 45 مدرسة تابعة لها تحولت إلى ملاجئ.. وتركز على أنشطة الصحة النفسية للأطفال، الذين عايشوا ما يفوق أعمارهم بكثير.

لكن "حنين" اتبعت شارات اليونيسف الزرقاء وذهبت بـ"علي" وطفلتها "شام" لسبب آخر، وهو تلقِ التطعيم ضد شلل الأطفال داخل عيادة صحية تابعة للأونروا في دير البلح، وهي قريبة من مكانهم.. تلك الحملة التي تصفها اليونيسف بأنها "من بين أصعب حملات التلقيح في العالم، في أخطر مكان بالنسبة للأطفال".

فمنذ ربع قرن على الأقل، لم يتم تسجيل أي حالات شلل أطفال في غزة، لكن الآن، "عاد الخطر غير المرئي"، كما تقول عنه أديل خضر (المديرة الإقليمية لليونيسف لمنطقة الشرق الأوسط) بعد تأكيد أول حالة إصابة لدى طفل يبلغ من العمر 11 شهراً بسبب مياه الصرف الصحي والركام غير المعالجة.

تغادر "حنين" العيادة، وتعود إلى غرفتهم الضيفة الباردة المليئة بالأتربة، فهي لا تملك ثمن الرحيل.. تحاول أن تقاوم بكل الطرق لتنجو بنفسها وطفلتها و"علي" في حرب مستمرة تُضيق عليهم كل سبل الحياة، حرب تصفها لويز ووتريدج (مسؤولة الطوارئ بالأونروا في قطاع غزة) "بالمعاناة التي لا تطاق ولا تنتهي ولا هوادة فيها".. ولا يعلم "علي" إن كان سيظل الناجي الوحيد الذي يحمل اسم عائلته أم سينضم إلى نحو 44 ألف شخص قتلوا في غزة، لتمحى عائلته من السجلات مثل نحو 1410 عائلات أخرى (وفقا لتقدير وزارة الصحة الفلسطينية بغزة) وتٌقطع جذوره، كأنها لم تكن!

-المشاهد المرسومة بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعي

اقرأ أيضا:

ذكريات مُلغمة.. ركام حرب غزة يهدد حياة الناجين

الطريق إلى إيطاليا.. رحلة إنقاذ أطفال غزة المصابين تُفرق الأسر

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان