إعلان

"تلك العتمة الباهرة".. قصاصات عن الموتى الأحياء

04:20 م الخميس 11 فبراير 2016

تلك العتمة الباهرة

كتبت-دعاء الفولي:

الليل سيّدهم، يحتضنهم بين كنفه بعنف، ابتلعت وحشته أحلامهم، الليل بطلهم، ظلوا بداخله أعواما، يحاربون أذرع الموت الممتدة إليهم. كانوا 28 عسكريا، بقي منهم سبعة. قُل موتا أو ليلا أو سجنا، فبطل رواية "تلك العتمة الباهرة" للطاهر بن جلون والمترجم بسام حجار، قد لاقى صنوف من الهلاك، لكنه نجا من ظلام الأعوام العجاف. لا يعرف كيف دخل السجن ولا كيف خرج، آخر ما يذكره عن النهار كان الزج به وضباط آخرين في محاولة انقلاب على ملك المغرب، الحسن الثاني، يوليو 1971، ما عُرف إعلاميا بـ"انقلاب الصخيرات".

اسمه الروائي "سليم"، لكن البطل الحقيقي للرواية هو الضابط عزيز بنبين. بعد فشل الانقلاب أودعوا سجن القنيطرة، وهو سجنا عاديا، أو كما يقول البطل "سجنا يمكننا أن نغادره ذات يوم بعد تمضية أحكامنا.. وزنزانات يمكن أن نرى السماء منها عبر كوة عالية" لم يُطلق أحد ضباط الرواية الرصاص، نفذوا أوامر القادة فقط حين جعلوهم يركبون الشاحنات منطلقين لقصر الملك. خلال عامين بـ"القنيطرة" انتظروا رصاصات تقتلهم، كان ذلك أقصى كوابيسهم، لم يُكذب النظام خبرا، فقد دفنهم في سجن يُدعى "تازمامرت"، بالصحراء المغربية، بُني لإذلالهم، كان حُفرة كبيرة أسفل الأرض، مُقسمة لزنازين ضيقة، سقفها منخفض للغاية، ولا ترى النور أبدا.

حين الُقي الضباط بحفرة "تازمامرت" صار الموت المفاجئ "كأنه خلاص. مرت أيام علي رحت أفكر في الانتحار"، قبلها بسويعات وفيما هم بالطريق ظل مسرح الانقلاب يعيث بذهن سليم "أنوار الصخيرات الساطعة.. الدم اليابسة تحت الشمس.. رتابة المحاكمة". في شاحنات متهالكة صعدوا على جبل متعرج، حين وصلوا ليلا تم توزيعهم على مجموعتين؛ أ و ب، كان "سليم" ضمن الثانية، عيونهم معصوبة وأيديهم مُكبلة، لم تُرفع عنهم القيود والعصابة إلا باليوم التالي "حين رفعوا العصابة عن عيني لم أر سوى العتمة.. ظننت أني فقدت البصر، لقد وُضعنا في سجن شُيّد كي يبقى، غارقا في الظلمات".

المقاومة

الإرادة حالفت بطل الرواية، تعلمها من والدته، ربّته وإخوته بمفردها، وقت أن ولّى أباه ظهره للمنزل؛ كان مهرّج الملك، يصحبه أينما ذهب، يتفنن في إضحاكه، يدلف منزلهم أحيانا لينام، كأنه فندق لعابري السبيل. أنفق ماله على الخياطين كي يلبس الحرير، لعله يليق بالسلطان، فيما فعلت والدته كل شيء ليستكملوا التعليم، لكنهم بلغوا بالكاد حد الكفاف، ظلت والدته صلدة، قالت لهم حين طردت الأب المتكاسل من المنزل "لا أرضى بتنابلة في بيتي، ولا بالمتأخرين في دراستهم، أنا منذ الآن، أمكم وأبوكم"، كان "سليم" كلما استبد به الفزع تذكر أمه، متصبّرا ببعض الكلمات "الإيمان ليس هو الخوف. الانتحار ليس حلا. المحنة تحد. المقاومة واجب وليست فرضا. والحفاظ على الكرامة هو الشرط المطلق"، أما أباه المزعوم فقد تخلى عنه عقب اعتقاله، قاسما للملك أنه يتبرأ منه.

ما هي إلا تفاصيل بسيطة اقتات عليها السجناء، انشغل كل واحد منهم بشيء؛ كريم صار ساعتهم الناطقة، إذا ما سأله أحدهم عن الوقت يُجيب باللفتة "كان هادئا. صافي السريرة.. وكونه حارس الوقت توهم أنه لا ينتمي إلى المجموعة، فقد اهتدى إلى مكانته في كنف العتمات، كانت تلك طريقته للتشبث بالحياة"، أما "الحسين" فوجد ضالته في مكنسة، إذ كان الحرّاس يرفضون دخول الزنازين بسبب قذارتها، وبينما كان يُنظف وجد حلقة معدنية في طرف المكنسة، عكف هو وبطل الرواية على تقليمها لتكون شفرة حلاقة، دارت بينهم لمدة شهر، حلقوا بقليل من الماء وبلا ضوء، وبشفرة أخرى نحتوها، صنع "الحسين" خمس إبر، رقّعوا بها ملابسهم الهشة، إذ احتفظوا -لحسن الحظ- بملابس الموتى معهم في الزنازين.

الموت الأول

"كان البرد يمنعني من التفكير.. ويُسمعني أصوات أصدقائي.. ولكي نقاوم البرد ينبغي أن نتكلم.. أن نتغافل عن وخزه.. ننكر وجوده.. أن نرفضه"، لم يفعل "الصعداوي" ذلك، وهو أحد المُلحقين بالسجن فيما بعد، استسلم للصقيع، قال السجين المجاور أنه ما عاد يسمع صوت تنفسه، دلف أحد الحراس الحُفرة، ثم قال "إنا لله وإنا إليه راجعون"، تلا السجناء القرءان بصوت مسموع، خرجوا ليدفنوه في الباحة، كانت تلك نُزهتهم الوحيدة. احتقر "سليم" نفسه، فقد كان يشعر بالحرية لدقائق، فقط حين يرحل أحدهم.

طعام؟ هذه تسمية مُجحفة. كان سجناء العنبر ب في "تازمامرت" يحصلون على قمامة تؤكل، القهوة الصباحية "منقوع جوارب"، الخبز المصاحب لها "على شاكلة عجلة السيارة. لو أن أحدا يجيد رميه لتمكن من قتل من يصيبه، كان خبزا من أسمنت"، أما النشويات فصباحا ومساءً، كعلقم يكتبه الطبيب لهم لئلا يهلكون "النشويات كآبتي وصحبي وزائري وعادتي القسرية، حصتي من السعرات، نشويات مطبوخة بالماء بلا بهارات، بلا زيت، ولمرة أسبوعيا تُطبخ بشحم الجمل، رائحة حرّيفة لا تُطاق، لكنني ألتهم ما بطبقي سادا منخاري"، يحكي "سليم".

"العربي" المسكين أحد سكان المُعتقل لم يحتمل البُعد عن التدخين، ظل شهرا يُكلم نفسه، كان أنينه مسموعا إذ يردد "الموت لا يُبالي بي. ولكن دعوه يمر، أحسنوا وفادته. هذه المرة سوف يأخذني أنا، من المؤكد أني راحل، وهناك سوف أدخن سيجارة". "رشدي" قتله الحقد، كان "سليم" كلما حاول التخفيف عنه يصرخ كحيوان مذبوح، أقسم لرفقاء "تازمامرت" أنه سيقتل الحراس والأسرة المالكة وكل من تسبب في سجنه دون ذنب، تم دفنه ليلا بصيف 1978، قبل أن تنزل العقارب ضيفا على آل الحُفرة، أطلقها أحد مسئولي السجن فجأة "وإلا كيف قضينا خمس صيفيات متتالية دون أن نراها؟".

كان "سليم" مريضا؛ مفاصله خذلته، فهو يمكث دائما في وضعية الجنين داخل الزنزانة، إما هربا من العقارب، أو ليجترّ بعض الدفء، مرارته تفرز ذلك السائل المقيت الذي أغرق فمه، ولم تُفلح محاولاته لاستفراغ ما بمعدته، لكنه وقد أقسم أن يقاوم، كان يهرب بطريقته الخاصة؛ يُصلي. لا يجد ماءً ليتوضأ؛ فيناجي الله "أعنّي على أن أخرج، لطفا، من جسدي هذا الذي ما عاد يشبه جسدا، بل رزمة عظام مشوهة"، أو يُرسل خطابا لن يصل لوالدته "يُمّا الغالية. إني أرفع رأسك. لا أقاوم فحسب، بل أعين الآخرين على تحمل ما لا يُطاق.. أمّاه أشعر بأنك حزينة. كنا نرتاب بأن هناك ما يُعد لنا سرا، غير أننا فعلنا ما ينبغي أن يفعله الجنود، تبعنا قادتنا. لم أقتل أحدا ولم أطلق رصاصة واحدة".

في الزنانة رقم 8، قضى "مصطفى" بلدغة عقرب، صارع لليلة كاملة، دخل الحرّاس صباحا ليجدوا العقارب وقد تجمعت حول جثته تقضمها، عقب دفنه بأيام بدأ "موح" يحادث نفسه وأمه؛ يُعد لها طعاما خياليا، كف عن الاغتسال والأكل ثم مات، وسط الجو المشئوم ثمة أحداث حملت للرفاق مزاحا سخيفا؛ سمعوا يوما صوت نباح، كان النظام قد قرر أن كلبا أخطأ ويجب أن يُعاقب برميه في المعتقل، أطلق السجناء عليه اسم "كيف كيف"، كان نباحه مؤذيا، تراكمت فضلاته بالمكان فضايقتهم الرائحة، جُن الكلب، فخاف الحراس من إطعامه، حتى قُتل جوعا وإنهاكا، فيما ابتلع "عبد القادر" آلة حادة، فتقيأ دما ومات على فوره.

ضيف جديد

التحف "سليم" بحكايات يرويها لزملاء الجحيم كي يُهون عليهم وعلى نفسه؛ فيلما أجنبيا يتذكره، رواية قرأها، أبيات من شعر، أو يستكمل مناجاته لله سرا، يفعل أي شيء كي لا ييأس "كنت مستعدا أن أترك لهم جسدي شريطة ألا يستولوا على نفسي.. إني لا أناضل ضد العالم بل ضد المشاعر التي تروّد جوارنا كي تجذبنا إلى بئر الكراهية، إني لا أصلي من أجلي، وليس رجاءً بشيء، بل دفعا لشقاء البقاء.. أصلي دفعا للقنوط الذي يهلكنا". مع الوقت علم "سليم" أنه لا فائدة من قتل الملك الظالم لكي يُستبدل بطغمة عسكرية يتقاسمون الثروات والبلاد، شعر بالارتياح لأن الانقلاب أخفق، فمن يدري قدر المرارات التي سيتجرعونها على يد دكتاتورية عسكرية جديدة.

"حرية" كان اسم ضيفتهم الجديدة؛ يمامة حطت على كوّة تعلو زنزانة بطل الرواية، ما إن أخبرهم "سليم" عنها، حتى راح الرفاق يُملون عليها قائمة رسائلهم للعالم الخارجي "قولي لزبيدة خطيبتي أن تنتظرني. زوري قبر والديّ وصلي لروحيهما. أخطري منظمة العفو الدولية بظروف عيشنا هنا"، كانت أملا ضعيفا أمام الهلاك المتمكن منهم بشتى الطرق، حتى التافه منها. إذ أحدهم قضى نحبه عقب أيام بسبب الإمساك، آخر كان ذراعه مجروحا وعظمة المرفق بارزة خارج الجسد واللحم مُصاب بغرغرينا، فتعفّن الجرح، وأكلته الصراصير.

رغم حصار الموت كوحش أسطوري، غير أن المعجزات تحدث؛ فـ"واكرين" جار "سليم" في العنبر، أخبره أنه سيحصل على قلم وورقة، سيسربهما أحد الحراس لأنه تجمعه به صلة قرابة من بعيد، وعقب انتظار 3 أشهر حصل السجين على مبتغاه، طلب من بطل "تلك العتمة الباهرة" أن يكتب رسالة لزوجته، مفادها أنهم في "تازمامرت"، ويا للعجب، استطاعت الزوجة إيصال مشكلتهم للرأي العام، كتبت الصحافة عنهم، المعلومات شحيحة، لكنها أحدثت ضجة، كانت 18 عاما قد مرت، وتساقط الجميع إلا قليلا "من أو ماذا أشبه؟" تساءل "سليم"، يمرر يده على وجهه فتفزعه الإجابة.

سبعة قبور

اقتربت النهاية، هكذا علم السبعة الباقون حين خرجوا لدفن أحدهم، فوجدوا سبعة قبور محفورة، تنتظر أجسادهم الهزيلة، قضوا ليلة ظلماء، فالصباح يحمل موتهم، لكن الجلادين خالفوا التوقعات حين جاء أحدهم ليسأل السجناء عن نوع الطعام الذي يفضلونه، بينما اُدخلت تحسينات طفيفة على حالهم البائس.

"سليم" كان يُحتضر "ما عاد جسمي ينصاع إليّ، لم أكن بطلا، بل رجلا لم تفلح ثمانية عشر عاما من الشدة أن تنزع منه إنسانيته"، ويسمع أصوات الراحلين "نشأت ألفة بيني وبين الملاك عزرائيل، كنت أراه متواضعا، مُجلببا بالبياض، صبورا مطمئنا، كان يُخلف وراءه عطر الجنة، كان ذلك أجمل بكثير من صورة الموت حامل ذي الهيكل العظمي حامل المنجل"، لكن موته لم يحن، فعقب هذه الرؤى عايش أسوأ ليالي اعتقاله على الإطلاق. تحديدا في الثالث من سبتمبر 1991.

في ذلك اليوم، صعد المعتقلون إلى شاحنات، ابتعدت بهم عن السجن. أعينهم معصوبة، بالطريق الوعرة التي ساروا فيها توقفوا لبرهة، كيما تمر بجانبهم شاحنات أخرى، سمع "سليم" السائقين يتحدثون؛ ليست شاحنات، بل "بلدوزرات" جاءت لهدم "تازمامرت"، اُسقط في أيديهم "أطرق عظامك، أهرس لحمك، أدعك تموت بجرعات قليلة من النور ثم أنكر كل ذلك. معتقل في تزمامرت؟ من الصفيق الذي يفكر أن بلدنا قد ترتكب هذه الفظاعة! إنها صنيعة أعداء بلدنا، أولاء الذين يحسدون استقرارنا"، كان ذلك الخطاب يطنّ بداخل "سليم"، بينما يهذي لسانه "ما هو أفظع من الفظاعة؟... نفي وقوعها".

ولادة مُتعسرة

سرير وطعام وطبيب، أساسيات حصل عليها الرفاق عقب عشرين عاما، لم يعتد "سليم" هذه الرفاهية، لذا قبل إطلاق سراحه كان ينام على الأرض في الغرفة التي نُقل إليها. لا يأكل اللحم، إذ لن تهضمه المعدة، ولا ينظر أبدا إلى المرآة، غير أن نظرة خاطفة وقعت حين عاينه الطبيب "إن ذلك الوجه المخطط بالتجاعيد والغموض، المذعور المُرعب، وجهي أنا، أغمضت عيني، أحسست بالخوف من عينيّ الزائغتين، ومن تلك النظرة التي أفلتت من الموت، ومن ذلك الوجه الذي شاخ وفقد سيماء إنسانيته"، بعد شهرين من العلاج خرج البطل "كنا في تشرين الأول 1991، وكنت قد وُلدت لتوي".

من قال إن ولادة "سليم" كانت يسيرة؛ فقد الرجل 14 سنتيمترا من طوله بسبب انحناءه داخل الحُفرة، صار لديه حدبة، اُصيب قفصه الصدري بتشوهات وانخفضت قدراته التنفسية، يجرجر ساقه اليمنى أثناء السير، كان الأطباء يعجزون عن تفسير بقاءه حيا، وكذا يعجزون عن علاج والدته من السرطان. لاقاها أخيرا، قالت "يا بُنيّ إني أدرك ما قاسيته، إني أعلم مقدار ما يستطيعه البشر إذا قرروا أن يؤذوا بشرا آخرين"، ثم باغته فضولها "قل لي، يبدو أن تازمامرت لم يكن موجودا يوما؟"، لم يملك إجابة، ولم تكن لديه رغبة في الذهاب هناك للتثبت من الأمر، يكفيه ما خيّم بروحه من العتمة الباهرة.


تابع باقي موضوعات الملف: 

هل أتاك حديث السجون؟ (ملف خاص)

 

الطريق إلى ''زمش''.. ''لما الشيوعية ماتت م الضحك''

 

'سجينة طهران''.. فصل من حياة فتاة إيرانية داخل سجن ''إيفين''

 

يا صاحبي السجن''.. حكاية ''المعتوم'' بعد 100 يوم سجن

 

في ''شرق المتوسط''.. كلنا سجناء

 

''شرف''.. حين يُحول السجن الإنسان إلى ''مسخ''

 

''حيونة الإنسان''.. طوبى لمن غنّى خلف الجدران

 

فيديو قد يعجبك: