حقيقة اغتيال "مبارك" والتعذيب.. حين كان السبق الصحفي لـ"مدونة"
كتب-إشراق أحمد:
العهدة على الراوي، والبينة على مَن ادعى. والرواية والادعاء في بلاط صاحبة الجلالة بالسند والتوثيق، وإن كانت الحقيقة واقع، يحتم على الصحفي نقله دون تزيين، لكنها ليست حكرا عليه، ففي دورة حياة المعلومة، يستقبل صاحب القلم الكلمات، يتأكد ويبحث وراءها، ثم يدونها، بجريدة ورقية أو إلكترونية، وربما احتفظ بها في كتاب غير منشور حتى حين، والبعض لم يطق السكوت برؤية فساد أو خطأ، لم يكتف بأن يكون وسيط بين معلومة وصحفي، فارتدى عباءة الأخير، وتصدى بالكتابة والنشر، لما قد توضع القيود على أرباب مهنة القلم لتناوله، فأخرج قضايا عبر نافذته الشخصية، في مدونة أو حساب فيسبوك، كان له السبق بها، ووافر الحرية في التعبير عنها، قبل أن تتلقفها الصحافة ويلتفت إليها الإعلام مناقشة وبحثا.
منذ التسعينيات وحتى عام 2009 كان للمدونات دور كبير في إثارة وتفجير قضايا لم تكن مطروحة في الصحافة والإعلام كما يقول جمال عيد رئيس الشبكة العربية لحقوق الإنسان، مشيرا إلى قضايا التعذيب، وضباط أمن الدولة، وكشف حالات فساد، وهو ما كانت تتلقفه الصحافة التقليدية في هذا الوقت بالنقل أو الهجوم، طارحا مثال فيديو تعذيب عماد الكبير، الذي نشره المدون وائل عباس بمدونته "دماغ ماك".
"عباس" وقضية عماد الكبير
نحو العام ظل وائل عباس يكتب وينشر عن تعذيب المواطنين على يد ضباط الشرطة، يتذكر المقطع المصور لضابط يصفع مواطن على قفاه، لكنه لم يكن بشهرة فيديو "عماد الكبير" عام 2006 الذي كان أكثر فجاجة وصدمة، فضلا عن تزامن نشره بعد "فضيحة سجن أبو غريب" حسب قول "عباس".
منذ بدأ "عباس" مدونته أوائل عام 2005، والهدف جلي في عيون المدون حال مجموعة الكتاب المتخذين من المدونات سبيلا، كسر "تابوه" السياسة، والرقابة المفروضة على الصحافة "في عهد مبارك كانت الصحافة مدجنة لها قواعدها بتحاول متصطدمش مع النظام"، ولهذا رأى "عباس" أنه لا سبيل عن وسيلة تخترق بسلاسة كل هذه الحدود.
حصل "عباس" على فيديو التعذيب الخاص بـ"عماد الكبير"، الذي تحول لقضية ضد معاون مباحث قسم بولاق –حكم بالسجن 3 سنوات- عبر مدون أخر، لكن قيامه بتغطية المظاهرات والإضرابات التي كانت الصحافة بعيدة عنها حسب قوله، جعلت له معرفة مسبقة، أتاحت انتشار هذا الفيديو على نطاق واسع.
اعتصام القضاة 2005، التحرش بوسط البلد 2006، اضراب المحلة، تجاوزات استفتاء دستور 2005... يعدد "عباس" أبرز القضايا التي حطم المدونون أبوابها، لتتلقفها الصحافة ووسائل الإعلام بالتداول، وكان لهذا مقابل دفعه بعض المدونون، بدءً من محاولة حظر المدونة، التهديد من قبل الأمن، وتشويه السمعة في الإعلام كما يقول "عباس": "كان في ناس من الداخلية تطلع تقول أني سوابق".
لم يكن كسر سقف المعارضة هو الوحيد، الذي قامت به المدونات، بل الحاجز الفكري لمن ينقل المعلومة، الصورة الذهنية المأخوذة "أن مفيش حد يعمل شغل في الشارع أو يسجل مع الناس غير الصحفي" كما يقول "عباس".
"مبروك" وقضايا بورسعيد
على عكس "عباس" الصدفة هي ما دفعت تامر مبروك للتدوين، حتى صار وصف "المدون الصحفي" أحب الألقاب إليه، وقع بيده نص التحقيقات في قضية محاولة اغتيال الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في بوسعيد عام99، بينما كان الشاب البورسعيدي، في مصاف انشغاله بالسياسة، وقيامه بمتابعة أخبار حزب الغد، ثم الانضمام لحركة كفاية، وجد "مبروك" أنها فرصة لتبرئة أهل محافظته من بهتان عوقبت بسببه، ورجل بسيط قتل في سبيل توصيل صوته، فقتل واتهم بمحاولة اغتيال رئيس الدولة.
رأي "مبروك" أن الصحافة لم تكن لتتحدث عن قضية تتعلق بالرئيس في هذا الوقت، لذا قرر أن يتحرى بنفسه، ذهب إلى أٍسرة " السيد سليمان" الشهير بـ"أبو العربي"، قرأ نصوص التحقيقات لأكثر من مرة، واستعان بما يؤكد من مصادر صحة المكتوب، حتى جاء يوم النشر على مدونته "الحقيقة المصرية"، بكتابة تحقيق "حقيقة اغتيال مبارك في بورسعيد"، نشره عام 2005، وأعاد نشره مرة أخرى في سبتمبر 2012، بعد أن حول المدونة إلى موقع إلكتروني بالاسم ذاته.
قامت جريدة الدستور الأسبوعي في عددها قبل الأخير بنشر ما كتبه "مبروك"، بالإشارة إلى اسم المدونة، دون هويته الشخصية، التي لم يلتفت حينها الشاب البورسعيدي لإظهارها "لقيتهم بعتولي رسالة بيستأذونوا أنهم ينشروا التحقيق".
التحقيق الأول لـ"مبروك" فتح له باب العمل بالصحافة، التحق بتجربة الدستور، ثم البديل، لكن لأسباب لا يعلمها لم يستمر في الأولى، رغم إرساله لبعض التحقيقات الكاشفة للفساد حسب قوله، فيما كانت التجربة الثانية غير مجدية ماديا، بينما كان الشاب مقبل على الزواج، ولا يستطيع توفير ما يجعله يتفرغ للصحافة.
المدونة بالنسبة لـ"مبروك" كانت "حياة" كما يصفها، ينشر ما يستحق أن يعرف عن بورسعيد بالصوت والصورة، مولع بالتفاصيل، لذلك حين مرضت زوجته بالحصبة الألمانية، حال كثير من العاملين بمصنع "اللوتس"، أحد أشهر المصانع التي يزورها مبارك، وأحمد نظيف رئيس الوزراء حينها، لم يكن أمرا عابرا له، تحقق حتى علم أن السبب شحنة ملابس من إسرائيل، بعد أن نفض العاملون بالمصنع مسحوق كان عليها "وكنت أول حد يتكلم عن موضوع الحصبة الألمانية في مصر" حسب قول "مبروك".
فُصل "مبروك" حينها هو وزوجته من المصنع، وقيدا "بالكلابش" إلى القسم، إذ تقدم المصنع بمحاضر ضده، بعد أن انتشر ما كتبه على مدونته، لكن وقوف العديد من المحامين، والجمعيات الحقوقية، التي بدأت تتابع ما يكتبه منذ تحقيق اغتيال مبارك، أحال بتصعيد الأمر ضده.
"مصنع الموت" في بورسعيد، كان التحقيق، الذي تسبب في الحكم على "مبروك" بدفع غرامة تصل إلى 42 ألف جنيه، بعد أن كشف ما يتسبب به مصنع الكيماويات "تراست" الذي يعمل به، من إلقاء مخلفاته في الصرف الصحي "وكانت أول قضية تترفع ضد مدون"، كان ذلك عام 2008، حين تم اتهامه بالإضرار بسمعة الشركة، والسب والقذف.
انتشر صيت قضية "مبروك" بشكل تخطى المحلية، وأضحت المؤسسات الحقوقية الدولية تكتب عما يكتبه ويحدث للشاب، الذي كان من أسباب الحكم عليه بالغرامة المالية الكبيرة، اتهامه أنه "صاحب شركة جوجل" في مصر "محامي الشركة طبع 1200 صفحة من المدونة منها موضوع اغتيال مبارك وده خلى القاضي يقتنع أني بتمول من جهات خارجية" حسب قول صاحب مدونة "الحقيقة المصرية"، لكن القضية سرعان ما ماتت، للتأكد أن الشاب المفصول من مصنع الكيماويات لم يكن ليمتلك ذلك المبلغ، فضلا عن ذيع صيت "مبروك" باختياره أشهر مدون عام 2010 وتكريمه من قبل المؤسسة الألمانية دويتش فيلا".
أحداث سجن بورسعيد عام 2013، أبرز أخر ما نشره المدون البورسعيدي، وأحدث صدى واسعا، فيما لم ينقطع عن الكتابة غير الدورية، ودراسة الصحافة، طالما كانت تطارده، حتي حينما يعزف عنها، متحدثا عن المرة الوحيدة التي قرر بها مؤخرا مغادرة البلاد، والعمل بعيدا عن السياسة بعد ما تكبده من ضيق مالي حاد، ليقع في مشكلة تتعلق بالكفيل في قطر، ويبصر أزمة جديدة للمصريين المحتجزين هناك، ليعود ويقرر عمل مدونة باسم "الكفيل" تتفرغ لهذا التحقيق حسب قوله.
كسر القيود
المدونات أتاحت فرصة لمن يريد البحث والتعمق على التفاعل، وهو ما لم تكن تقدمه الصحافة في ذلك الوقت، إذ أصبح الانترنت خاصة منذ عام 2006 "خصم عنيد" حد تعبير رئيس الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، الذي يشير إلى أن "أغلب الصحفيين الموجودين الآن بدأوا كمدونين".
يرجع "عيد" الإقبال على التدوين، حتى بلغ عدد المدونات عام 2007 نحو 200 ألف، نصفهم فاعل بشكل كبير إلى "شدة السيطرة الحكومية على الإعلام التقليدي"، في الوقت الذي يتيح الانترنت وجود "100 ألف جريدة مختلفة القراء".
كان للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان تجربة، في إظهار دور المدونات، الذي نافس الصحافة في وقت سابق، في محاولة لنقل ما تقوم به المدونات للصحفيين والكتاب، وتم إصدار جريدة باسم "وصلة" تحوي مضمون العديد من المدونات وبلغ عددها 81 عدد حسب قول "عيد"، الذي يوضح أنه رغم اختلاف المجالات التي تناولتها المدونات لكن السياسة كان لها الحضور الطاغي.
صحافة التواصل الاجتماعي
خبى دور المدونات قليلا عن السابق، وباتت مواقع التواصل الاجتماعي بعد عام 2009 هي "القاطرة" التي تعلب دور رئيسي فيما يطرحه الإعلام حسب قول "عيد"، فضلا عن دورها في الحشد، لما بها من خاصية "الشير"، وهو ما غاب عن المدونات، مشيرا إلى حركة 6 إبريل وصفحة خالد سعيد في الثورة المصرية، ونقل أول أخبار الثورة في السويس، والدور الذي لعبته مواقع التواصل الاجتماعي بشكل عام و"تويتر" بشكل خاص في ثورات الربيع العربي.
"قناص العيون" إحدى الفيديوهات، التي تلقفتها الصحافة حديثا، ويظهر لحظة تعمد إصابة النقيب محمود الشناوي لأحد المتظاهرين في شارع محمد محمود في نوفمبر 2011، وهو ما كان سببا في تقديمه للمحاكمة.
التفاعلية غير المتوفرة في الصحافة، السرعة، سهولة النشر، قلة التكلفة، صعوبة الرقابة، إذ تأتي في المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي بعد النشر، هو ما يجعل المدونات ومواقع التواصل تكسب أرضا جديدة، مقابل "ترنح الصحافة التقليدية" في المواجهة حسب تعبير "عيد".
عدد الزيارات، والمشاهدات للمدونات بالسابق والتفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي، يراه "عيد" دليلا على تقبل الجمهور لوجود مثل هذا النوع من "الصحافة البديلة"، قائلا "في مدونات كان يصل عدد زوارها 20 ألف في اليوم وأكتر" وهو ما قد يتجاوز عدد زوار أو شراء جريدة يومية حسب "عيد"، لافتا إلى أن بلوغ عدد مستخدمي الانترنت 55 مليون -35 مليون مستخدم فيسبوك و8 مليون مستخدم تويتر- يدفع لتغيير النظرة نحو الصحفي التقليدي المنتمي لجريدة أو موقع إلكتروني.
السبق ودفع الثمن
يرى "عباس" إن المدونين في مصر، أصحاب السبق في الكتابة عن قضايا غير متداولة، بشكل أقرب إلى الصحافة، معتبرا التجارب العربية والعالمية تميل إلى الذاتية، بطريقة أشبه باليوميات حال المدونات التي خرجت بعد الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 "محدش كان بياخد الكاميرا وينزل الشارع ويتكلم مع الناس".
التعامل مع الشارع، لم يكن سهلا على المدونين، إخبار أحدهم أنه سينشر على مدونة في وقت كان "الناس بتسأل يعني إيه انترنت أصلا" كما يقول "مبروك"، كان إحدى الصعوبات التي تجاوزها لرغبة الناس حينها في إيصال صوتهم حسب قوله، فيما كان حمل الهاتف والتصوير في الأحداث، نقطة قوة بالنسبة له "كل الأنظار كانت تتجه للي معاه كاميرا احترافية وكانوا بيسألوه تبع مين"، فيما بهدوء يحمل هاتفه ويقتنص ما يصعب على الصحافة الحصول عليه.
وعن تعامل النظم الحكومية مع "الصحافة البديلة"، واعتراضها، يقول "عيد" إن الانتباه للدور الذي تحدثه المدونات ومواقع التواصل بدأ مبكرا، حتى حينما ضم المدونون على مستخدمي الفيسبوك عام 2008، وهذا ليس مقتصرا على مصر، إذ يشير رئيس الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان إن عدد سجناء الرأي بسبب التعبير على الانترنت بلغ 70% من عدد السجناء في العالم.
لازال أرشيف المدونات يحتفظ بما سُكت عنه، وتفجر في لحظات، وصار مخاض حديث لأيام، تحولت وجهة "عباس" لمواقع التواصل الاجتماعي، عملا بيقين أنها الوسيلة الأكثر انتشار الآن، فيما لم يزل "مبروك" موقنا أن المدونة هي "العجلة الاستبن" الأقدر على تحريك الأمور، وتوثيق الحقيقة، ووصولها إلى القارئ كلما تطلب الأمر.
اقرأ باقي موضوعات الملف:
حسام السكري: نقابة الصحفيين لها وقفات شجاعة.. والسلطة تحتكر كل المنابر (حوار)
''مصراوي '' يحاور أحد مؤسسي حملة ''الرقة تُذبح في صمت''
هل يضع الصحفيون في مصر رقابة على أنفسهم؟ (تقرير)
أعمالصحفية غيرت مجتمعاتها.. أثر الإعلام ''يٌرى''
سيرة أول شهيد للصحافة في الثورة.. السلطة الرابعة ''مجابتش حق ولادها''
بالفيديو والصور: إعلاميون بلا ''إعلام''.. كيف يقتل أبناء المهنة المصداقية؟ (تقرير)
وصيفات (صاحبة الجلالة) يروون لـ''مصراوي'' كواليس مغامرات كسرن فيها حاجز الخوف والخطر
مؤمن قيقع..وقع خطاه بـ ''كرسي متحرك'' يُغضب ''إسرائيل'' (حوار)
فيديو قد يعجبك: