"صوتٌ مُعلقٌ بالقرآن".. مصراوي ينشر مقطتفات من حياة "المنشاوي"
كتبت- دعاء الفولي وإشراق أحمد وعبد الله قدري ويسرا سلامة:
في شهر رمضان من العام 1952، بقرية آبار بمركز أخميم في سوهاج، حيث يقضي الشيخ صديق السيد تائب المنشاوي تمام الشهر لإحيائه، كان الابن "محمد" يصحب أبيه، يرافقه، ويستمع حال أهل المركز لقارئ القرآن صاحب الصيت المعروف بالصعيد، غير أنه بإحدى الليالي استشعر الأب التعب بعد وصلة تلاوة، ذابت معها القلوب وتعلقت بالسماء. وبوقت الراحة حتى استكمال السهرة القرآنية؛ نظر إلى "محمد" وأخبره أنه قد حان الوقت ليستلم مقعد التلاوة، ويُشدي الأسماع بما منحه الله له من صوت عذب، وأن يحصد الأب جزاء غرسه، فجلس محمد صديق المنشاوي مرتلا منذ تلك اللحظة ترتيلا ما انقطع عنه، وما كان ذلك عنه بغريب، وهو المعلق قلبه بكتاب الله منذ وضعته أمه صبيا، فحباه أباه شربة الإيمان، ليشتد عضده مرتلا القرآن أينما كان قياما وقعودا، معافيا مريضا، وما خاب أمله بعد لقاء ربه، فأخذت الآيات تنساب بصوته رغم مرور 47 عاما على وفاته.
بمنزل آل المنشاوي، تعاقبت الأجيال من صغار العائلة لحفظ كتاب الله على يد كبارهم، ظلت الأسرة القاطنة بسوهاج، كعرق قرآني يمد لسابع جد. فوالد الشيخ "محمد" والعم من القراء أرباب الصيت بصعيد مصر ووجهها البحري، بينهم عاش الشيخ صغيرا، ينهل من الكتاب الكريم احكامه، تنشر عذوبة صوته عبيرها على المحيطين، تتكشف موهبته للأب بعد أن بدأ يتعلم القرآن على يد الشيخ "محمد النمكي"، وحين أكد الأخير للوالد أن ابنه له مستقبل عظيم، اجتاحت الفرحة قلبه، فاشترى للصغير جبة وعمامة وقفطانا كمكافأة له، فشعر الشيخ "محمد" أن أبيه وضع على عاتقه مسئولية الالتزام بذلك الزي، فكان لا يُشبه بقية الأطفال.
القرآن صاحب الصغر والكبر
هادئ الطباع، لا يثير المشاكل خلاف الصغار كان "محمد"، ينهل من القرآن، حبا واعتيادا من بيت أهل الذكر. لا ينازعه في ذلك الوقت سوى حبه للعب "البلي"، تلك الكرات الزجاجية الملونة، يشارك بها نظرائه من الصغار، وهي ما تسببت كثيرا في ذهاب أبيه صديق المنشاوي شاكيا إياه لعمه أحمد السيد ظنا في انشغاله عن القرآن كما يقول "كمال المنشاوي-قريب الشيخ- لـمصراوي، غير أن العم دائما ما يقطع الشك باليقين، وينادي على الصغير "خد يا محمد إيه اللوح اللي أنت واخده النهاردة"، ويطالبه بتسميع ما حفظ، فيرتل محمد دون زلل، وتهدأ ثورة الأب في باطنه، لكنه لا يظهر هذا خشية أن يلهيه اللعب مرة أخرى عن كتاب الله.
كان الوالد حازما فيما يتعلق بكتاب الله، يُذكر أولاده أن ما حفظوا سيبقى بعد رحيلهم، لكنه بنفس الوقت كان يقسو على "محمد"، إذ اعتاد لسان الأخير على تجويد القرآن في كل مكان، وبأي وقت، فقرأ بضع آيات وهو طفل داخل "الخلاء"، إلى أن نهاه والده عن ذلك. حسبما يحكي علاء نور حفيد الشيخ.
نزل الشيخ محمد إلى القاهرة وهو ابن 11 سنة لتعلم علوم القرآن، وذلك بعد أن أتم حفظ القرآن وهو في سن ثمان سنوات. صيت واسع حمله الشيخ "محمد" بالقاهرة، مدفوعا بصيت سابق لوالده الشيخ "صديق". دلف إلى القاهرة لدراسة الثانوية العامة وعلم القراءات، قبل اعتماده كمقرئ للقرآن من يد الشيخ محمد سعودي الذي تعلم على يده الترتيل، ثم جاءت حكاية "المنشاوي" مع إذاعة القرآن الكريم.
"المنشاوي" استثناء الإذاعة
قصة المنشاوي مع الإذاعة بدأت قبل أن تطأها قدمه، ففي ثلاثينات القرن الماضي، كانت انطلاقة الإذاعة المصرية، ومع نمو برامجها ودخولها إلى بيوت المصريين، كان الحلم ينمو في ذهن "محمد"، حتى عام 1954، حيث دخلت منزل آل المنشاوي على يد الشيخ "صديق"، كما يسرد "حامد-الأخ الأصغر للشيخ- لمصراوي.
لم يكن الشيخ "صديق" صاحب صيت الواسع بين الإذاعيين، لكن له ثماني شرائط مسجلة للقرآن الكريم لدى هيئة الإذاعة البريطانية فقط، ولأنه لم يكن متحمسا للإذاعة فقد دفع الابن محمد لها، حين كانت بعض العاملين بها يطوفون الصعيد ليسمعوا، وما أن قرأ عليهم "المنشاوي" حتى انضم للإذاعة دون اختبارات، وصار ابن سوهاج قارئا مُعتمدا، ينتظره أهل مركز "المنشآة" مع دقات الثامنة مساء يوم الأربعاء من كل أسبوع، بعد أن يذيع الأفراد بالشوارع أن تلاوة الشيخ محمد صديق المنشاوي ستبدأ، فيلتفون حول الراديو منصتين له، متأثرين به.
كان الشيخ "المنشاوي" مُنكبا على عالم القرآن، يُصاحب أهله ويتقرب منهم، فعقب انتقاله للقاهرة لم يخل منزله بحدائق القبة من ندوات للمقرئين، يحضرها عدد منهم مثل الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، محمود البنا، محمود الحصري، مصطفى إسماعيل وكامل يوسف البهتيمي.
فتح القرآن للشيخ "محمد" أبواب المحبة. بقيت سيرته عطرة في كثير من البيوت، كان يطوف محافظات الصعيد فيتسابق الناس كي يستضيفوه بمنزلهم. ولم يكن ذلك إلا غيض من فيض جولاته في الدول العربية، فحينما ذهب لسوريا قدمه مذيع مسجد "لالا مصطفى باشا" في إحدى الحفلات على أنه مقريء الجمهورية العربية"، وهو لقب لم يحصل عليه قاريء قبله، حسبما يروي الحفيد.
في عالم السياسة كان للشيخ "محمد" دورا يربطه أيضا بعالم القرآن، إذ يؤكد شقيقه "حامد" أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أرسله مع مجموعة من الشيوخ أبرزهم الشيخ عبد الباسط عبد الصمد إلى عدد من البلدان من أجل تأكيد الروابط الإسلامية، ومنها ملايو "ماليزيا" وباكستان وبورما سنة 1954 وذلك لمدة أربعة أشهر، مضيفا أن الشيخ "محمد" ظل لمدة العشر سنوات الأخيرة من حياته يتردد على ليبيا من أجل قضاء شهر رمضان كاملا في رحاب قراءة القرآن، يقول الشقيق "كان ملك ليبيا الملك السنوسي وقتها بيعامله معاملة الملوك"، رمزا لمدى التقدير.
بيت يزينه القرآن
رُزق الشيخ "محمد" من الذرية أحد عشر، حرص على أن يكون لهم من بعده حظا من قراءة القرآن وعلومه، فكان يأمرهم بحفظ كتاب الله ويصطبر على ذلك، فأتم أولاده حفظ الكتاب مثله، وورث عنه "عمر" و"صلاح" جمال الصوت، كما يقول "علاء" حفيد الشيخ.
في ساحة منزل الشيخ "محمد" بمنطقة حدائق القبة، كان اجتماع العائلة على مائدة الطعام، لا يمنع الشيخ محمد من التجلي، حسب قول الشقيق "كانت لما تجيله السلطنة بينطلق، كل ما تيجي آية في دماغه بيقولها". لم تكن للشيخ سورة بعينها يرددها أو تهزه، بل كل آيات القرآن الكريم، فيما يذكر "حامد" كسميع للقرآن إنه يفضل الاستماع لشقيقه في عدد من المواضع "لا تُسمع سورة يوسف إلا من المنشاوي"، لاسيما وأنه سمعه يقرأ حيا، فكان لوقع الكلمات سحرا آخر، إذ يتذكر الأخ رقص زوج أخته ذات مرة طربا من صوت شقيقه.
ولأن القرآن سبيل "المنشاوي"، فقد اتخذه وسيلة لإكرام أبيه، إذ بنى للشيخ "صديق" مسجدا باسمه في منزل آخر اشتراه بشارع مصر والسودان "في البيت دة كان في مساحة فاضية تحت قالوله أجرها محل.. فجدي قال لا هخليها مسجد باسم والدي".
تغيرت معالم منزل حدائق القبة حاليا، غابت عنه الحديقة المحيطة به، توفى عن منازل الجيران مَن عاصر صاحب الصوت الخاشع، وبقيت فقط جدران البيوت القديمة، رغم هذا أثر قارئ القرآن وسيرة عائلته باقية؛ بدت في اسم الشارع الذي بات معروفا باسم "صديق المنشاوي"، وأما المنزل فيحمل لافتة كتب عليها "رقم 3 محمود صديق المنشاوي".
في البيت الذي جمع العائلة المنشاوية، تقطن "عزة" ابنة أخت الشيخ "محمد". لم تنسَ كلمات أبيها ووالد زوجها عنه "كان قارئ قرآن على حق مش متخذه مصدر رزق"، وهو دوما ما تربطه باستشعارها "البركة" في المنزل، تستدل على ذلك بأنه لم يمسه سوء اقتراب اللصوص منذ سكنته بالثمانينات، رغم عدم وجود حارس عقار وانعدام الإضاءة عن مدخله، ولطالما كانت شقيقة الشيخ تقول لها "بيت القرآن استحالة يدخله حد سيء".
قلب يردد الذكر الحكيم
لم يجف لسان صاحب الصوت الخاشع، دوما يندى بكلمات القرآن، غير مكتفي بالترتيل والتجويد في الإذاعة والتليفزيون، والسهرات القرآنية داخل مصر وخارجها؛ فإن عاد لمنزله متأخرا صلى الفجر وواصل تلاوته حتى مطلع الشمس. وبمثل تلك الأوقات تمكن "كمال" من الاستماع لسورة البقرة كاملة وشيئا من سورة المائدة مباشرة بصوت الشيخ دون وسيط، فكان إن تواجد الشيخ بالمنشأة، وضع كرسيه في شرفه المنزل، وأخذ يرتل، فيما بالمنزل المجاور صغير مستيقظا، يستمع في خفاء من القارئ وغياب للسميعة دونه "كأنما كان يقرأ لي في سهرة خاصة".
تذوق "المنشاوي" حلاوة الذكر، فعمل على تعريفها لمن يستمع، فيسرد "كمال" ما حدث في بداية الستينات، حين نشر أحد الصحفيين مقالا ينتقد طريقة تلاوة الشيخ للآية 47 من سورة الروم "فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين"، إذ توقف "المنشاوي" عند كلمة حقا، ثم استكمل بقية الآية، وهو ما لم يفهم الكاتب مغزاة خاصة أنه ليس هناك حكم بالوقف. إذ استدعى هذا الموقف عمه الشيخ أحمد السيد إلى الاجتماع بالعائلة ليبحثوا إن كان الشيخ "محمد" اجتهد فأصاب أم أخطأ، ليردوا على أنفسهم قبل الرد على الكاتب بإنصاف الشيخ، خاصة بعد رؤية اكتمال المعنى بالوقوف، وهو ما يصفه "كمال" باهتمام لمسه في عائلة "المنشاوي" حفاظا على كتاب الله، فالأمر لم يكن مجرد تلاوة بصوت حسن.
الابتلاء قربى من القرآن
اشتهر "هرم الخشوع" كما يوصف "محمد" ليس فقط بالصوت العذب، بل بلمسة حزينة تدفع المستمع للورع، إذ كان يقرأ على مقام "النهاوند" بأغلب الأحيان. وهذا لا يرجع فقط لما تميز به أغلب قراء الصعيد، بل أيضا ارتبط ذلك ارتباطا وثيقا بما مر به، من وفاة أخيه الأصغر عمرا؛ "أحمد" صاحب الصوت الأجمل، والطلعة البهية كما عُرف عنه ب العائلة "كانت تتهافت النساء للنظر في وجهه لتلدن مثله" يقول "كمال" مَن انتقلت له قصة فقد الأسرة لوليدها الأول.
كان "أحمد" يدرس في الأزهر، حال شقيقه "محمد". لم يتجاوز العشرين من عمره، حين قرر الانتقال من السكن بشقة أخرى، وبينما يحمل رخامة كبيرة لإحدى الموائد، وقعت عليه، فلقى ربه على الفور في مارس عام 1947. تقبل "محمد" نبأ وفاة أخيه برضا وحمد حال أبيه، الذي سافر حينها إلى القاهرة واصطحب جثمان الابن عودة إلى سوهاج دون أن يقنط من أمر الله.
بعد 22 عاما من وفاة "أحمد"، بيوم الجمعة 20 يونيو 1969، كانت الشمس في أوج صحوتها بالظهيرة، حين دنى لسمع "كمال" ووالدته نحيب وجلبة تأتي من منزل الجد "صدّيق"، أخبرت الأم ولدها أن يذهب ليأتيها بنبأ عليم؛ وما أن فتح "كمال" باب الفيلا حتى رأى الجد جالسا على مقعده، تتدحرج السبحة بين أصابعه، فيما يتمتم فمه بآيات سورة الصمد وورد من التسبيح، لا يبدو على وجهه أي انزعاج، تأدبا مكث الصبي صامتا أمام الجد حتى يتحدث هو إليه، فنظر له الشيخ "صديق" سائلا عن مكان أبيه وجده، فأخبره الصغير ليضيف له الجد "بيقولوا خالك الشيخ محمد اتوفى إلى رحمة الله روح قول لأبوك ومتروحش لجدك عشان عنده القلب". نزلت الكلمات كالصاعقة على "كمال"، فيما لازال رغم مرور 47 عاما يتذكر هيئة الشيخ "صدّيق" بينما ينبئه بخبر الوفاة "كان ثابت كالجبال الراسيات كأنما يتحدث عن إنسان عايش سافر وراجع مرة أخرى".
التلاوة الأخيرة..
قبل أن يشتد المرض على جسد "المنشاوي"، كان مرض السكر قد ألمّ به، ثم أُصيب في بداية الستينات بمرض دوالي المرئي الذي كان سببا في وفاته. في أواخر أيامه كان الشقيق الأصغر "حامد" بجواره، نوبات ألم الدوالي كانت توثر على صحته، فيما يخرج من النوبة بوصلة قراءة هي الأفضل بحسب الأخ "كان بيقرأ قرآن بعد النوبة كما لا يقرأ من قبل"، فيما كانت التلاوة الأخيرة للشيخ "محمد" بمستشفى المعادي قبيل وفاته، التي جاءت في وقت كانت مؤسسة الرئاسة تتواصل من أجل إجراءات سفره للعلاج بالخارج، لكن أمر الله قد نفد قبل أن تتم الاجراءات، وفي يوم الوفاة انطلقت مواكب من الحزن والبكاء في المنشأة بسوهاج "كانت جنازته زي جنازة عبد الناصر في القاهرة.. جنازة مهيبة"، فيما تعاقب الشيوخ للعزاء منهم عبد الباسط والبنا ومصطفى إسماعيل لإحياء المأتم.
لم يتغير الإيمان والصبر الذي استقبل به الشيخ "صديق" وفاة ابنه البكري "محمد" عن نبأ وفاة ولده "أحمد" حتى صار موصوفا بـ"أيوب عصره"، لكن شيئا من إظهار الفقد انفلت عنه بعد رحيل صاحب الصوت الخاشع، فيحكي "كمال" أنه ظل في تمام الثامنة مساء، كل أربعاء، يجلس بالشرفة التي اعتاد ابنه المكوث بها، ثم يفتح الراديو، ويدخل في خلوة لمدة نصف الساعة، يغلق بها عينيه، يتمايل ذات اليمين وذات الشمال، بينما يستمع لتلاوة "محمد" التي داومت الإذاعة على بثها في ميعادها، ولم يكن ليتجرأ أحد الاقتراب من الشيخ في هذا الوقت.
تابع باقي موضوعات الملف:
المنشاوي'' على خطى الهادي.. ''كان خلقه القرآن''
الأسرة القرآنية.. توثيق ''الشطوري'' و''العمدة'' لحياة ''المنشاوي'' في كتاب
بالفيديو.. كيف بُعث ''المنشاوي'' للتلاوة بعد 47 عاما على وفاته؟
في حب ''المنشاوي''.. حكايات ''عسكري التشريفة'' والتنقيب عن تسجيلاته
عائلة ''المنشاوي''.. نبت قرآني (إنفوجراف)
محمد صديق المنشاوي.. ''مزمار'' القرآن (ملف خاص)
فيديو قد يعجبك: