ما يحدث بقرية الصنافين وضواحيها بمحافظة الشرقية ليس حالة فردية، حيث ضبطت إدارة الرقابة التموينية بوزارة التموين 554 قضية سرقة لأموال الدعم المخصصة للخبز على مستوى محافظات الجمهورية، بين عامي 2017 و2020، وتتنوع هذه القضايا بين 219 قضية تجميع بطاقات، و335 قضية بيع دقيق مدعم في السوق السوداء.

بخلاف القضايا التي حررتها إدارة التفتيش، بسبب عدم تطابق كميات الدقيق مع عدد أرغفة الخبز التي سُجلت كمبيعات على "سيستم" منظومة الخبز من خلال الماكينات الإلكترونية الخاصة بالمخابز، حيث حررت إدارة التفتيش 6 آلاف و858 محضر تصرف لأصحاب مخابز خلال عام 2020، وفقًا لبيانات وزارة التموين. وفي قضايا التصرف يغرم صاحب المخبز بضعف الثمن الحر لكل شيكارة دقيق عجز، بحسب طلعت حسن، وكيل وزارة التموين بالجيزة.

مخالفات المخابز للاستيلاء على أموال الدعم

تجميع البطاقات التموينية

صرف بدون بون

إنقاص وزن الرغيف



بيع الدقيق في السوق السوداء

توقف المخبز في مواعيد العمل

تصرف في الدقيق

تجميع الدقيق


وخلال شهري يناير وفبراير من العام الحالي، ضبطت لجان التفتيش 5 قضايا إهدار لأموال الدعم؛ حيث استولى أصحاب مخابز على أكثر من 21 مليون جنيه من أموال الدعم خلال مدة لا تتجاوز 60 يوما.

هذه النوعية من القضايا -وتحديدًا الخاصة بتجميع المخابز للبطاقة التموينية- من الصعب ضبطها، خاصة في القرى والنجوع، إلا إذا كان هناك بلاغ محدد بمكان تجميع البطاقات، بحسب كيرلس جرجس، مدير الرقابة التموينية بإدارة بنها بالقليوبية، فبمجرد نزول الحملة ومعرفة صاحب المخبر بتواجدها في محيطه الجغرافي، يحرص على بيع العيش ببطاقات التموين وإخفاء البطاقات المجمعة، وفي الغالب يتفهم المواطنون المستفيدون ما يحدث ونادرًا ما يشتكي أحدهم، ولذلك فالنسبة التي تضبط لا تتجاوز 2% من عمليات سرقة الدعم من خلال ما يسمى بـ"الضرب الوهمي لبطاقات التموين"، وفقا لمدير الرقابة التموينية بإدارة بنها، الذي يؤكد أن جميع القضايا التي ضبطتها إدارته كانت "وشاية مُحكمة ضد صاحب الفرن ونتاج بلاغات دقيقة وتفصيلية".

وتُضبط مخالفات أصحاب المخابز عبر ثلاثة مصادر، يحددها طلعت حسن، وكيل وزارة التموين بالجيزة، في بلاغات جيران المخبز وزبائنه، والمراقبة العشوائية لـ"سيستم" منظومة الخبز، والحملات التموينية على المخابز.

6 آلاف مفتش تمويني بوزارة التموين مهمتهم الرقابة على 250 ألف منفذ لبيع السلع المدعمة بجميع محافظات الجمهورية، وتتنوع هذه المنافذ بين المخابز وبدالي التموين والجمعيات الاستهلاكية وغيرها؛ ما يعني أن كل مفتش تمويني يحمل ضبطية قضائية منوط به التفتيش على أكثر من 41 ألف منفذ.

ويرى "حسن" أن العجز في مفتشي التموين لا يؤثر في المنظومة الرقابية، لكن ما يحدث على أرض الواقع يشير إلى شيء آخر.

نصف قرن من "نهب" عيش الغلابة

قبل 6 أعوام، بدأت وزارة التموين والتجارة الداخلية التطبيق التدريجي لمنظومة الخبز الذكي، وتحديدًا في إبريل 2014؛ من أجل حل أزمة دعم رغيف العيش، التي وصفها مسئولوها، آنذاك، بـ"المزمنة".

فعلى مدار أكثر من نصف قرن -عمر منظومة العيش المدعم المطبقة منذ ستينيات القرن الماضي- لم تختفِ ثغرات إهدار الدعم منذ أواخر السبعينيات، حيث انتشرت ظاهرة بيع أصحاب المخابز للدقيق المدعم في السوق السوداء، بينما يتصارع مئات المواطنين أمام منافذ التوزيع للفوز برغيف العيش، وتفاقمت الظاهرة، وتصاعد الصراع في تسعينيات القرن الماضي وبداية ألفينيات القرن الحالي؛ ليصبح سقوط ضحايا أثناء محاولتهم الحصول على رغيف العيش أمرًا متكررًا.

ليأتي تطبيق منظومة الخبز الجديدة إلكترونيا من أجل سد ثغرات المنظومة القديمة، وأبرزها القضاء على طوابير الخبز، ووصول الدعم الذي يقدر بمليارات الجنيهات إلى مستحقيه، كما أعلن خالد حنفي، وزير التموين، وقتها. فكل مستحق للدعم أصبح لديه بطاقة تموين إلكترونية، تمكنه من الحصول على خمسة أرغفة يوميًا، مقابل خمسة قروش للرغيف الواحد، ويحصل البائع على 35 قرشًا من الحكومة باقي تكلفة الرغيف.

منذ تطبيق منظومة الخبز الذكي بشكل كامل على مستوى الجمهورية أواخر 2014، لم ترصد الأجهزة الرقابية بوزارتي التموين والداخلية أي عمليات إهدار للدعم بشكل منظم؛ لتكتشف في أغسطس 2017 ثغرات يستغلها بعض أصحاب المخابز للتسجيل الوهمي لصرف حصص الخبز للمستفيدين، لتبدأ الوزارة ممثلة في هيئة الرقابة التموينية في مواجهتها.

صاحب المخبز الذي يجمع بطاقات من المستفيدين والمواطن الذي يترك بطاقته التموينية لدى المخبز يخالفان ما ينص عليه القرار الوزاري رقم 156 لسنة 2018، والذي جاء ضمن الإجراءات الوزارية لمواجهة تجميع أصحاب المخابز البطاقات التموينية.

فالمخبز الذي يضبط متلبسًا بتجميع البطاقات يغرّم بضعف العائد الشهري الذي يحصل عليه من الحكومة، وفي حالة التكرار خلال ثلاثة أشهر تصل الغرامة إلى ثلاثة أضعاف الحافز الشهري، مع توجيه إنذار بإلغاء ترخيصه، وحال استمرار المخبز في تجميع البطاقات أو ضبطه مجددًا يُسحب الترخيص نهائيًا، بينما صاحب البطاقة الذي يتركها مع صاحب المخبز يوجه له إنذار بإلغائها، ولو تكرر ضبطها مرة ثانية تلغى نهائيًا ويخرج أفرادها من منظومة الدعم.


ورغم معرفة مدحت عبد الحميد بهذه العقوبة، يبرر ترك بطاقته التموينية مع صاحب المخبز بالمزايا التي يحصل عليها، والتي حددها بحفظ حصته من الخبز لاستلامها في أي وقت، وليس الالتزام بوقت محدد أو انتظار دوره، ويحصل على 25 قرشًا مقابل الرغيف الواحد من صاحب المخبز، إذا لم يحصل على حصته، بدلا من 10 قروش، تضاف لرصيده بالبطاقة كنقاط الخبز، يستطيع استبدال سلع تموينية بها، وفي المقابل يحصل صاحب الفرن على 35 قرشًا من وزارة التموين مقابل رغيف لن يخبز، ولم يصل كدعم للمواطن، بالإضافة إلى توفيره نفقات صناعة الرغيف.

ما يقوله مدحت دفعنا إلى خوض التجربة للتأكد من صدق ما يرويه، حيث عرضنا على صاحب المخبز -الذي نسّقنا معه عبر وسيط- تسليمه بطاقات أفراد من عائلة "محرر مصراوي"؛ ليعطي لنا مقابلًا ماديًا بدلًا من العيش، ويستعرض التسجيل الصوتي التالي تفاصيل الاتفاق الذي أجريناه مع صاحب المخبز المتواجد بقرية المجازر بمركز منيا القمح.

00:00

البطاقات التموينية التي جمعها أصحاب المخابز من الأهالي بالمخالفة للقانون يراها صاحب مخبر آخر بقرية الصنافين عملية رضائية، تحدث بموافقة الطرفين، المخبز وزبونه، ولا يعتبر ما يقوم به سرقة أو إهدارًا للدعم، رغم ذلك يتعامل بحذر حتى لا يتعرض لعقوبات وزارة التموين.

فعلى مدار أكثر من ثلاث سنوات، لم تستطع وزارة التموين وهيئتها الرقابية السيطرة على عمليات تسجيل صرف الخبز المدعم لمستحقيه والقضاء على مافيا التلاعب بأموال الدعم، واستمرت العلاقة بين الطرفين كالقط والفأر، تقل مؤقتًا كلما اشتدت قبضة الوزارة، وتتزايد كلما عجزت الوزارة وأجهزتها الرقابية عن كشف الطرق والأساليب الجديدة التي يبتكرها أو يتبعها أصحاب المخابز؛ لتحقيق مزيد من الربح على حساب إهدار أموال الدعم ومستحقيه.

رحلة بحث وتقصٍ من خلال تجارب ميدانية، لرصد بعض الأساليب والحيل التي يلجأ إليها أصحاب مخابز للاستفادة من أموال الدعم، فعبر وسيط من "أهل الكار" كما يُعرف مجتمع الصنايعية بالمخابز، تمكن "محرر مصراوي" من الحصول على فرصة عمل كـ"مساعد عجان" بمخبز عيش بلدي بقرية الزنكلون التابعة لمدينة الزقازيق بالشرقية، حيث يبدأ العمل الذي يستمر على مدار ثماني ساعات يوميًا في الواحدة صباحًا، بوصول "العجان" ومساعده.


بدأنا بتفريغ ثلاث شكائر دقيق في "الحلة" في إشارة إلى جهاز العجان "نصف الآلي"، يضاف إليها الخميرة، ثم المياه تدريجيًا، يحرك الصنايعي ذراع العجان بيمينه، قبل تشغيل الجهاز آليًا لمدة 15 دقيقة؛ لينقل بعدها العجين إلى وعاء التقطيع "الخارطة"، وباحترافية يقبض الصنايعي بيمينه مقتطعًا من العجين قطعًا صغيرة كروية الشكل، ويرصها على طاولة خشبية مفروشة بـ"الردة"، توليت فردها برفقة مساعد العجان على الطاولات التي نرفعها مجددًا بمجرد تعبئتها، كل واحد منا يرفع طاولة بالتناوب، وهكذا حتى تنتهي كمية العجين، التي تترك في الطاولات لعملية التخمير استعدادا للتسوية بالفرن.

نكرر نفس الخطوات السابقة حتى الانتهاء من عجْن 17 شيكارة دقيق، رغم أن بيانات مكتب التموين بالزنكلون تقدر حصة المخبز اليومية من الدقيق بـ22 شيكارة، ما يعني وجود 5 شكائر لم تعجن، وبالتالي لن تخبز، هذا الوضع لم يتغير على مدار الأسبوع الذي عملت فيه بالمخبز.

وثق "محرر مصراوي" فترات عمله التي امتدت على مدار 7 أيام، بكاميرا الهاتف التي وضعها بأحد الأركان؛ واختلف مكان الهاتف من يوم إلى آخر، بهدف رصد كل ما يدور في المكان على مدار ساعات العمل داخل المخبز بقرية الزنكلون بالشرقية، وبعد مرور ساعتين على ما يسميه العاملون "أول عجنة"، يبدأ في الرابعة صباحًا إشعال نار الفرن الآلي؛ لتسخين السير استعدادًا لتسوية العيش، ومعه تأتي المهمة الثانية من عملنا -أنا ومساعد العجان؛ حيث نعمل معًا- بنقل طاولة تلو أخرى؛ لنضعها أمام صنايعي الفرن "القراص" الذي "سيفرد الرغيف ويضعه على سير الفرن"؛ ليستقبله عامل "التهوية" في الجهة الأخرى من الفرن، حيث يجمع ويرص العيش في صورته النهائية على أقفاص مصنوعة من جريد النخل استعدادًا لبيعها.

sample58
sample58
sample58
sample58
محرر مصراوي أثناء عمله بأحد المخابز بقرية الزنكلون التابعة لمدينة الزقازيق بالشرقية

حصة الدقيق المخصصة للمخبز يحصل عليها صاحبه من مطحن الدقيق الحكومي بالزقازيق كل ثلاثة أيام، تنقلها سيارة نصف نقل مجمعة "66 شيكارة"، منها 15 شيكارة لا تخبز وتباع دقيقًا، فخلال أسبوع عملي -من الاثنين 22 إلى الأحد 28 فبراير- جاءت حصة الدقيق مرتين، الأولى كانت مساء يوم الاثنين، والثانية صباح يوم الأحد.

اختلفت الطريقة التي ينقل بها صاحب المخبز الدقيق المستقطع من حصته في المرة الأولى عن الثانية، ففي الأولى -كما تتبعها، ووثقها "محرر مصراوي" بكاميرا هاتفه- توقفت السيارة أمام منزل على أطراف القرية التي تقع وسط ظهير زراعي، وأنزل سائقها 15 شيكارة، واستكملت طريقها إلى المخبز، وهناك فرغت حمولتها التي تقدر بـ51 شيكارة.

وبالسؤال عن المنزل الذي خُزن به 15 شيكارة، أكد جيرانه ملكيته لتاجر -نتحفظ على ذكر اسمه- يمتلك محلًا لتجارة الحبوب والعطارة بوسط القرية.

بينما في المرة الثانية التي كانت صباح يوم الأحد، 28 فبراير، تحركت السيارة بنفس الحصة من المطحن إلى المخبز مباشرة، وهناك فرعت حمولتها كاملة، وشاركت -عاملًا- بالمخبز في تنزيلها برفقة اثنين من العاملين، وعقب الانتهاء من تفريع حمولة السيارة، طلب منا صاحب المخبز نقل 5 شكائر إلى منزله الملاصق للمخبز، والذي يمكن الدخول إليه من باب فرعي داخلي، بعيدًا عن المدخل الخارجي لكل من العقار والمخبز، وفي نهاية اليوم الثاني طالبنا بنقل 5 شكائر أخرى إلى المنزل.

سوق سوداء


دقيق الخبز المدعم والمعروف بـ"دقيق 82" مخصص للمخابز البلدية ومحظور تداوله خارج منظومة وزارة التموين، وفقًا لقرار وزاري صادر في يونيو 2014، لكن بعض أصحاب المخابز يفضلون بيع الدقيق في السوق السوداء بدلًا من خبزه؛ لتحقيق مكسب مضاعف من أموال الدعم، كما وثقنا بالصوت والصورة بأحد مخابز قرية الزنكلون بالشرقية، وهو ما تؤكده بيانات الضبطيات الصادرة عن وزارة التموين، لكن عملية بيع الدقيق في السوق السوداء تختلف حسب مصدره؛ حيث يباع بطريقتين، الأولى -وتعتبر الأكثر انتشارًا في القرى والنجوع، كما رصدناها بقرى الصنافين والزنكلون ودقادوس بمحافظتي الشرقية والدقهلية- تنحصر في دائرة المعارف والمقربين وأهل الثقة لدى البائع، سواء كان البائع صاحب مخبز أو تاجر دقيق.

custom-preview

بينما الطريقة الثانية يعاد فيها تدوير الدقيق المدعم، بهدف فصل الدقيق عن الردة وإعادة تعبئته بعد التخلص من الشيكارة الخضراء المميزة للدقيق الحكومي ولونه الغامق، لكي يباع مجددًا لأصحاب المخابز السياحية.

كما تتبع "مصراوي" رحلتها؛ حيث يجمع التاجر الدقيق من أصحاب المخابز، وينقله إلى مخزنه الذي يوجد داخله مطحن دقيق آلي يُستخدم في غربلة الدقيق، ووثقنا بالكاميرا سيارة تفرغ حمولتها من الدقيق المدعم المميز بالشيكارة الخضراء، وسيارة ثانية في اليوم التالي تحمل الدقيق بعد إعادة تدويره استعدادًا لبيعه لأصحاب المخابز السياحية.

ضبط سيارة محملة 55 شيكارة دقيق مدعم أثناء محاولة تهريبه

صباح الجمعة الأخير من فبراير 2021، أوقفت لجنة تفتيش بإدارة تموين منيا القمح سيارة ربع نقل محملة بـ55 شيكارة دقيق مدعم، على طريق الميمونة المؤدي إلى قرية "سنيطة أبو طوالة"، ورفض سائقها التوقف محاولا الهروب، لكن الحملة التموينية أجبرته على التوقف، كما يقول على عبد المحسن، مدير إدارة تموين منيا القمح، الذي قاد الحملة التي تحفظت على الدقيق والسيارة وسائقها بمعرفة شرطة التموين، وتحرر محضر بالواقعة يحمل رقم 981 لسنة 2021، تقول فايزة عبد الرحمن، وكيل وزارة التموين بالشرقية، إن تحرك الحملة جاء بناءً على بلاغ من شخص مجهول يؤكد تعبئة سيارة نقل بالدقيق من مخبز بلدي بمنيا القمح.

سمسار العيش


بالتزامن مع تسوية الخبز وعملية رصه على "أقفاص"، تبدأ عملية البيع بالمخبز الذي يحصل محمد دياب منه على حصته بقرية الصنافين، ففي السادسة صباحًا يتوافد الزبائن بأعداد محدودة، يتنوعون بين من يتسلم حصته من الخبز ببطاقة التموين وآخرين يأخذون حصصهم بدون بطاقات تموينية، وثالثهما زبون دائم في هذا التوقيت، كما يحكي محمد دياب وأبوزيد محمد، اثنان من زبائن المخبز وجيرانه، وهذا الأخير الذي يأتي بـ"تروسيكل" يعرف بين العاملين بالمخبز الذي يعتبر أحد أقدم ثلاثة مخابز بالقرية بـ"سمسار العيش"، يجمع البطاقات التموينية من أصحابها، بالتنسيق مع صاحب المخبز، ويتسلم حصصهم من الخبز، ويوصلها إليهم بمنازلهم، مقابل حصوله على نصف حصصهم من الخبز يوميًا أو يتقاسمها معهم أسبوعيًا "4 أيام للأسرة و 3 أيام له".

أحد هؤلاء السماسرة، الذي يجمع بطاقات عدد من أهالي قريته يعتبر ما يفعله أمرًا طبيعيًا "ده أكل عيشي وأنا مش بسرق حاجة الناس بتبقى موافقة وأنا بقدم لهم خدمة، بوصل لهم العيش لحد باب بيتهم"، ولا يقتصر تجميعه للبطاقات على تسلم حصصهم من الخبز، بل أحيانًا يتسلم حصصهم التموينية من البدالين لمن يرغب منهم؛ لتوصيلها لهم مقابل حصوله على فارق نقاط الخبز إذا كانت بها نقاط أو جزء من السلع: "ممكن آخد كيلو سكر أو إزازة زيت"، لذلك يسلم السمسار البطاقات لصاحب المخبز أول يوم في الشهر؛ ليتولى تسجيلها يوميًا على السيستم، ويأخذها يوم 28 في الشهر، لكي يتمكن أصحابها من صرف سلعهم التموينية أو يصرفها هو نيابة عنهم ويوصلها إليهم.

something
سمسار أثناء توزيع العيش المدعم
something
ضبط سيارة محملة أثناء نقلها لعيش مدعم لبيعه في السوق السوداء

سيارة ربع نقل بدون لوحات معدنية محملة بـ3500 رغيف خبز بلدي مدعم، أوقفتها لجنة من مديرية التموين بالشرقية، بأحد شوارع مدينة هيهيا، صباح الاثنين 9 مارس الحالي؛ أثناء بيعها في السوق السوداء، وفقًا لمحضر رقم 360 لسنة 2012 جنح، الذي يعترف فيه سائقها بالمخبز الذي أخذ العيش المدعم منه لبيعه للمطاعم وباعة العيش في الأسواق الشعبية.

سمسار العيش مهنة لم تكن موجودة قبل عام 2014، وبدأ ظهورها بعد تطبيق منظومة الخبز الجديدة، وانتشرت في معظم المحافظات تدريجيًا منذ عام 2017، خاصة في المناطق الشعبية والقرى، وفقًا لعطية حماد، رئيس شعبة المخابز بغرفة القاهرة التجارية، الذي يراها إحدى الثغرات التي تتسبب في إهدار أموال الدعم بمشاركة ثلاثية من المستفيد والمخبز والسمسار.

رصيد للبيع


ذهب "محرر مصراوي" إلى صاحب المخبز المتواجد بقرية "المجازر" من أجل تسليم البطاقات التموينية الخاصة بأسرته إلى صاحبه، محاولًا التفاوض معه للحصول على سعر أعلى؛ ليؤكد صاحب المخبز "أنا مديك أعلى سعر"، ولتأكيد ما يقوله وقطع الطريق على محاولتنا طلب سعر أعلى، رد قائلا: "هات تليفونك علشان مش معايا رصيد"؛ ليجري مكالمة -سجلها هاتفي المفعل عليه خاصية التسجيل التلقائي بدون التخطيط لذلك- مع صاحب مخبز آخر بقرية المجازر آخر قرى مركز منيا القمح بالشرقية؛ لتكشف هذه المكالمة بالمصادفة تفاصيل لم نعرفها عن ظاهرة ما تعرف "ببيع الرصيد بين أصحاب المخابز".

في أحد المخابز بقرية دقادوس التابعة لمركز ميت غمر بالدقهلية، كررت تجربة العمل، فعلى مدار ثلاثة أيام كان الفرن يخبز حصته من الدقيق المقدرة بـ17 شيكارة كاملة، بواقع 12 ألفًا و325 رغيفًا، ولا يكتفي بإنتاج حصته من الخبز، بل يشتري 10 شكائر من الدقيق المدعم بسعر السوق السوداء من مخابز أخرى لا تخبز حصتها كاملة من الدقيق، وينتج بهذه الكمية الإضافية 7 آلاف و250 رغيفًا؛ ليكون إجمالي ما خبزه في هذا اليوم -الأربعاء 3 مارس الحالي- 27 شيكارة، تنتج 19 ألفًا و575 رغيفًا، يسجل حصته اليومية التي تقدر 2465 فردًا على سيستم منظومة الخبز من خلال ماكينته، بينما العيش المخبوز من الدقيق الذي اشتراه من السوق السوداء، ومقداره 1500 رغيف، يتفق مع مخبز آخر بمدينة ميت غمر التي تعتبر القرية امتدادًا لها ويفصل بينهما خط السكة الحديد، على بيعها رصيدًا له، بمعنى أن يسجل هذه الكمية وهميًا كنقاط خبز على سيستم المنظومة من ماكينة المخبز الذي سيشتريها، فالبطاقات التموينية التي يوجد بها رصيد نقاط خبز ألف رغيف تباع بـ300 جنيه، ويكون مكسب صاحب المخبز الذي باع الرصيد 110 جنيهات في كل ألف رغيف، بخلاف العيش الذي يباع في المطاعم بالسعر التجاري. بينما صاحب المخبز مشتري رصيد النقاط يكسب توفير نفقات التشغيل وبيع جزء من حصته من الدقيق.

أرباح بيع العيش الوهمي دون خبز فعلي

عيش بالطلب


بقرية طه شبرا، التابعة لمركز قويسنا بالمنوفية، رصدنا نموذجًا آخر للمخالفات التي يرتكبها أصحاب المخابز، وتتسبب في إهدار أموال الدعم وعدم وصوله إلى مستحقيه، حيث يوجد ثلاثة أفراد من أسرة واحدة "الأب والأم والابن"، "الأب والأم" لديهما رخصتان لمخبزي عيش بلدي مدعم، الأولى باسم الأب الذي يصرف 21 شيكارة، والثانية باسم الأم، وتصرف 20 شيكارة، بينما ثالثهما "الابن" يمتلك رخصة "بدال تمويني"، كان حصولهم على الترخيص قبل صدور قرار وزاري عام 2013، يمنع صدور رخصة لمن له قريب حتى الدرجة الثالثة يمتلك رخصة تموينية أو خبزًا مدعمًا.

مخبزا الأب والأم متلاصقان، وتخبز حصة الدقيق المخصصة لكل منها في مخبز واحد، وفقًا لرواية أحد العاملين بالمخبز "41 شيكارة بتطلع من سير واحد في معظم الأيام"، والبطاقات التموينية التي يجمعانها ويخيران أصحابها بين توفير حصة الخبز أو استبدال السلع التموينية بها إن رغبوا، كما يقول حسن دياب أحد أصحاب البطاقات التموينية الذي ترك التعامل مع المخبز، بسبب خصم صاحبه 10 جنيهات فرق ما يسميه السلع التموينية، بادعاء توفير منتجات تموينية أكثر جودة من المتاحة على البطاقات التموينية "الزيت بيكون إزازة مختلفة وصافية، والسكر أبيض مش غامق".


وينفي عامل الفرن بيع المخبز الدقيق في السوق السوداء، حيث ينتج المخبزان من خلال فرن واحد يوميًا 29 ألفًا و725 رغيفًا، وفقًا لتقديره، وهو ما تؤكده بيانات مديرية التموين بالمنوفية، في حال التزامه بالموازين الرسمية للرغيف.

الوزن الرسمي لرغيف الخبز 90 جرامًا، لكن الرغيف الذي يبيعه الأب يتراوح وزنه بين 75 و80 جرامًا، وهو ما يمكن اكتشافه من خلال وزن 5 أرغفة معًا على الميزان، فبدلا من 450 جرامًا لكل 5 أرغفة، يتراوح وزنها بين 375 جرامًا و400 جرام.

ويقول العامل بالمخبز إن تخفيض وزن الرغيف لا يحدث بصفة دائمة أو عشوائية، لكن وفقًا لمعيارين، الأول الحملات التموينية، ففي الفترات غير المعتادة للحملات التموينية، ومنها الساعات الأولى لبداية توزيع العيش، ويحرص صاحب المخبز على وجود طاولات عجين "العيش اللي فيها بيكون بوزنه الطبيعي، وبنستخدمها لو حصل تفتيش فجأة".

بينما المعيار الثاني احتياجات الزبائن المتنوعة والتي تختلف من زبون لآخر، فأصحاب المحال والمطاعم الذين يشترون حصص العيش التي لا يتسلمها أصحابها، مفضلين عليها السلع التموينية، ويبيعها صاحب المخبز لهم بالسعر التجاري كمحال الفول والطعمية: "بيحتاجوا عيش عادي أو وزن ناقص، على عكس مطاعم الفراخ المشوية أو الكبابجية بياخدوا عيش كبير وبيتعمل لهم مخصوص". وهو ما دفعنا إلى تأكيد ما يرويه العامل من خلال الشراء من صاحب المخبز الذي طلبنا منه خبزًا مخصوصًا "الرغيف برغيفين" واستجاب له مقابل الحصول على جنيه للرغيف الواحد.

ووفقًا لأرقام وزارة التموين، فإن عدد قضايا نقص الوزن، التي ضبطت خلال العام الماضي 76 ألفًا و599 قضية، بينما قضايا الوزن الزائد تقدر خلال العام نفسه بـ575 قضية.

على مدار 7 سنوات، طبقت خلالها منظومة الخبز الذكية، بهدف وصول الدعم إلى مستحقيه والقضاء على طوابير الخبز.. وغيرها من ثغرات المنظومة القديمة التي كانت تدار بمعرفة مافيا سرقة الدعم، ورغم نجاح المنظومة الجديدة في القضاء على طوابير العيش، فإنها فشلت في القضاء على مافيا الخبز الذين لجأوا إلى توظيف أساليب جديدة، كشفنا بعضها، ورصدنا بالأرقام مؤشرات عن مكاسب تقدر بالملايين، يحققها لصوص الدعم، وتخسرها الدولة، ولا يستفيد بسببها مستحقو الدعم، وهو ما لم تقم بنفيه وزارة التموين على لسان وكيل الوزارة بالجيزة طلعت حسن الذي أكد أن الوزارة لا تتوقف عن ملاحقة هؤلاء اللصوص.

لكن الحلول الجذرية، بحسب "طلعت" مثل تغيير المنظومة المطبقة حاليا كمقترح الدعم النقدي المشروط يحتاج إلى دراسة متأنية وحوار مجتمعي، لنتفادى العثرات التي تنتقل وتتطور مع أي منظومة جديدة.

تحقيق: محمد سامي

جرافيك: أحمد ياسين

تنفيذ وتصميم: محمد عزت

إشراف عام: علاء الغطريفي

تنويه:

- الصور التي لا يوجد أسفلها تعليق صور توضيحية من أحد المخابز وليس لها علاقة بالتجاوزات التي رصدناها.

- إخفاء هوية جميع الأشخاص أثناء التوثيق بالموبايل من أجل الحفاظ على خصوصيتهم.